كلنا زوّار في هذه الدنيا.. عابرو سبيل نأتي ونذهب ، نصخب ونهدأ ، ولا يبقي منّا في النهاية سوي مجرد ذكري تبهت هي الأخري مع الأيام مقدمة لابد منها ليعذرني القارئ العزيز إذا وجد في هذه السطور مالم يألفه مني من حِدّة في القول، فقد كتبتُ جُلّ فقراتها في ظروف حالكة أفسدت الاستمتاع بمشقة الصيام ومجاهدة النفس. ولست ممن يهوون تبرير سوء سلوكهم وعصبيتهم علي الصوم أوتحميل ذنوبهم علي الحرمان من القهوة الصباحية او فنجان الشاي مع سيجارتين مابين العصر والمغرب. وليعذرني كل من يستشعر أنني أوجه اليه اللوم والعتاب سواء كان صديقاً أو مسؤولاً ، وأرجوه أن يضع نفسه مكاني أو أن يتحلي بروح التسامح، وحبذا لو راجع نفسه قليلاً وحكّم ضميره. فإن لم يستطع فليعتبر هذه اليوميات مجرد تخاريف صيام. ليلة القدر الأربعاء كالبرق الخاطف مرق شهر رمضان مثل الطيف الحالم الوديع رغم قيظ الصيف وشدة العطش. هانحن في العشرة الأواخر من الشهر الكريم ، عشرة نتلمس فيهن ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر. عشرةٌ خالصات للاستغفار والدعاء.. للتوسل والرجاء في العتق من النار. عشرة يزحف فيها البشر زحفا ًالي بيوت الرحمن. كل ما أتمناه ألا تتكرر مهزلة العام الماضي في صلاة ليلة القدر بمسجد عمرو بن العاص. في تلك الليلة قُدَّر عدد المصلين بنحو مليونين كلهم ينشدون الصلاة خلف الشيخ محمد جبريل وتلاوة دعاء ختم القرآن وراءه. المنطقة المحيطة بالمسجد علي مساحة كيلومترين مربعين أو يزيد مخصصة للصلاة. عشرات من الشباب المتطوعين لإرشاد المصلين وتنظيم مساراتهم. جهود أمنية مضنية لتأمين المكان ورواده مع كثير من سيارات الإسعاف المتناثرة.. مشهد غاية في الروعة لو شوهد من أعلي ، تتمثل فيه صورة مصغرة من العمرة أو الحج. فيه كل مشاعر الهجرة الي الله والسعي والهرولة، وحتي الاحتشاد والتدافع. إلا أن هذا التدافع للأسف كان لمجاورة الشيخ جبريل والالتصاق به لزوم الظهور أمام كاميرات التليفزيون التي كانت تسجل الحدث. تدافع أرهق الشيخ وعطّل الصلاة أكثر من مرة. فوضي ممجوجة شتتت الانتباه وأطاحت بالخشوع الواجب عند الوقوف بين يدي الرحمن، أجبرت إمام المسجد علي مناشدة المصلين في الميكروفون الانتظام والتزام الهدوء والسلوك المتحضر، وأصابته بالعصبية والغضب. تصرفات همجية ومشادات ومعارك حول حجز الأماكن أو احتلالها كأن هؤلاء الناس لم يأتوا للصلاة ولكن للابتسام أمام الكاميرات والتلويح لأقاربهم. عناد بلا تواضع ومشاحنات بلا تسامح، نسي هؤلاء انهم جاءوا ليناجوا الله ويبتهلوا اليه. كانت بالفعل مهزلة دفعت الشيخ جبريل الي الإسراع بإنهاء الصلاة للتفرغ للدعاء.. خلاصة هذه التجربة، أنني احسست لأول مرة بحالة من النفاق والكذب والتمثيل وشيوع الانفصام بين المناسك والطقوس الدينية وبين السلوكيات اليومية الدنيوية. لقد نقل هؤلاء كل معايبهم الي طقس الصلاة وأفسدوا لحظات إيمانية نادرة علي بقية زملائهم المصلين الذين جاءوا