ارضنا الزراعية، عرضنا - بكسر العين - وسترنا .. ومورد رزقنا. والحفاظ عليها يعني الحفاظ علي استمرار الخير.. والنماء.. والرخاء أما إهمالها وإهدارها فيعني البوار و الجدب.. والحرمان من العطاء.. بل الاعتماد علي الغير من الحصول علي الضروري من قوتنا اليومي! ونحن للأسف لجأنا عن عمد إلي الاتجاه الثاني.. هجمنا بشراسة علي الأراضي الزراعية.. تسلحنا في هجومنا بالقسوة والطيش. وحتي الذين شهدوا »المجزرة« لم تدمع لهم عين عند بتر ما يزيد عن مليون فدان من البساط الاخضر المثمر»!«.ولأن الهجمة مازالت مستمرة فقد بادر الخبراء بالتحذير من اختفاء الأراضي الزراعية بعد ستين عاما إذا استمر الوضع علي ماهو عليه الآن!.والغريب أننا نتباهي بالتوسع في الرقعة الزراعية من خلال استصلاح الأراضي الصحراوية، وفي نفس الوقت نهدر أراض خصبة بالوادي والدلتا قيمة الفدان الواحد فيها تصل إلي 5 أضعاف الفدان بالصحراء»!«.والمريب أن التعديات تؤدي لخروج الأرض من إنتاج الغذاء، وزرعها بالخرسانة المسلحة، في الوقت الذي نعاني فيه من آثار الأزمة العالمية للغذاء»!«. والأكثر ريبة أننا ندفن ثروتنا الزراعية في الطوب والأسمنت، ثم نبحث عن أراض في دول أخري لزراعتها بالحبوب!. »الأخبار« من خلال هذا التحقيق تدعو إلي عودة الوعي بأهمية الأراضي الزراعية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.. تدعو كل من يهمهم الأمر إلي الاقتناع بأن كيلو التراب من الأرض الزراعية، أغلي من كيلو الذهب.. لعل وعسي»!«. تعاملنا مع أرضنا الزراعية له تاريخ مأساوي.. تاريخ ضاعت من كلمات سطوره حمرة الخجل.. فقد اغتصبنا خصوبتها مع بداية عقد الثمانينيات.. جرفنا القشرة الخاصة بالاستزراع لهذه الارض وحرقناها في قمائن الطوب الاحمر.. اي اننا حولنا وعاء الكائن النابض بالحياة. المثمر الي جماد أصم.. وقتها تم نحت مساحات كبيرة من اراضي الوادي والدلتا بالتجريف.. ولم يصدر قانون لتجريم تلك الجريمة البشعة إلا بعد تحقيق المخالفين لاهدافهم بعد تركهم للاراضي المعتدي عليها مجرد »برك ومستنقعات«. ومازالت ذاكرتي تحتفظ بمقولة للمرحوم الدكتور ابراهيم عنتر مدير معهد بحوث الاراضي والمياه تعليقا علي الجريمة وقتها، حيث قال »الكيلو جرام من التراب الذي تفقده الارض الزراعية اغلي بكثير من كيلو الذهب« وكأن الرجل كان يتوقع مجريات المستقبل، حيث اكدت ازمة الغذاء العالمي الراهنة ما اشار اليه منذ سنوات طويلة. تكرار وهاهو التاريخ يعيد نفسه.. ولكن في زمان غير الزمان..، وبآليات مختلفة للتعديات.. فبعد التجريف جاء التعدي باستقطاع مساحات من الارض الزراعية وزرعها بالمباني السكنية والتجارية والصناعية!.. لتنكمش مساحة الزراعات..