حين أضيئت أنوار صالة السينما، بدا الجمهور قليلا للغاية، بضعة مشاهدين متناثرين يعدون علي الأصابع.. في نهاية الصف الثالث الأمامي، كان رجل وحيد يجلس منهارا مستندا برأسه إلي السور الحديدي أمامه.. صوت بكائه مسموع لكل من حوله.. إنه ينتحب السبت: لا أحب أن أراه يبكي.. أي رجل.. دموع الرجال توجع، وتؤلم وتنفذ كالسكين.. ربما هي الصورة التقليدية المتداولة عن صلابة الرجال، وتماسكهم وطاقتهم علي الاحتمال.. وربما لأن الدموع في الذاكرة التقليدية سلاح أنثوي خالص.. دموع المرأة قريبة وبسيطة، تبكي اذا فرحت وتبكي اذا حزنت.. تبكي أمام شاشة التليفزيون وتبكي أمام تفاصيل الواقع.. دموع المرأة (وجع) لكن دموع الرجل (وجع حقيقي).. دموع المرأة خطوة أولي، دموع الرجل خطوة أخيرة، طعنة يسددها إلي نفسه اذا فاض به الكيل. لكن الشاعر السوري (علي كنعان) يبكي دائما.. يبكي اذا قرأ الشعر، ويبكي اذا استمع إلي الشعر.. يبكي اذا تحدث عمن يحبهم، ويبكي اذا تحدث إلي من يحبهم.. والجميع يصدقون بكاءه، ويحترمون تلك الرهافة. كان أبي يبكي أيضا.. والكثير من أفراد عائلته يشبهون علي كنعان، يبالغون في التأثر ويفرطون في التعبير عن مشاعرهم حد البكاء. حين أضيئت أنوار صالة السينما، بدا الجمهور قليلا للغاية، بضعة مشاهدين متناثرين يعدون علي الأصابع.. في نهاية الصف الثالث الأمامي، كان رجل وحيد يجلس منهارا مستندا برأسه إلي السور الحديدي أمامه.. صوت بكائه مسموع لكل من حوله.. انه ينتحب.. لم أتعمد أنا وصديقتي الذهاب لمشاهدته، كان طريقنا إلي الخروج في القاعة يمر من أمام مقعده، وكنت أتعثر في خطواتي وأتلكأ كمن تريد أن تقف إلي جانبه وتطيب خاطره.. كنت أريد ذلك بالفعل لكني مضيت موجوعة. من المؤكد انه (ايرلندي) شعره الأشقر ولون بشرته وملامحه وبكاؤه الحارق.. كان الفيلم هو (مايكل كولينز) للمخرج نيل جوردون وهو الفيلم الحاصل علي جائزة الأسد الذهبي بمهرجان فينيسيا 6991 الفيلم عن (الجمال البشع) بتعبير الشاعر الايرلندي (ييتس) حيث تمرد الأيرلنديين ضد الاضطهاد الإنجليزي، وحيث مئات القتلي والجرحي والضحايا وحيث تمزقات شعب واحد. كان الايرلندي الوحيد في مقعده بالصف الثالث بصالة سينما (نورماندي) بمصر الجديدة في القاهرة.. يبكي بحرقة بلاده.. وكانت دموعه موجعة. بكاء مارادونا الاثنين: انتهي المونديال، وعاد اللاعبون إلي بيوتهم وأهاليهم وبلادهم.. من خسر خسر، ومن ربح ربح.. هذا هو سحر الكرة وجنونها. انتهي المونديال.. وعاد الناس إلي دورتهم العادية وانشغالاتهم وتفاصيل حياتهم اليومية.. لكن شخصا واحدا يظن الناس ان قلبه توقف، يبكي ولا يكف عن البكاء.. انه (دييجو ارماندو مارادونا) أسطورة الكرة الأرجنتينية ومدرب راقصي التانجو التعساء. خرجت الأرجنتين بفضيحة مدوية.. أخرجها الألمان من الربع النهائي الأخير من المونديال بأربعة أهداف