يرتجونها. ليتنا نتعلم الدرس ونحافظ علي تلك الليلة فنستجلب الملائكة والروح المتنزلة فيها بدلا من تطفيشهم! مديرة حياتي السبت: استيقظت اليوم مبكرة علي غير عادتي في نهار رمضان فعليّ ان استعد لاستقبال مديرة المنزل ( هكذا تحب أن أسميها ولاتعترف أنها ليست مديرة المنزل وحسب لكنها تدير حياتي وتتحكم فيها وفي مواعيد استقبالي لها وفق ظروفها وأوقات فراغها وما يسمح لها به زوجها المتعطل عن العمل) ما علينا.. اليوم سيكون شاقاً فلدينا غدا ً تجمع عائلي علي الإفطار ومن الضروري إجراء الاستعدادات اللازمة من أعمال النظافة وترتيب المنزل بالإضافة الي تجهيزات الطعام الأولية. ربنا يستر هكذا اتمتم في نفسي فقد اعتادت الكهرباء علي الانقطاع في أوقات متفرقة وغير محددة من النهار.وما أدراك بمعني انقطاع الكهرباء في عز الصيف والصيام. لامروحة ولاتكييف ولا امكانية لتشغيل أي من الأدوات الكهربائية. أكثر من هذا أن المياه أيضا ً تنقطع لتوقف الموتور مع انقطاع الكهرباء. ولأنني مواطنة صالحة مهمومة بهموم بلدها ومشكلاته أدرك تماماً أن علي واجب التحمل والبلد ناقصها "كهربا".. ولا ضير من تحمل انقطاعها قليلاً حتي تمر الأزمة علي خير. والحكومة أكثر الله من خيراتها تجبرنا علي استحضار حكمة الصوم ومشاركة الفقير هذا الذي لا يملك تكييفا أو مروحة. أو ذلك الذي يعيش في العشوائيات ويضطر للسير مسافة طويلة للحصول علي الماء النظيف من الصنبور الحكومي أو حتي المسروق من الشبكة الرئيسية. ووقعت الواقعة.. انقطعت الكهرباء! وتلقيت من "المديرة" سهام نظراتها الحادة واستنكارها : العَطَلَة دي علي مين بقي ؟ استمهلها قليلا عسي الله أن يأتي بالفرج. لقد عبّرت المرأة البسيطة بطريقتها الخاصة عما يجيش في نفسي. نضيع الوقت في شرح اسباب الأزمة التي استعصت علي فهمها. الحكومة تقطع التيار كي نخفض استهلاكنا نظرا ً لوجود نقص في الكهرباء. تباغتني بسؤالها: ليه هوالسد العالي راح فين؟ استعين بالصبر كي أزيدها شرحاً مع التبسيط : السد موجود لكن كي يعمل ويقوم بتوليد الكهرباء فإنه يحتاج للوقود مثل البوتاجاز كي يشتعل وهذا الوقود عبارة عن الغاز الطبيعي وهذا فيه نقص. استفيض في الشرح المبسط لتهاجمني بتعليق غاية في الطرافة : يعني الوزرا قاعدين يتخانقوا مع بعض و ماحدش عارف يعمل حاجة واحنا اللي واقعين بينهم؟ فوازير السبت ظهرا انتصف النهار دون إنجاز يذكر حتي عادت الكهرباء فبدأنا العمل علي قدم وساق كعفاريت سيدنا سليمان لنعوض الوقت الضائع. نتبادل الأحاديث عن أحوال الدنيا.. كلامها حفظته عن ظهر قلب فكله يدور حول الشكوي المعتادة من غلاء الأسعار وقلة الدخل وتعطل الزوج الذي يشترط عليها أن تترك له مصروف الدخان قبل مغادرتها الي العمل وكيف انها تعتمد علي وجبة المحشي الأسبوعية لتغذية الأبناء لكي "يبّروا نفسهم" وكأنها تعتذر لهم عن انشغالها طيلة الأسبوع. وأخيراً قرب بدء العام الدراسي وتزامنه مع العيد. انبهها أن عليها ان تبحث عن