ولتنتشر مناطق العمران العشوائي في المراكز والقري، وكأن الصورة المشوهة لعشوائيات المدن الكبري لا تكفينا!. وهذا ما دفع علماء الهيئة القومية للاستشعار عن بعد الي إجراء دراسة اكدت خطورة الموقف.. اذ حذروا من خلالها.. من احتمال اختفاء كل الاراض الزراعية بمصر بعد 60 عاما طالما استمرت التعديات عليها بالمعدلات الحالية. لكن هل يظل الفلاح باقيا علي قيد المهنة اذا اختفت الاراض الزراعية؟ بالطبع لا..، لانها »علاقة التابع بالمتبوع« كما يري المستثمر الزراعي حاتم الطحان،. والدليل ان التآكل الذي حدث للمساحة الزراعية خلال السنوات الاخيرة قد ادي الي انصراف الكثير من المزارعين الي أنشطة اخري غير الزراعة.. صحيح ان التعديات علي الاراض هي احد اسباب هجرة المزارعين للزراعة.. لكن الواقع يؤكد انه أهم الاسباب، خاصة اذا علمنا انه ليس كل المزارعين ملاكا للأرض.. وهذا معناه ان كثيرين منهم يستأجرون الاراضي لزراعتها.. ولان قيمة الايجارات ارتفعت بسبب محدودية المساحات الصالحة للزراعة، فقد زاد العبء علي المزرعين.. وبالتالي فقد انخرطوا في اعمال حرفية اخري!. ويضيف حاتم الطحان أن خطورة استمرار التعدي علي الاراضي الزراعية تكمن في جانب اخر قد لا يراه البعض وهو اضافة ارقام جديدة للبطالة وذلك باعتبار ان القطاع الزراعي اصبح طاردا للعاملين منه. وباعتبار ان الانشطة الاخري صعب ان تستوعب كل المطرودين!. فرار »الكلمة« هنا تسير بالمعني في اتجاهين. فهناك الفرار الاجباري للارض من نشاطها الاصلي الي نشاط مغاير.. والفرار بالحيل والالاعيب الخبيثة لموظفي المحليات من مسئوليتهم بما يجعل المساحات الزراعية تئن تحت وطأه غابة من الرمل والزلط والخرسانة المسلحة. لكن كيف نجحت أجهزة المحليات في تنفيذ المهمة العدوانية؟ تصرفوا.. ومازالوا. بنفس الاساليب التي اتبعوها في مخالفات المباني. يعطون الضوء الاخضر للمخالفين بالبناء علي الارض الزرعية في الاجازات وعطلات المواسم والاعياد.. ينصحونهم بضرورة البناء بأقصي سرعة.. وعند اكتمال البناء يتم تركيب النجارة. ابواب وشبابيك. بحيث تكون قديمة ومتهالكة.. ثم يتم رش تراب علي الجدران من الخارج بعدها يقوم مسئول المحليات بتحرير محضر يثبت فيه ان ما تم تنفيذه مجرد عملية ترميم للمسكن الاصلي ويستند في ذلك الي شهادة بعض شهود الزور واذا ما تم كشف الامر بفعل بلاغات الجيران يأخذ المحضر منحي اخر ثم ينتهي بالغرامة والمصالحة! والمثير للاسي ان هذه الحيل والالاعيب للهروب من عقوبة تسهيل التعدي علي الارض الزراعية لا تخص »الزمن الماضي« إنما تخص الحاضر ايضا.. فعمليات التعدي مازالت مستمرة ويزيد إنتشارها هنا وهناك؟ انتشار انتشار التعديات له أسبابه.. فالدولة التي قامت بتجريم الظاهرة في التسعينات، تراجع موقفها وان كان بشكل غير مباشر- حيث سمحت بإقامة المصانع والمنشآت التجارية علي المساحات الزراعية.. وهي التي تقرر شق الطرق الجديدة لتأكل من جسم الزراعات. وكان يمكن توسعة الطرق القديمة. لكنها رفضت التوسع فيما هو قائم من طرق خشية التعويضات الكبيرة لنزع الملكية، رغم ان قيمة الأراضي الزراعية المهدرة تزيد بكثير عن قيمة هذه التعويضات.. الا يشجع ذلك المواطن العادي علي التمادي في التعدي؟!. واذا كان مغزي السطور السابقة يجسد غياب التخطيط واللجوء الي الفوضي واللا معقول.