ماذا يفعل الانسان عندما يجد أن القيم قد فقدت قيمتها، بعد أن كانت حية ومؤثرة علي عهد الأجداد والاسلاف؟ وكيف يتصرف وهو يري حضارته المأزومة تتحشرج في صدرها الأنفاس الاخيرة، ويتزاحم عليها النمل والسوس الذي ينخر في أصلها وجذورها، والجراد الذي يلتهم الخضرة من فروعها وأوراقها. فلا تملك الطيور المبدعة إلا أن تهجر الأعشاش التي بنتها، وتأوي يائسة أو مترفعة إلي حزنها وصمتها؟ وعندما ينظر هذا الانسان الذي تحول إلي شاهد أمين علي زمنه وأهله فتهوله الإضرابات والخلل في كل شئ ويفزعه خلو الساحة لعقارب الخسة والغدر وقرود الوصولية والانتهازية، ولا يبقي أمامه إلا أن يصرخ ويحذر وينذر، أو يسقط في الهاوية التي تتعطل فيها إرادة الحياة، وتشل القدرة علي الاختيار والمبادرة والفعل الحر؟ وهل نعجب عندئذ حين نجده غارقا في القنوط والتشاؤم، أو سادرا في العبث والسخرية، أو فاتحا ذراعيه لاحتضان الموت الذي يتلمس فئة المعني الاخير بعد أن غاب المعني عن كل شئ ؟ السطور السابقة مضمون نص مذهل ومحير أنحدر إلينا من بابل القديمة (نحو الألف الاول قبل الميلاد) وتذكرته وأنا أتأمل الساحة الآن فقد فقدنا القيم في حياتنا اليومية ولم يعد هناك ما نحترمه او نجله وانزوي الكبار أو من نقدرهم خوفا من فقدان قيمتهم في ظل عشوائية الحرية التي نعيشها الآن وأصبح الصراخ وأصحاب الصوت العالي هم أصحاب القرار وحدهم، لنقضي علي أصحاب مصالح خاصة ليتلقفنا الألوف من أصحاب المصالح، وكأن ماحدث وضحي من ضحي جاء من هم يجنون المغانم والمكاسب. ويصبح الصمت هو السبيل أمامنا ازاء ما يحدث لأن حديثك سيتناول إما أن تنحاز إلي فئة أو تكون ضد فئة أخري أو أن آرائك تعبر عن زمن ولي وانتهي، فلا تملك في مثل هذه الأجواء سوي الصمت متحسرا علي ما يحدث منساقا لما يريدونه من هم يملكون الغلبة والسيطرة ولا تملك في هذه الحالة إلا أن تسترجع كلمات شكسبير في رائعته هاملت في مشهد المقابر (اصعد فوق أكوام الخرائب وتمش هناك وانظر لجماجم الأعلين والأدنين، من كان الظالم منهم ومن المظلوم؟ من الشرير أو الخير؟ إنهم جميعا منسيون في مدن منسية وستصبح بعد أجل يطول أو يقصر واحدا منهم، فلماذا تعذب نفسك باللهاث وراء لذات لن تعقب غير الألم والندم). إلا أن المفارقة الكبري التي نعيشها أن التشاؤم الذي خيم علي الأغلب منا قابله أيضاً سخرية من الأوضاع السائدة فحدث توافق غريب بين الحزن والمرح في آن واحد لتصبح السخرية جزء لا يتجزأ من روح الشك والتشاؤم والكآبة التي طغت علي حياتنا الآن، وتباري الجميع خروجا من الأزمة التي لم يكن لهم دخلا بها في التنكيت والهزل، وإن كان ذلك يعكس مدي الحالة النفسية والمزاجية التي أصبح الجميع فيها والتي قد تنذر بأمور تصل لحد الانفجار بعد لحظات سكون طويلة للأكثرية التي طالها الانتقاد عبر سنوات طويلة لسكونها وتوقعها واكتفائها بمصمصة الشفاة والتحسر علي الأوضاع. وربما يكون الأمل في جيل قادم يستطيع حمل الراية وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، جيل يعيد البناء من جديد ويبث الحياة في أمور كثيرة احتضرت ولا نملك إلا أن ننتظر هذا الجيل أو ننتظر قائدا ينتشلنا ويعيدنا الي الصراط المستقيم. خاصة في ظل الارتباك والتداخل والتنازع علي الساحة الآن بين فصائل عدة يغتنمون الفرصة بسقوط نظام ليحاولون أن يحلوا محل من سقط بنفس طريقته وسياساته تارة بالجمع بين السلطات أو بالمنع والحجب لفصائل تحت إدعاءات مختلفة، أو الهيمنة علي عقول المواطنين باستخدام الدين للوصول إلي المآرب السياسية، وكأن مصر أصبحت بشعبها إمارة لهم. لقد تناسينا التاريخ وفقدنا القدرة علي القراءة الجيدة للأحداث وتركزت البصيرة في اتجاه واحد وتناسي الجميع أن هبة الشعب قادمة حتي ولو طالت بعض الوقت.