بديل مناسب لوجبة المحشي فالحكومة قررت تخفيض مساحة الأرض المزروعة أرزاً الي النصف لأنه يستهلك كميات كبيرة من المياه الشحيحة أصلا ً. والحكومة أكثر الله من خيراتها تنصحنا بتحويل تركيزنا الي المكرونة.. مع انها مصنوعة من الدقيق المستخرج من القمح ونحن نعاني من نقص القمح وبلدنا هي اكثر الدول المستوردة له، وبعد ما كانت مصرتزرعه وتخزنه للسنوات العجاف كما أخبرنا القرآن الكريم، وبعدما كنا نحقق الاكتفاء الذاتي قبل خمسين سنة وأكثر ، بَوّرنا الأراضي الزراعية وأقمنا عليها المباني والآن نعض بنان الندم ونبحث عمن يبيعنا قوت يومنا. وجاءت الطامة الكبري وابتليت روسيا اكبر مورد للقمح بالحرائق التي أتت علي الأخضر واليابس واستسمحتنا المسكينة في تأجيل الوفاء بالتزاماتها من القمح نحونا. ونحن بكل شهامة المصريين قدّرنا الظرف الطارئ ووافقنا. أو في الحقيقة لم يكن أمامنا سوي الموافقة. انتبهت بعد كل هذه المحاضرة الطويلة الي حالة الذهول التي انتابت "المديرة"،وأفقت الي ملامح وجهها المبتعدة عن بعضها وفمها المفتوح. ضحكت واعتذرت أن أثقلت عليها بما قد لا تفهمه وإذا بها تستنكر استخفافي بسعة مداركها فتقول : مافهمتش ازاي يانهار اسود. والوزرا دول ماكانوش عارفين إن كل ده هايحصل؟ سؤال فطري ومنطقي متناه في البساطة والتلقائية، لكنه يحيلنا الي واحد من أكثر العلوم تعقيداً واحتياجا ً لقدر كبير من البراعة ودقة الحسابات، إنه علم إدارة الأزمات والتنبؤ بها ورسم السياسات المستقبلية. من الظلم ان نحمّل الوزراء وحدهم كل أوزار السياسات الخاطئة. ، إنه وِزر منظومة عامة، فأي مسؤول لايبني علي ما سبقه ويسلم الأمانة الي من يليه، ويستفيد من كل الخبرات والتجارب المتوافرة.. وِزر انعدام روح الفريق والذاتية والانفرادية في العمل. لدينا المئات من مراكز البحوث والمجالس القومية المتخصصة ومراكز إعداد القادة. لدينا المئات من الدراسات والبحوث الميدانية والمعملية والابتكارات المحلية التي وضعت حلولاً لأغلبية مشاكلنا المتوطنة. علي مدي ربع قرن ظهرت بحوث وتجارب تضمن لنا الاكتفاء الذاتي من القمح ولم نر ثمارا ً لهذه التجارب التي كان من شأنها أيضا ً ان توفر الوظائف لآلاف الشباب المتبطلين. هل نحلم بيقظة ونهوض الروح الوطنية فنأكل من زرع أيدينا قريبا ً؟ إفطار نقابي الأربعاء اليوم لبّيت دعوة كريمة من صديقي يحيي قلاش عضو مجلس نقابة الصحفيين لحضور إفطار يجمع زملاء المهنة من كافة المؤسسات الصحفية والأجيال في بيتنا المهني. أراد يحيي أن يعيد إلينا روح الأخوة والمحبة التي تماهت علي مر السنين وأن نسترجع ذكرياتنا وقفشاتنا وسخرياتنا التي استولي عليها الزمن في غفلة منّا. وكانت مفاجأة هذا الجمع الونيس عرض الفيلم التوثيقي عن المبني القديم للنقابة الذي تم هدمه عام 7991، وعن تاريخه وما حفل به من أحداث ومعارك دفاعا ً عن حرية الصحافة واشهرها محاولات تحويل النقابة إلي نادٍ ومعركة القانون 93 الفيلم أعده وأنتجه الصديق