منذ سنوات ليست بعيدة كنا نناقش قضية العنف في برامج الأطفال وفي السينما والدراما التليفزيونية. كنا ننادي بخفض جرعات العنف في تلك البرامج التي هي قائمة علي الخيال والإبداع. غير أن بعض الفضائيات المصرية قد بلغت في احترام الحقيقة وتبجيل الواقع شأوا بعيدا وذهبت في حرصها علي الحقيقة وإبرازها نهاية المدي. فقد ضاقت تلك القنوات بمشاهد العنف المصنوع في أعمال السينما والدراما التلفزيونية وقررت النزول إلي الشارع حيث القاتل والقتيل شخصيات حقيقية, والدماء التي تتدفق من الضحايا دماء بشرية والحكاية وراء كل جريمة مستمدة من واقع معاش لاتزال بعض شخصياتها تسعي في دروب الحياة. علي شاشات التليفزيون في مصر عرضت بعض القنوات الخاصة كيف ذبح جزار شابين مصريين ذبح الشاه, وشاهد الناس الدماء تتدفق من الضحيتين فيما كان المارة في الشارع غير مكترثين بما يقع. وعلي شاشات التلفزيون ايضا قتل خمسة أشقاء شابا ومثلوا بجثته وسحلوه في الشارع. وعلي شاشات التليفزيون ايضا لقيت جريمة مقتل الشاب المصري في لبنان اهتماما يفصل بالصور مراحل الهمجية في القتل والانتقام. ولقي قتيل في الإسكندرية من التليفزيون اهتماما يحكي بالصورة كيف تم التمثيل بجثته. ومن قبل هؤلاء جميعا عرفنا من التليفزيون كيف قتلت سوزان تميم بالتفصيل ورأينا صورها وهي مقتولة, وأبدعت قنوات التليفزيون في استعادة تصوير مسرح جريمة اغتيال الفتاتين هبة ونادين. وحينما تضيف قنواتنا الفضائية هذا العنف الواقعي إلي قائمة اخري من أحداث العنف الحقيقية التي نتعرض لها في ساعات المساء عبر نشرات الأخبار, حيث تنتشر الدماء وتتناثر الأشلاء في الحروب والكوارث الطبيعية, وحين تأتي برامج المصارعة بالكثير من العنف والدماء, وتلاحقنا السينما بالمزيد من أعمال العنف والجريمة, فإن السؤال الذي يبقي بلا إجابة هو كيف يمكن لأي شخص يتعرض لهذا الكم من العنف أن يبقي علي القليل من الاحترام للحياة الإنسانية. ويبدو أننا بهذا العبث الإعلامي قد دخلنا دائرة جهنمية لن ينجو منها أحد. فنحن نصنع في اذهان الناس واقعا مريضا سوف ينتج أناسا أشد مرضا ليصنعوا الواقع الأسوأ وهكذا. ما الذي يفيد قناة تليفزيونية من مثل هذه الوحشية في عرض مشاهد الجريمة وانتهاك حرمة الجسد البشري. ربما تحصل علي شيء من الإثارة الرخيصة ولكنها تجني علي مجتمع بأسره وتفسد تلك الروح الوادعة التي ميزت المصريين وقلصت معدلات الجريمة بينهم علي مر تاريخهم. فالثقافة المصرية لقرون طويلة ظلت كما وصفها الكاتب الإنجليزي المعروف آرثر مي في دائرة المعارف البريطانية' كانت هناك في مصر جماعة بشرية اخري تحيا حياة إنسانية متوادعة ومتوادة ناعمة بالأمن والسلام.تحرك فيهم العقل المنظم واندفع بهم إلي ممارسة الحياة علي أسلوب إنساني بعيد كل البعد عن وحشية الآخرين وهمجيتهم.' هذه الثقافة التي حملت للحياة الإنسانية كل معاني التقديس والإجلال تتعرض اليوم لعدوان همجي يتسلح بتكنولوجيا الاتصال الجديدة ويتستر خلف وهم الحرية. ليست قضايا العنف من قضايانا السياسية التي نختلف حولها ولكنها في الحقيقة قضية تتعلق بالصحة النفسية للمجتمع وحمايته من الجنوح إلي الجريمة. إن معدلات العنف في الحياة المصرية تتزايد سواء أكان العنف المؤدي إلي الجريمة, أم العنف الذي يعبر عن نفسه في العراك والمشاحنات في الشارع المصري. وأكاد اجزم بأن الإعلام المصري ليس بعيدا عن دائرة الاتهام ضمن اسباب أخري. وليس التدخل لحماية المجتمع من هذا العبث مما ينال من حرية وسائل الإعلام. فنحن مثل كثير من شعوب الأرض نواجه قائمة طويلة من تحديات التنمية