، فتعالوا نتوقف امام ما يقوله احد المسئولين عن هذا التخطيط.. اللواء عمر الشوادفي مدير المركز الوطني لتخطيط استخدامات اراضي الدولة، فهو يتحدث بلغة الارقام، مشيرا الي ان مساحة مصر الكلية تبلغ 833 مليون فدان.. وإجمالي الاراضي المزروعة والمستصلحة والقابلة للاستصلاح تبلغ 16 مليون فدان. لكن مياه الري بكل مصادرها.. نيلية وجوفية وأمطار وصرف معالج.. لا تكفي إلا لري 11 مليون فدان فقط. »خلوا بالكم من دلالات الأرقام« لكن عمليات التعدي علي الأراضي الزراعية ادت الي استقطاع مليون و200الف فدان من الزراعات خلال العقدين الاخيرين!. وهذا يؤكد ضرورة الحفاظ علي امرين.. الارض والمياه.. فهل الواقع يؤكد حفاظنا عليها؟. يجيب الشوادفي مؤكدا ضرورة ترشيد استخدام مياه النيل ثم منع التعديات علي مخزون المياه الجوفية بعدما تبين انتشار البحيرات الصناعية في منتجعات علي طريق القاهرة- الاسكندرية الصحراوي في ارض كانت مخصصة اصلا للنشاط الزراعي.. كذلك الجدية في تجريم البناء علي المساحات الزراعية وضرورة استخدام الارض« طبقا لما يحدده المركز الوطني لتخطيط استخدامات اراض الدولة. وكيف يتم وقف التعديات؟ الاحوزة العمرانية تساهم في وقفها.. خاصة وان هيئة التخطيط العمراني تتعاون مع المركز في هذا الصدد.. نحن بتحديد الاستخدامات والهيئة بالتخطيط والتنفيذ.. كما ان الاحوزة التي تم تحديدها وتخطيطها تستوعب الزيادة السكانية لمدة عشرين سنة قادمة. هذا صحيح.. ووزارة الاسكان اعلنت عن رصد 20 مليون جنيه لاستكمال تنفيذ 4400 حيز عمراني ووضع الحدايد بها لتنتهي كلها عام 2012 لكن هل تستبعد استمرار التعديات في ظل الاحوزة الجديدة؟. اذا استمرت فأين القانون؟ وأين اجهزة المحليات؟! لا يمكن انكار ان لدينا غابة من القوانين والتشريعات التي تتعلق بهذا الصدد.. لكن حان الوقت لتفعيل ولو قانون واحد منها حتي نحافظ علي ما تبقي من أرضنا الزراعية، وإلا سوف نجد انفسنا بلا أرض نزرعها.. وبلا إنتاج زراعي ونمد إيادينا بالعملة الصعبة لنحصل علي كل قوتنا من الاسواق الاجنبية!. أرض الجار فعلا »شر البلية ما يضحك«. فالحكومة أغمضت عينها عن تبوير الأراضي الزراعية لتحل الخرسانة والطوب الاحمر محل انتاج الغذاء واتجهت في نفس الوقت الي البحث عن أرض لزراعتها في بعض الدول الافريقية. بل أعلن أحد المسئولين في احدي الندوات مؤخرا ان القيمة الاقتصادية لفدان المباني أكبر وأعلي بكثير منها في فدان الزراعة!. الدكتور نادر نور الدين الخبير الزراعي واستاذ الموارد الزراعية بجامعة القاهرة يشاركنا الدهشة ليقول ان ازمة الغذاء العالمي وتداعياتها تضغط علينا وتدفعنا دفعا لسرعة التحرك بهدف انقاذ الاراضي الزراعية من هجمة التعديات الشرسة التي تتعرض