محمد غزلان نائب رئيس تحرير جريدة المساء قبل خمسة عشر عاما ً. غزلان في الأساس محرر شؤون خارجية وهو روائي ايضا ً، لكن هوايته المزمنة كانت دوما ً التصوير الفوتوجرافي. عدسته هي قلمه ورصاصته التي يطلقها. بارع في اقتناص اللحظة ، فتخرج علي يديه أقوي اللقطات. كان عرض الفيلم هو هدية غزلان لنا، فكأنه مد يده عميقا ً إلي داخل بئر الذكريات واستخرجها. أثار فينا عواطف جياشة انتهت بالدموع والتصفيق الحاد مع مشهد النهاية ونحن نري معاول الهدم تحطم أولي لَبِنات هذا الصرح الغالي. ما كان يحتاج لعدسة غزلان في هذه الليلة هو تسجيل لحظات اجتماع شملنا النادرة تلك ونحن ملتفون حول شاشة العرض وكأننا نراقب أحداث مباراة كرة قدم للفريق القومي وتعليقاتنا ونحن نتسابق في ذكر أسماء الرواد الراحلين ونترحم عليهم أو نتهكم علي أنفسنا وقد اشتعل الرأس شيبا ً وبلغنا من الكبَر عتيّا ً. ذات المشهد حدث قبل خمسة عشر عاما ً حين تجمعنا عدد من الأصدقاء في صالة منزلي حول جهازي التليڤزيون والڤيديو لنشاهد الفيلم عقب إنتاجه. وقتها كنا نتهكم أيضا ً علي بعضنا البعض ولكن علي حاضرنا، أمّا اليوم فعلي ماضينا وحاضرنا معا ً. ما أبكاني حقا ً هو أن آفة النسيان قد أصابتنا فاختلفنا أحيانا ً في تذكر أسماء بعض الراحلين مع أننا عاصرناهم وكثيرا ً ما تحلقنا في حديقة النقابة القديمة، ولولا هذا التسجيل النادر لطواهم النسيان إلي الأبد. كلنا زوّار في هذه الدنيا.. عابرو سبيل نأتي ونذهب ، نصخب ونهدأ ، ولا يبقي منّا في النهاية سوي مجرد ذكري تبهت هي الأخري مع الأيام. اللوحة والمقص الخميس: غصّة شديدة أصابتني إثر سرقة لوحة زهرة الخشخاش الثمينة من متحف محمود خليل وحرمه. مرارة أكثر انتابتني من جراء الطريقة الوحشية التي تم انتهاكها وانتزاعها بها. ناهيك عن تلك الخناقة الإعلامية وتبادل الاتهامات بين الوزير ورئيس قطاع الفنون التشكيلية المتهم الوحيد(!) في تلك الجريمة. مايحيرني تلك الاستهانة الشديدة بنفائسنا وكأننا نستكثرها علي أنفسنا. في الليلة السابقة حكي لي غزلان حكاية لم يوردها في فيلمه وهي أن الملك فاروق أوفد مستشاره الصحفي كريم ثابت لافتتاح مبني نقابة الصحفيين عام 9491 وأرسل معه مقصّا ً ملكيا ً من الذهب الخالص لقص الشريط . بعد الافتتاح بأسابيع أو شهور اختفي هذا المقص وكان من المقتنيات الثمينة ذات الدلالة الرمزية للنقابة. تبودلت الاتهامات بالمسؤولية بعد ذلك بسنوات في حديقة النقابة بين اثنين من الرواد. وكانت النتيجة أن ضاع المقص وضاعت المسؤولية. ضياع المسؤولية يولد قطعا ً من غياب المحاسبة. هل هو تقصير ؟ نعم وبالفم المليان. إهمال جسيم ؟ يقينا ً.. لكن هذا الاتهام لا يستثني أحداً، إذ لاتجدي في درئه سلامة النية ونقاء الطوية وإلا تحولت إلي عبط وبلاهة، لا تستقيم معها المسؤولية الجسيمة الملقاة علي عاتق الأمناء علي مصائرنا ومقتنياتنا وتاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا وقوتنا.