قال الراغب في المفردات: الرحمة: رقة تقتضي الاحسان إلي المرحوم، وقد تستعمل تارة في الرقة المجردة، وتارة في الاحسان المجرد دون الرقة، نحو: رحم الله فلانا. واذا وصف بها الباريء فليس يراد بها إلا الاحسان المجرد دون الرقة. ولا يطلق الرحمن إلا علي الله تعالي من حيث ان معناه لا يصح إلا له اذ هو الذي وسع كل شيء رحمة، والرحيم: يستعمل في غيره، وهو الذي كثرت رحمته قال تعالي: »إن الله غفور رحيم«، وقال في صفة النبي صلي الله عليه وسلم: »لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم« (التوبة: 821). وقيل: إن الله رءوف رحيم. وقيل: إن الله تعالي هو رحمن الدنيا ورحيم الآخرة وذلك ان احسانه في الدنيا يعم المؤمنين والكافرين، وفي الآخرة يختص بالمؤمنين، وعلي هذا قال: »واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون« (الأعراف: 651). إلي آخر الآيات تنبيها علي أنها في الدنيا عامة للمؤمنين والكافرين، وفي الآخرة مختصة بالمؤمنين. والناظر إلي رحمة الله تعالي يجد أنها سابغة ووافرة، وكل سور القرآن الكريم افتتحت بوصف الرحمة لله: »بسم الله الرحمن الرحيم«. ومن استغفار الملائكة للمؤمنين التائبين الذين اتبعوا سبيل الله: »الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم« (غافر: 7). ولقد لفت الرسول صلي الله عليه وسلم أنظار أصحابه إلي رحمة الله في صورة محسوسة يمثلها لهم عندما رأي أما تضم طفلها في شفقة ورحمة فقال: »أترون هذه طارحة ولدها في النار؟« قال أصحابه: لا والله يارسول الله، قال: »لله أرحم بعباده من هذه بولدها«. كما أبرزت السنة الشريفة مقدار ما ادخره الله من رحمته يوم القيامة، قال صلي الله عليه وسلم: »جعل الله الرحمة مائة جزء، وأنزل في الأرض جزءا واحدا فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق حتي ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه«. ولقد طبق الرسول صلي الله عليه وسلم خلق الرحمة في سلوكه، وقد بينتها أقواله وأفعاله، لأن الرحمة سر مبعثه، وجوهر رسالته، قال تعالي: »وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين«(701). وأخرج البيهقي في الدلائل قوله صلي الله عليه وسلم: »إنما أنا رحمة مهداة«، ولم تبرح الرحمة قلبه الشريف حتي في أحلك الأوقات ومع أعدائه. ففي يوم أحد عندما حاول الكفار أن يغتالوه نظر إلي أصحابه ورأي ما هم فيه من شدة وما هو فيه من شدة، فقد شق خده وسقطت سنه، وقيل له: ادع علي المشركين. فقال: »اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون«. أما أصحابه صلي الله عليه وسلم، فقد مثلوا المجتمع المؤمن الرحيم: »محمد رسول الله والذين معه أشداء علي الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوي علي سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما« (الفتح: 92). وذكر الشدة هنا، لتقويم من يخشي منه، فيحصر خطره، وفي هذا رحمة له وللمجتمع. ومن رحمة الله بالانسان: ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلي الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالي قال: »ان الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها وعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات إلي سبعمائة ضعف إلي أضعاف كثيرة، ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة«. ومعني الحديث: ان الله قدر جزاء الحسنات والسيئات، وأمر ملائكته بكتابة ذلك، (فمن هم بحسنة) أي طاعة، والمراد بالهم: الإرادة، وهي مرتبة دون مرتبة التصميم، وهو يفيد ترجيح الفعل علي الترك وقيل: المراد بالهم: العزم. (فلم يعملها) بسبب أمر خارج عن ارادته فإن من رحمة الله أنه يكتبها له حسنة كاملة، ويأمر الملائكة بكتابتها. أما اذا عملها فرحمة الله أوسع من أن يأخذ ثوابها فحسب، بل ان الله يكتبها عنده عشر حسنات، إلي سبعمائة ضعف إلي أضعاف كثيرة، أما السيئة فإن هم بها فلم يعملها؛ خوفا من الله، كتبها الله عنده حسنة، وفي الحديث القدسي: »إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتي يعملها؛ فإن عملها فاكتبوها بمثلها وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة«.