قاسية ..! بكي مارادونا بعدما أطاح الألمان وأحد عشر لاعبا أرجنتينيا بقلبه. الغريب ان جمهور الأرجنتين لم ينقلب علي فريقه، لم يفعل ما فعله جمهور البرازيل الذي خرج علي لاعبيه بالغضب واللعنات، خرج 000،01 أرجنتيني إلي مطار (ايزيزا) في بيونس ايرس لاستقبال لاعبيهم المهزومين بأربعة جنونية.. هتفوا للفريق ولمدربه الأسطوري (مارادونا من فضلك لا تتركنا) (دييجو انك الأفضل من بيليه). بكي مارادونا.. أو هو لايزال يبكي منذ المباراة المخيفة. لو ان الشاعر محمود درويش لايزال بيننا اليوم لتحطم قلبه هو الآخر أمام بكاء مارادونا بطله الأسطوري.. والذي استطاع ان يحوله من مجرد مشجع لكرة القدم إلي عاشق. في عام 6891 كتب درويش في مجلة (اليوم السابع) بعد فوز الأرجنتين علي ألمانيا 3/2 تحت عنوان (مارادونا لن يجدوا دما في عروقه بل صواريخ). وأشكر صديقي سيد محمود الصحفي بالأهرام علي إعادة نشر المقال علي صفحة الفيس بوك خاصة وهو مقال نادر غير منشور في أي كتاب لدرويش.. ولعل أهمية المقال في كشفه جانبا غير معروف عن الشاعر الكبير وهو ولعه بكرة القدم وتعصبه الشديد للأرجنتيني مارادونا.. كتب درويش: »له وجه طفل.. وجه ملاك.. له جسد كرة.. له قلب أسد.. له قدما غزال عملاق وله هتافنا.. (مارادونا) فيتصبب اسمه عرقا، ونقتلع الكرة كالقطة البلدية الماهرة من أرجل البغل، يراوغ كالثعلب المزود بقوة ثور، ويقفز كالفهد علي حارس المرمي الضخم المتحول إلي أرنب: جوول. ان هو لم يسدد ستموت الأرجنتين من البكاء، وان هو لم يصوب سترفع الأرجنتين نصبا لعارها في الفوكلاند، سيتوقف الشعور القومي عن الرقص، وستربح انجلترا المغرورة الحرب مرتين. مارادونا...... هو النجم الذي لا تزاحمه النجوم، دانت له بقدر ما دان هو لكرة القدم التي صارت كرة قدمه.. النجوم تبتعد عن منطقة جذبه لتفتن ما تراه، لتراه من الجهات كلها، لتبهر في معجزة التكوين، لتصلي للخالق والمخلوق، ولتحتفي بحرمانها المتحقق في غيرها، لتنشد نشيد المدائح لمن جعلها تهزم بهذا الامتنان، فما أسعد من هزمته قدما مارادونا.. هذه القدم.. قدم مارادونا مع كعب ميثولوجي آخر هو كعب أخيل، هما أشهر قدمين في تاريخ الأسطورة«. صديق الضوء الثلاثاء: هاتفني أول أمس من (قطر) صديقي الكاتب الأرميني توماس جورجسيان.. الصحيح انه الكاتب المصري فهو يكتب بالعربية.. تعلم في مصر وارتبط بثقافتها ومثقفيها تعرف عليهم وصادقهم. وقبل عشرين عاما.. قبل ان يغادر مصر إلي (أمريكا) كان ولايزال يكتب في الصحف المصرية (روز اليوسف، القاهرة، الدستور) لا يترك كتابا صدر في القاهرة إلا وقرأه وربما أيضا كتب عنه. هاتفني توماس من قطر حيث يعمل هو وزوجته الأمريكية منذ عامين.. ناقشني في مقالي الأسبوع الماضي حول (صورة نصر أبوزيد الصحيحة) وأهمية (رد الاعتبار). قال ان ثمة احساسا بالذنب تجاه نصر أبوزيد دفع