[email protected] لست أدري كيف أكتسح الزحام قلوبنا فأصبحت تضج لاتفه الاشياء، ويكف اقتحم ميخلاتنا فصارت شتاتاً غير ذي معني لا تنضح كثيراً بخير كما كانت في الأيام الخالية، عدت لابحث عن نفسي التائهة لتوي بعد أن اتخذت طريقاً سربا في هذا الحصار المتلاصقة فيه الاجساد، كأنها الفراش المبثوث، هل لي من مهرب أحتمل فيه غربتي التي تزداد يوماً بعد يوم وتفوض في أعماق سحيقة يلفها غموض الاسباب التي اخذتني اليها، نعم منذ أيام فكرت في العودة ومعي كتابان وحلم وبعض أوراق ومفكرة ادون فيها ما أثر في من أحداث، وينبغي أن أراجعه واستذكره، وليس فقط هو الحنين الذي جعلني اقف علي باب بلدتي أحوال ان المس طرف مئذنة الجامع القديم بطرفي فلم أفلح، عدت الكرة وراء الكرة فانقلب اليّ البصر خاسئاً وهوحسير، ما الذي دفن المئذنة وملامح المسجد هكذا بغير رحمة، لم أكن اتوقع ان تكون هذه الجدر الاسمنتية قد علت إلي حد اخفاء أجمل معلم في بلدتي، أنادي : »الشهداء« هل ما تزال علي الارض رسم الديار التي كنت ارتع بين أرجائها كسائر الغلمان في أهازيج العمر الناغي، هل من أحد يخبرني أين هذا البيت الكبير الذي بناه جدي ليكون بعيداً عن صخب المدينة وقريباً من بيت صديقية الاعزين »محمود ابو الفتح وأحمد ابو الفتح« صاحبي جريدة المصري الشهيرة، لا استطيع أن انسي أبداً هذه النسمة الرضية، وهم جلوس بين البيتين، تهب حاملة رائحة القهوة التي دائما تميز مجلس الجد وفناء البيت، لاهثاً اسعي يضطرب صدري وتختلج عيناي فلا تستقران ولا يهدأ لقلبي وجيب، أمن هذا الذي رمي الي التحية ووقف ينظر إلي كأنما يعزيني أو يعزي نفسه إنه هو مدرسي العزيز وقد أحني الزمان ظهره وأوصد دونه العافية القديمة، لم يهزني في هذه اللحظة الا كلمة قالها ترتجف علي شفتيه: »إنما تبحث يا ولدي عن سراب«. انكفأت عليه اقبل جبينه، وأخذت أمشي علي غير هدي، أهذه هي شوارع بلدتي التي طبعها الريف بطباعه وبث فيها من روحه، إنني اتلاطم في بحر من البشر، هل كل هؤلاء غرباء. وقد جاءوا إلي هنا يوم »السوق«، هل تغيرت الوجوه فاصبحت لا تعرف بعضها بعضاً، كان الطريق الي بيتنا طويلا كأنه دهر من السعي في التيه، كل شئ تبدل، لم أعد أري الايادي المتشابكة ولا المجاميع التي كانت تتأبط في مشييتها وتنزع الي التوحد في كيان بديع يجعل من الطرق ونسة أبدية، وحتي هذه اللحظة التي كانت تنبعث فيها الأنوار من مئذنة الجامع العتيق فتخطف الالباب وتجذب المشاعر ما واتتني كأنما تزيج كل بارقة أمل في سبيلي، خطوت ناحية المقابر، إنها مازالت علي عهدها القديم رغم هذا القبح الذي احاطها من كل جانب وألقي علي يمينها مقلب القمامة ودفنها في أدخنة من البغضاء كأنها صوت كل ما تكره النفس من الرائحة، أناديكم يا أيها الموتي لتشهدوا كيف تبدلت الحال بدياركم وأهليكم، وكيف يحاضري الزحام إذا اردت أن أمد الخطو اليكم في ساعة من ليل أو نهار، أكل ريف مصر اصبح هكذا غريباً يبحث عن فلاح وقيمه، أكل ارضنا صارت مزرعة للمباني الاسمنتية منزوعة القلب والضمير، ليتني ما عدت ولا رأيت وليتني بقيت أتذكر واجتر الذكري فهي الشئ الوحيد الذي لم يتبدل أو تلوثه يدُ المدنية وفساد الحضر. كاتب المقال : استاذ الطب بجامعة الازهر، عضو اتحاد كتاب مصر