جرت العادة في الجهاز الإداري المصري منذ زمن طويل أن يعاقب الموظف المخطئ أو المهمل بالنقل. وأين؟ إلي الصعيد، وقديما كان إلي السودان، ومازلت أذكر للشاعر إسماعيل صبري، عندما نقلوه من القاهرة إلي قنا، قصيدة جميلة مطلعها: قالوا نقلت إلي قنا/يا مرحبا بقنا وإسنا، وفيها راح يغيظ رؤساءه بأنهم قد أراحوه من هموم العاصمة، وارتفاع الأسعار بها »كان هذا منذ حوالي سبعين عاما«، وأنه في قنا أصبح مرتاحا من رؤية وجوههم الكئيبة، بل إنه أصبح يوفر ثمن تسخين الماء، لأن الماء هناك ساخن من حرارة الجو، ولا يحتاج لشراء وقود من أجل تسخينه كما يحتاج إلي ذلك أهل العاصمة! ومن العجيب أن هذا التقليد علي عدم معقوليته، مازال يجري حتي اليوم في كثير من الوزارات والهيئات والمؤسسات، إلي درجة أن كلمة »سوف تنقل إلي الصعيد« أصبحت تمثل تهديدا حقيقيا لأي موظف، وفي هذا من الإهانة للمكان ما فيه، إلي جانب ما يمكن أن يتركه ذلك في نفوس أهله من إحساس بأنهم في آخر الدنيا، أو انهم يعيشون في وادي الغضب، الذي يتم قذف المخطئين إليه لكي يتأدبوا ويتعظوا، وكل هذا بالطبع غير صحيح فالصعيد هو نصف مصر، وعلي أرضه قامت الحضارة المصرية القديمة، التي أنشأها وطورها أجدادنا العظام، وفي الصعيد توجد المدن والقري المليئة بالخير، كما أن عواصم الصعيد وحواضره تمتلئ بالأبنية التقليدية المتحضرة، والفيللات الأنيقة والأصيلة التي كاد أمثالها يختفي من العاصمة. وهذا واضح للعيان في أسيوط، والمنيا، خاصة في ملوي، وبالمناسبة أرجو أن يتم »توثيق وتصوير هذه الثروة المعمارية النادرة في بلادنا قبل أن يجور عليها الزمن«. أعود لمسألة العقاب بالنقل لأؤكد أنه أسلوب إداري عقيم، وهو يشبه في مجال السياسة: النفي خارج البلاد، إلا أن المنفي خارج بلده يتمثل عقابه في الحرمان من أهله ووطنه، أما هذا المنقول فإنه يشعر الذين حوله بأنهم محرومون من عطف أهل المدينة، الأمر الذي يزيدهم حزنا وكآبة، لهذا ينبغي أن تتغير اللوائح الإدارية العقيمة، وأن يحل محل محلها قانون لمعاقبة الموظف المخطئ أو المقصر أو المهمل، وعقابه لابد ان يكون في مكان عمله، وأن تتدرج مستوياته من التنبيه إلي اللوم إلي الإنذار إلي الخصم، حتي يصل إلي فقدان الوظيفة، وهنا لابد من الاشارة إلي أن عدم استخدام هذه العقوبة الأخيرة هو الذي يساعد علي ترهل الجهاز الإداري، وضعف الأداء فيه، ولعل هذا هو ما يميز الادارة الغربية المتطورة السريعة الإيقاع، من الإدارة في بلادنا، التي تمشي ببطء، وتتوقف أحيانا أمام عبارات من مثل »علشان خاطري« أو »معلهش«. كاتب المقال : نائب رئيس جامعة القاهرة السابق