المثقفين إلي الاهتمام الشديد بموته وبكائه بحرقة.. كانوا كمن يعتذر عن صمت طويل وربما عن خذلان امتد خلال سنوات المحنة.. قلت: ربما. قال ان أدونيس في مقاله الصغير عن نصر أبوزيد كتب انه (صديق الضوء).. وان العبارة عبقرية، وأنه توقف أمامها كثيرا. قلت: ربما.. لكن أدونيس نفسه وفي نفس المقال الصغير وصف نصر (بالمنسجم) علي حين وصف نفسه (بالمتمرد) علي الثقافة السائدة.. ولم يترك مجالا لعدم الفهم فراح يشرح مفهومه للانسجام.. وطبيعته المحافظة والمحدودة. الغريب ان توماس جورجسيان أخبرني انه لم يتوقف أمام تلك الفقرة (المنسجم والمتمرد) لم يهتم بها ولم ينشغل والغريب أيضا أنني لم أتوقف أمام (صديق الضوء) وكأني لم أقرأها... هل هو نصف الكوب الفارغ ونصف الكوب الملآن؟ ربما..! اذهب إلي هذا العالم لابتهج: الجمعة لم أحب عالم (الفيس بوك) كثيرا، دخلته ولم أتفاعل معه، دائما كان هناك حاجز زجاجي، أو هناك عمومية مفرطة تبدد خصوصية الصداقة.. اعتقد كثيرا في عبارة (ان من يحب الناس جميعا هو شخص غير قادر ان يحب أحدا).. لم انسجم تماما مع (الفيس بوك).. ادخله قليلا وفي الأغلب أدخله صامتة، فقط اتطلع في ملامح العابرين به أو المقيمين فيه، أتابع ضجيجهم كمن يجلس علي مقهي في منتصف الشارع يتفرس وجوه الناس حوله دون عناية، ودون فضول وأحيانا دون أن يراهم بالفعل. لكن في اليوم الخانق (وما أكثره) أحب ان اذهب إلي صفحة (الفيس بوك) الخاصة بصديقي القاص الشاب نائل الطوخي.. (وصديقي)، و(القاص) و(الشاب) هي فقط محاولة لتعريفه علي حين ان صفحته أو عالمه علي الفيس بوك لا حاجة له إلي هذه التعريفات أو البطاقات الجاهزة. اذهب إلي هذا العالم لابتهج. افتح صفحة نائل الطوخي، اقرأ تعليقاته وحواراته وسخرياته، يدهشني هذا الخيال اللافت والضحكة المجلجلة والتي تتحول أمام أعيننا إلي عمل فني.. خيال فانتازي جامح لا تحده حدود، وجنون بالألوان الطبيعية. في البداية تظن أن نائل الطوخي والذين يشبهونه من أصدقائه شخصيات منفلتة، غير مسئولة وغير منضبطة، لا أسئلة لديها ولا اجابات.. كتابة خالية من المعني والهدف خاوية وغير مشغولة بشيء سوي الرغبة في الضحك والضحك والضحك إلي ما لا نهاية. الصحيح انهم ليسوا كذلك، وان السخرية التي تصل في لامبالاتها حد العدمية هي درجة عميقة من الوعي والقدرة علي نقد الحياة حولها وربما مواجهتها أيضا بصلابة. خيال نائل الطوخي مختلف تماما.. خيال يتحرر من الأفكار المسبقة والمواقف المسبقة، خيال متخفف من الأثقال والأحمال، يمارس أقصي طاقات حريته ليكون نفسه لا شيء آخر.. طاقة تحرر ذاتها كل يوم وهنا تكمن قوتها وجمالها.. سخرية نائل الطوخي صورة الكترونية معاصرة وحداثية لمهرج الملك، قادر علي نزع الضحكات ونزع الأقنعة، قادر علي تعرية كل شيء حوله.. تعرية نفسه وتعرية الملك كتابة لا تقول شيئا بينما تقول كل شيء.