في التعليم والصحة والسياسة والاقتصاد والصناعة والزراعة وغيرها. ومثل كثير من شعوب العالم نواجه تحديات التحول من نظام مركزي إلي آخر أكثر حرية. ولكن ربما كنا وحدنا أو مع قلة قليلة من شعوب الأرض نتعرض لهذه الحالة من الفوضي الإعلامية التي لا يبدو لها في الأفق القريب نهاية. في كل تجارب التحول من نظام مركزي سلطوي إلي آخر ينطوي علي تعددية أكبر وحرية أكثر كانت الفوضي الإعلامية قدرا محتوما. ولكن تجارب الدول اختلفت في طول المدة التي يستطيع فيها المجتمع استعادة النظام والتخلص من الفوضي. كانت امبراطوريتنا الإعلامية العصماء قد استكملت توسعاتها في سنوات العقد الماضي في نفس التوقيت الذي كانت الشيوعية قد حملت أوزارها ورحلت عن شرق أوروبا بأكمله. سنوات قليلة من الفوضي الإعلامية عايشتها دول أوروبا الشرقية بسبب الإرث الشيوعي الطويل. ولكنها استعادت قدرتها علي التنظيم والتعامل الحصيف مع التحولات السياسية والاقتصادية ومفاهيم الحرية وممارسات الديمقراطية. قنوات ومحطات عامة وأخري خاصة وثالثة مملوكة لشركات عالمية ولكنها جميعا تعزف تنويعات كثيرة علي لحن مصالح الأمة التي تخدمها. وشيئا فشيئا تمكنت صناعة الإعلام في هذه المنطقة من العالم أن تضع شعوبها علي الطريق الصحيح إنتاجا وإبداعا واستقرارا وتطورا. في كل أنحاء العالم اختارت الشعوب الحرية طريقا للكشف عن الحقيقة واختارت التعددية حتي لايحتكر حزب أو جماعة الرأي والحكمة والحقيقة. ولكننا اخترنا الحرية حتي تضيع الحقيقة واخترنا التعددية حتي يختفي في الزحام الرأي وتضيع فيه الحقائق وتختلط المفاهيم. أمامك اليوم عشرات من القنوات التليفزيونية والمحطات الإذاعية والصحف اليومية والأسبوعية وليست هناك حقيقة واحدة مؤكدة يمكن أن تطمئن إليها. لا تستطيع أن تستبين ملامح تيار سائد يعبر عن هوية هذا المجتمع السياسية أو الاقتصادية أو الثقافية. تبدو تلك الوسائل الإعلامية كما لو كانت تصدر من بلاد مختلفة أوثقافات متباينة. كل الممارسات في إمبراطوريتنا الإعلامية تجري باسم الحر,ة. وكل انتقاد لها هو عدوان علي تلك الحرية ومؤامرة تبعث رقصة الأشباح في الفناء الخلفي لصناعة الإعلام المصري. من حق المصريين أن يفخروا بالإمبراطورية الإعلامية التي أصبحت تنافس بعدد قنواتها التليفزيونية ومحطاتها الإذاعية أعتي الإمبراطوريات في العالم. عشرات من قنوات التليفزيون وضعفها من محطات الإذاعة وجيش جرار من المذيعين والمحررين والفنيين والمخرجين والمهندسين والإداريين. ومن حق المصريين أن يتساءلوا علي فين وخدانا تلك الإمبراطورية؟ تبدو تلك الإمبراطورية مثل أوركسترا ضخم يعزف بكل الآلات الموسيقية القديمة والحديثة كل النغمات والأصوات في وقت واحد فذلك هو معني الحرية أن يعزف كل عازف ما شاء من الألحان. وأضيفت إلي تلك الإمبراطورية الإعلامية الحكومية إقطاعيات إعلامية خاصة زادت العزف الإعلامي نشازا ووصلت بالضجيج والصخب حدودا لا اعتقد أن شعبا من شعوب العالم يتعرض لمثلها. والحقيقة أن الفوضي الإعلامية التي نعيشها لا ترتبط بقضايا السياسة أو حتي الاقتصاد فحسب ولكنها أكثر وجودا وأعمق تأثيرا في نطاق أوسع من السياسة والاقتصاد في حياة المصريين. من فوضي الفتاوي والتفسيرات الدينية المغلوطة إلي العلاج بالطب والشعوذة إلي التلوث الأخلاقي وتشويه العلاقات الاجتماعية والتجارة بالقيم الإنسانية الرفيعة ونشر ثقافة الشك وفقدان الثقة في كل شيء. من حقنا أن نبحث وأن نعرف لماذا لم تأخذنا إمبراطوريتنا الإعلامية بالحرية القائمة إلي حيث أخذت الحرية شعوبا أخري في شتي بقاع الدنيا.