لها. مشيرا الي ان الفدان الزراعي يعد بمثابة »مصنع القوت« ليس فقط للجيل الحالي إنما لكل الاجيال القادمة.. ويري ان قيامنا بالزراعة في أرض دول اخري هو استثمار مشترك هدفه دعم علاقات مصر بالدول الاخري.. لكن هذا لا ينفي التفريط في نشاطنا الزراعي القائم »في أرضنا.. ملكنا« ويتساءل: في حالة التنفيذ من يضمن ان المستثمرين سيعرضون الانتاج في السوق المصرية بنفس اسعار الانتاج الخاص بارضينا من يضمن الا تكون بنفس اسعار الاستيراد النارية؟!. ويضيف د. نادر أنه حان الوقت لرد الاعتبار بقطاع الزراعة الذي يستوعب اكبر نسبة عمالة في مصر.. وحول المفارقة الراهنة. ومحاولات تغييب الوعي بجدوي القطاع الزراعي يشير الي انه من غير المنطقي ان نتحدث عن التوسع في الرقعة الزراعية بالاستصلاح والاستزارع في الصحراء.. بينما نهدر اراضي الدلتا بتعديات المباني.. بل ونستمر حتي الان في هذا الاهدار رغم ان قيمة الفدان وجدواه في الدلتا تماثل 5 اضعاف الفدان الصحراوي!. ثم اذا كنا جادين في استيعاب الكثافة السكانية والتخطيط لتلبية احتياجاتها والتعامل مع متغيرات المناخ فلماذا الصمت علي مسلسل الاهدار للاراضي الزراعية المنتجة للغذاء؟!. انتظار أنت منتج.. وأنا مستهلك لذلك يهمك أن اظل دائما في دائرة الاستهلاك بعيدا عن الانتقال لدائرة الانتاج.، وهذا يؤكد ان كلام وزير الزراعة الامريكي في احدي مفاوضات منظمة التجارة العالمية »الجات« كان ذات معني ومغزي. قال »إن الفكرة القائلة بأن علي الدول النامية ان تأكل من إنتاجها، هي واحدة من مفارقات عصر مضي.. أما الآن فإنه بوسع هذه الدول ان توفر لنفسها أمنا غذائيا افضل بالاعتماد علي المنتجات الزراعية الامريكية التي يمكن توفيرها في اي وقت«!. هذا الكلام للوزير الامريكي معناه ان الدول المنتجة للغذاء لم يكفها عائد حجم ما تصدره حاليا للدول النامية- ومصر منها- إنما تنتظر إن تتوقف هذه الدول تماما عن انتاجها المحلي ليزيد تصديرها- اي الدول المنتجة- ويتضاعف عائدها مرات ومرات!. والدكتور عبدالسلام جمعة- رائد زراعة القمح- في حالة انتظار هو الاخر لكن انتظاره في اتجاه اخر- ينتظر ان تعي الحكومة اهمية انتاج اراضينا الزراعية للغذاء- وضرورة الضرب علي اصحاب التعديات بيد من حديد.. فهو يري ان الاراضي القديمة بالوادي والدلتا لن يتم تعويضها بأرض اخري.. لانها تكونت منذ ملايين السنين وتعد من اخصب الاراضي الزراعية علي مستوي افريقيا كلها.ويطالب بالا تدخل المجاملات في تخطيط وتنفيذ الاحوزة العمرانية.. فليس مقبولا استقطاع ما بين 100-200 فدان كحيز عمراني من كل قرية.. وليس معقولا انشاء المصانع واقامة المنشآت التجارية علي الارض الزراعية والصحراء مازالت تبحث عن السكان والعمران. كما يطالب د. جمعة باتخاذ قرار جريء لحماية الزراعة من الضياع بإعلان اراضي الوادي والدلتا محمية طبيعية.. فهل يتحقق ذلك.. الاخبار تشارك د. جمعة حالة الانتظار.