من المعروف أن وسائل الإعلام في أي مجتمع تعكس واقعه. التليفزيون هو أكثر وسائل الإعلام تأثيرا في المجتمع كما هو معروف. لذا من السهل ملاحظة تدهور الواقع عما كنا عليه من خلال شاشة التليفزيون. منظومة القيم التي كانت محترمة في مجتمعنا تراجعت كما نري علي الشاشة. ويمكن ملاحظة الأمر نفسه من خلال ما تنشره الصحف وإن بدرجة أقل . هكذا بدلا من أن تكون وسائل الإعلام أدوات تنوير أمست كثير من هذه الوسائل أدوات »تظليم« تشارك بهمة ونشاط في مزيد من تدهور الحال بوعي أو بغير وعي، بحسن نية أو بسوئها، بعلم أو بجهل المسئولين عنها والمسئولين فيها. ونحن نودع شهر رمضان، ونستقبل عيد الفطر وكل عام وأنتم بخير، دعتني مشاهدة ما قدمته عدة قنوات تليفزيونية مصرية في هذا الشهر إلي تذكر بعض مما شاهدته في قنوات التليفزيون في مثل هذا الشهر خلال سنوات ماضية. وخطرت لي فكرة هي قيام اتحاد الإذاعة والتليفزيون بالتعاون مع قسم الإذاعة والتليفزيون بكلية الإعلام بجامعة القاهرة، أو المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية بصفته مركزا علميا معنيا، بدراسة علمية مقارنة بين ما كانت تبثه قنوات التليفزيون من برامج ومسلسلات في شهر رمضان علي مدي زمني محدد. وليكن شهر رمضان في بداية كل عقد منذ بدأ إرسال التليفزيون المصري في 21 يوليو عام 1960. أي شهر رمضان واحد كل عشر سنوات. فتشمل الدراسة العلمية خمسة أشهر رمضانية من عقد الستينيات في القرن الماضي إلي شهرنا هذا الذي سينتهي بعد يومين . ويمكن أن تكون الدراسة العلمية أكثر وضوحا أقوي دلالة بالطبع إذا جعلنا مدة الدراسة كل خمس سنوات لا عشرة. فتشمل في هذه الحالة عشرة أشهر رمضانية. كما أن هذه الدراسة تأتي في مناسبة احتفال التليفزيون المصري بمرور خمسين عاما علي بدء إرساله. ومن هنا تكون هذه الدراسة، في نظري، هي أهم عمل قام به التليفزيون في هذه الذكري . لأن هذه الدراسة سوف تحقق عدة أهداف، منها: مراجعة لمضمون وشكل المواد التي قدمها التليفزيون علي مدي تاريخه في أكثر شهور السنة اهتماما بالتلفزيون . فشهر رمضان بالذات أكثر الشهور توضيحا للمقارنة. دراسة العلاقة بين ما بثه التليفزيون من مواد وبين الواقع الذي من المفترض أن يعبر عنه التليفزيون ويستمد منه مواده. والتأثيرات المتبادلة بين الواقعين: الواقع المعيش ، والواقع المصور. توضيح التغيرات التي جرت علي المجتمع المصري بطبقاته وفئاته المختلفة كما عكسها التليفزيون. توضيح تعامل التليفزيون مع شهر رمضان بخصوصيته الدينية والروحية. وتحليل هذا التعامل بما يوضح أيضا تعامل المصريين مع هذا الشهر. من نافلة القول أن تفيد هذه الدراسة في التخطيط والإعداد للمواد التليفزيونية في المستقبل بما يصحح كل ما قد تظهره الدراسة من أخطاء. سوف تثبت هذه الدراسة أننا نأخذ بالمنهج العلمي وبخاصة في واحدة من أهم وسائل صياغة وتوجيه الرأي العام. أتصور أن مثل هذه الدراسة لن تكون إعلامية فقط، ولكن اجتماعية نفسية أيضا، بمعني مشاركة علماء وخبراء الإعلام مع زملائهم من علماء الاجتماع وعلم النفس بفروعهما الإعلامية والاجتماعية. ويمكن الاستعانة بالطبع بالمادة الصحفية الغزيرة التي تنشر تعليقا أو تحليلا لما يقدمه التليفزيون خلال شهور عينة الدراسة. فشهر رمضان هو أكثر الشهور التي يكتب فيها المتخصصون وغير المتخصصين عن التليفزيون. حتي تبدأ هذه الدراسة، إذا بدأت ، يمكنني كآخرين أن أدلي بدلوي فيما لاحظته علي ما قدمته بعض القنوات التليفزيونية المصرية في رمضان الحالي: - اختارت إحدي هذه القنوات شهر رمضان لتعرض علينا قيما مضادة لقيم هذا الشهر. فبينما تعلمنا هذه القيم مثلا عفة اللسان والتراحم وعدم الاغتياب، عرضت علينا حوارا عن الكبت الجنسي عند هذه واتهام بالفجور عند تلك. والمتحدثتان من مشاهير المجتمع وفناناته. كلام لم نسمعه قبل رمضان، فكيف نسمعه في رمضان؟ وشاهدنا برنامجا تليفزيونيا آخر كل هدفه أن يسلط فنانا علي فنان آخر للسخرية منه. ويدفع المنتج مالا للاثنين كي يبهدلا بعضهما أمام الناس، وبمساعدة مذيعة سمينة لا علاقة لها بفن الإذاعة، وليعترف كل واحد أنه دبر مقلبا في الآخر.. هكذا ينشر التلفزيون ثقافة »المقالب« بين المشاهدين وبخاصة الأطفال والشباب منهم. يتعلمون أن الحياة »مقالب«. ولا يجد التليفزيون شهرا أكثر مناسبة من رمضان لعرض مسلسل تقوم حلقاته علي تشجيع سيدة »غلبانة« للعمل في كباريه! يختار لها كاتب القصة العبقري وظيفة حارسة منزل »بوابة«. وأنا لا أعرف أن هناك »بوابات« في مصر. بينما رأيت »بوابات« في باريس مثلا. لكن التليفزيون الفرنسي لم يعرض، علي حد علمي، مسلسلا يتحدث عن تحول »بوابة« فرنسية للعمل في كباريه. فهل هذه هي »الريادة«؟ كذلك لم يجدوا شهرا آخر غير رمضان ليذيعوا مسلسلا »ينشر عرض« بنات بلد عربي معين، وكأن باقي البلاد العربية ليس فيها إلا العفيفات المحصنات! أنا لا أقوم بجرد ما بثته قنوات التليفزيون، لكني أذكر أخيرا أنني فوجئت بما لم أكن أتوقع: برنامج يقدمه زميل محترم اشتهر بمواقفه السياسية المعارضة التي أوصلته إلي باب السجن ولم يسجن بسبب عفو رئاسي. لم يجد هذا الزميل المحترم اسما آخر لبرنامجه سوي كلمة »حمرا«. يعلم الزميل كما يعلم مشاهدوه أن هذه الكلمة بالتناول الذي يتناوله برنامجه مع ضيوفه يعني الكلمة الثانية من تعبير عامي من كلمتين، وهو تعبير غير مهذب يستخدمه من نصفهم بالعامة والدهماء. لاحظت أن مقدم البرنامج وضيوفه يستخدمونه بمعناه العامي ويتجنبون ذكر كلمته الأولي. لكن المشاهد يتذكر هذه الكلمة فور النطق بالكلمة الثانية: »حمرا«. فهل هذا فن جديد يقدمه التليفزيون باستخدام كلمة لا تعترض عليها الرقابة للإشارة الي تعبير »قليل الأدب«؟ هل هذا الاستخدام الجديد يدخل ضمن »الريادة« أيضا؟ هكذا.. اختلط الحابل بالنابل. من المحترم ومن غيره ؟ ما المحترم وما غيره؟؟ يعبر هذا الاختلاط علي الشاشة الصغيرة عما يجري من فوضي في الواقع الكبير. كتب غيري وكتبت من قبل عن إهمال وإهانة اللغة العربية علي شاشات التليفزيون . لاحظت في شهر رمضان الحالي أن قنوات التليفزيون قد زادت من إهمالها وإهانتها للغتنا العربية ، فكانوا يكتبون كلمة »التتر«، بمعني المقدمة ، وأصبحوا يكتبون »فنون التترات«. وكانوا يكتبون كلمة »إنتاج« وأصبحوا يكتبون كلمة producer بالإنجليزية الخ. لا أريد أن أنزلق الي مزيد من الأمثلة في شهر حولناه من شهر الصيام والعبادة إلي شهر التليفزيون. حتي أن قناة خاصة نشأت خصيصا ولا تظهر إلا في شهر رمضان فقط. كما ساعد علي هذا التحول بلا شك زيادة عدد القنوات التليفزيونية الخاصة وزيادة حمي المنافسة بينها. بهذه المناسبة يعن لي سؤال: لماذا لا يستعين المسئولون عن التليفزيون عندنا بمصححي لغة عربية وبمستشارين نفسيين وأساتذة في الإعلام لكي يساعدوا أصحاب هذه القنوات سواء كانت الدولة أم القطاع الخاص علي تجنب التأثيرات الضارة للتليفزيون علي المشاهدين وبخاصة الأطفال منهم والشباب؟ لكن هذا لن يحدث. لأنه ضد قوانين غير مكتوبة نعيشها. من هذه القوانين عدم جدوي الكتابة للمصلحة العامة.