أتابع ماحولي، ليس واقعا، لكنه مجرد صور، صور بعيدة عني رغم قربها، لحظة لم أعرفها من قبل يتساوي فيها القرب والبعد محمولا .. إلي البرج ما من علامة، ما من اشارة، لاخفقة شاردة، لا نبضة في غير موضعها أو خارج سياقها المنتظم منذ بدأ الخفقان قبل اكثر من خمسة وستين عاما، في العاشرة والربع مساء الاثنين قبل الماضي، هكذا اجتزت الباب المؤدي إلي الاستراحة الجديدة الانيقة والتي استدعت إليّ المطار الجديد، المكان مؤطر بالمرايا، في الانتظار سيدة مصرية جميلة، معلمة، بنت بلد، كأنها تجسيد لاحدي بطلات نجيب محفوظ، ابتسامتها، جلستها جعلتني ألقي التحية بمودة، نتبادل الحديث، مكان الانتظار تغير بالكامل، كل شيء نظيف، ناصع، دورة المياه مثالية بعد ان كان دخولها محنة في الطابق الاول لضيوف البرامج والمترددين والعاملين. كل شيء عادي، أو هكذا خيل إليَّ لكن من غرائب الامور، ان الانسان لا يعرف بالضبط ماذا يجري داخله هو، صحيح ان الامور متصلة ولكن القوانين التي تتحكم فيها جزء منا ومستقلة عنا، كثير من الكدورات تترسب، يترك كل منها اثرا لا نشعر به، أو ملمحا لا ندركه، مع الزمن نصل إلي لحظة يجري فيه لنا ما سمعنا انه وقع لاخرين، نظن ان ذلك لن يلحق بنا ابدا، منذ اسابيع اعتذر لصديقي محمود التميمي معد برنامج »مصر النهاردة« الاسباب عديدة، منها الرغبة السائدة عندي الان في التواري تماما عن العمل العام وتخصيص ما تبقي للادب، لم اعد قادرا علي تلك الازدواجية التي عشت بها عمري كله، النهار للمعاش والليل للادب، ايضا الزهد في الاكثار من الظهور بالتليفزيون، خاصة انني اقدم برنامجا اسبوعيا في قناة النيل، وقناة تعيد ما قدمته عن القاهرة القديمة، تحت إلحاح محمود وبتأثير محبتي لخيري رمضان جئت التقيت علي باب الاستديو بصديقي عماد الغول المخرج المتميز. قبل دخولي مباشرة استمعت إلي الدكتور احمد بهجت يتحدث عن اطلاق قناة جديدة باللغة الامهرية موجهة إلي اثيوبيا، خطوة رائعة نتمني ان يقابلها وجود اعلامي مصري ينقل لنا ملامح هذا البلد الجميل، الذي لم اعرف ثراء طبيعته إلا من الصور. صافحت عددا من العاملين في الاستديو، وعانقت خيري رمضان، عندما جلست في مواجهته شعرت ان ثمة شيئا غير عادي في حنجرتي، كأن صوتي يتعثر في الخروج، أو تتخلل الالفاظ خيوط غير مرئية تمسك به، رحت اتأمل المكان، وتفاصيل الديكور الحداثي، وملامح خيري رمضان الطيبة، كنت ادقق في التفاصيل قبل الظهور المباشر، لم ادر السبب الذي جعلني اقول لخيري انني الليلة مش مضبوط وانني لست في افضل حالاتي، سألني عما اذا كنت في حاجة إلي يانسون أو نعناع، شكرته، وخلال ثوان بدأنا. العاشرة والربع الاثنين: موضوع الحوار، رؤية لمستقبل مصر، المشاكل والرؤي، قلت انني من جيل نما علي اعتبار الشأن العام ادق خصوصية، لذلك يتقدم الشأن العام علي جميع ما يخصني، ولأنني اعرف تاريخ مصر إلي حد ما، فإن اشد ما اتمناه وأحرص عليه سلامة الدولة المصرية، والدولة مفهوم اشمل من النظام، النظام نسبي، متغير، والدولة مستمرة، الدولة تعني النهر والشجر والبشر والرمل والحجر والاصل والظل، والماضي والحاضر، انني في مرحلة اخشي فيها علي الدولة، الروح القبلية تأخذ مكان المؤسسات، وما يجري بين المحامين والقضاة دليل مخيف، اخطر ما يتهدد الدولة الان نهر النيل وما يجري عند منابعه، لقد ادارت مصر ظهرها لافريقيا منذ السبعينيات والسبب اعلاء الشخصي علي العام، منذ تولي الرئيس السادات وبدأ منهجه لتصفية ما يمت إلي عبد الناصر، كان وضع مصر في افريقيا جزءا من التركة، كان الحضور المصري في افريقيا قويا، وكان مدير مكتب الرئيس لشئون افريقيا السيد محمد فائق امد الله في عمره ممسكا بجميع الخيوط في افريقيا. لماذا لم يتجه اليه احد للاستفادة بخبرته في ازمة مياه النيل الاخيرة؟ من ثوابت الدولة الحفاظ علي علاقات طيبة بأثيوبيا، حوفظ علي هذا في جميع العصور، حتي عصور المماليك باضطراباتها ولكن الرئيس السادات اخل بالثوابت عندما عادي نظام ما نجستو الذي كان يوصف بانه شيوعي وفي التسعينيات تدهورت العلاقات بعد حادث اديس ابابا، وما كان المفروض ان تصل الامور إلي ما وصلت اليه. لقد بدأ الاهتمام بافريقيا في اثناء تولي الوزيرين احمد ماهر، ثم احمد ابوالغيط وفي حدود ما اعلم، فإن اكفأ الدبلوماسيين الان هم الذين يعملون في سفارات افريقيا، اضافة إلي مؤسسات الدولة الثابتة، المنضبطة وعلي رأسها الأمن القومي، تحدثت عن اخطاء وزير الري السابق الذي يجب ان تتم محاسبته، وايضا عن مشروع توشكا الفاشل الذي اهدر مدخرات المصريين، وضرورة محاسبة رئيس الوزراء الاسبق كمال الجنزوري الذي يلوذ بالصمت وكأنه يمسك بالاسرار الكبري، تحدثت عن اقرار مبدأ المحاسبة والمساءلة في النظام كأحد اهم عوامل سلامة الدولة، وضربت مثالا بوزير الاسكان الحالي الذي تحوم حوله شبهات قوية، ومازال في موقعه، قلت لو ان ما تردد حوله جري في اي بلد اخر لتقدم بنفسه إلي النائب العام طالبا التحقيق معه، ان عدم المحاسبة في الدولة ينتقل إلي المؤسسات الاصغر، يصبح امرا مستقرا، ومن هنا ترتكب المخالفات والجرائم، قلت ان الوحدة الوطنية من اسس سلامة الدولة، ولابد من العمل الدؤوب لانني اشعر باتساع الشرخ بين المسلمين والاقباط قلت ان قدسية الحدود من سلامة الدولة، وما من دولة كان للحدود فيها شأن مثل مصر منذ آلاف السنين، ضربت مثالا بما ترتب علي اتفاقية كامب ديفيد في الحدود المصرية حتي ان استباحتها صارت ممكنة من حماس، وطالبت بمحاسبة المسئول عن تخصيص مائتي الف فدان لأمير عربي في منطقة حدودية حساسة، يمكن ان تصبح مستوطنة خاصة ان لهذا الامير علاقات قوية بشخصيات صهيونية ومؤسسات لا اتصور انها تضمر للعرب ولمصر بالتحديد خيرا، من اجل سلامة الدولة لابد من اقرار مبدأ العدل الاجتماعي، افضت في هذه النقطة، من اجل سلامة الدولة لابد من نهضة قوامها التعليم، هكذا بدأ محمد علي، وهكذا شرع عبدالناصر، نظام تعليمي متكامل، مصري المضمون، عالمي ايضا، وليس علي طريقة الدكتور احمد زكي بدر التي تفتقد الرؤية. تلك العناصر الاساسية لرؤيتي من اجل الحفاظ علي سلامة الدولة، كنت اتحدث محاولا ان اكون مركزا وواضحا، لكن قرب نهاية الجزء الاول من اللقاء كنت قد وصلت إلي حال لم اعرفه من قبل نفسي تقطع، وما من قرار، التنفس دورة، انقطعت عندي الدائرة، لم تعد متصلة، لاحظ خيري تشحط صوتي، قلت ضاحكا انها فكرة مثيرة، الموت علي الهواء، الموت مع البث المباشر، نهاية غريبة، قال خيري »بعد الشر..« هذه الجملة اسمعها بدهشة في الفترة الاخيرة، ليس في الموت شر، انه انتقال من حال إلي حال، عبور، ويبدو ان الانسان يتهيأ لهذا الحال، حتي اذا جاء اوانه يتلقاه باعتباره من حقائق الوجود، كنت ابذل الجهد للتماسك، حتي لا انهار تماما، يبدو ان اخي عماد الغول المخرج والذي يراني بدقة قد ادرك ما يمر بي، فوجئت به يدخل مسرعا، لم يخف عليّ الانزعاج البادي علي وجهه، همس لي اذا ما كنت احتاج طبيبا، هززت رأسي نفيا، اذن.. ألا تريد شرابا ساخنا، مرة اخري أبيت، لكنني علمت فيما بعد انه قال لخيري بضرورة الاسراع في انهاء اللقاء لأن وجهي غير مطمئن، عندما وصلنا قرب النهاية كانت المساحات تتسع بين الكلمات، وحشرجة تتصدرها، الصور بدأت في الوضوح، ولا مكان للهواء، للحياة، كنت اقارب العبور حتي انني عندما شكرت خيري في نهاية اللقاء كنت اسأل نفسي: اهذا هو؟ الحادية عشرة إلا ربعا : في الممر خارج الاستديو بدأت افقد القدرة علي التنفس تماما، لم يكن من السهل تحديد مركز لهذه الحالة، أهو القلب؟ أم الرئة؟ ام شيء اخر، كان آتيا من جميع الجهات وكأن خيمة ضخمة غير منظورة تسدل علي وجودي كله، فقط اتابع ما حولي ليس باعتباره ولكن كل ما يقع عليه بصري صور، صور لواقع اعرفه ولكنني قصي عنه، هذا جدار، هذه نافذة، هذا خطوي، إلي جواري المخرج عماد الغول، محمود التميمي، اخرون لا اعرفهم، كل هذا يمكن ان يغيب، هل سيختفي تدريجا، ام فجأة في هذه اللحظات يصبح الانسان علي الخط الفاصل، لا يعرف أحد هنا ام انه هناك؟ ثمة حال لا يمكن تشخيصه أو تحديده. في الممر جاء من الجهة المقابلة طبيب الطواريء في التليفزيون لم يعلق بالذاكرة إلا ملامحه التي توحي بأصول ريفية طيبة، قال انه ارتشاح رئوي، هذا ما شخصه فيما بعد الدكتور جلال السعيد، انضم إلي المحيطين بي، رتب عماد كل شيء، استدعي عربة الاسعاف الخاصة بالتليفزيون، وضع الطبيب قناع الاوكسجين وبدأ العمل علي الفور في تركيب انبوب مثبت في اليد بحيث يتم دفع المحاليل، والادوية عبره مجرد الوصول إلي المستشفي. قبل خروجي من المبني، قلت لعماد، اتجه بي فورا إلي مستشفي البرج، طلبت ايضا بما تبقي لي من طاقة الاتصال بالدكتور جلال السعيد الذي تربطني به صلة انسانية عميقة وصداقة قوية، فهو ليس العالم الكبير بأمور القلب فقط، انما مثقف رفيع، وخلال رحلة عمرها اكثر من عشرين عاما توطدت صلة ومحبة متبادلة، انه من جيل الاطباء المصريين العظام، الذين اتقنوا علمهم في مصر ثم جامعات العالم، معروف جدا في الولاياتالمتحدة، وله زيارة عمل سنوية، علمية وعملية، انه احد القلائل الذين يمكن الاتصال بهم علي مدي اربع وعشرين ساعة. لايغلق هاتفه المحمول ابدا، لي تجارب ومواقف عديدة معه خلال السنوات الماضية. راح محمود يبحث بسرعة عن الاسم في هاتفي المحمول، وعندما بدأ يحادثه شعرت بلواح الامل، لم اعرف انه كان في المنصورة، لكنه طلب من محمود الاتجاه فورا إلي برج الاطباء بالمهندسين حيث يقع مستشفي البرج المتخصص في القلب، منذ سنوات سألته اثناء فحص دوري في عيادته إلي اين اتجه في القاهرة لو دفعت لي أزمة مفاجئة؟ قال علي الفور بطريقته المختصرة، إلي مستشفي البرج. مازالت اذكر ذلك، لا .. انما بدقة احتفظ باسم المستشفي كعلامة في ذاكرتي، ومنذ فترة كنت اتحدث مع الكاتب الكبير سلامة احمد سلامة، فذكر اسم المستشفي واشاد به، لم اكن اجري فحوصا بالمستشفي، في عيادة الدكتور جلال قرب ميدان باب اللوق، هكذا جري الامر في السنوات الماضية. عندما تحين اللحظات الفاصلة، لا يمكن لإنسان ان يتنبأ بمكان سيحل به، أو اشخاص سيحيطون به، خاصة في مصر التي يتطوع فيها الناس بطيبة قلب وصدق للمعاونة والمساعدة عند حلول الصعب. اتمدد فوق النقالة داخل عربة الاسعاف، لكم اجتزت شوارع القاهرة في مركبات مختلفة، بدءا من سوارس التي كانت تجرها الخيول، حتي التراموايات والحافلات والقطارات، انها المرة الاولي التي اقطع الشوارع متمددا في عربة اسعاف، داخلها الاصدقاء عماد ومحمود، واخرون، ويتبعنا الحاج صلاح بسيارة دار اخبار اليوم المخصصة لي، والذي رافق كل مشاكلي. ليلا في عربة اسعاف، تطلق الصوت المرتبط بالاسعاف، من قبل كنت اسمعه، يخص الاخرين احيانا ابالي واحيانا لا اهتم، لكنه هذه المرة يخصني، العالم مترابط، وما يحدث في مكان قصي يؤثر في مكان ابعد، مباريات المونديال خففت الزحام الليلي الصيفي، في شوارع القاهرة خاصة في منطقة المهندسين، اتاح هذا للسائق المدرب ان يندفع بأقصي سرعة وكان احد الركاب معنا يصف له الطريق سمعته يقول »مستشفي العجوزة« كان ينصح بالدخول من جواره إلي شارع عبدالمنعم رياض، في مثل هذه الظروف تصبح الاماكن مجرد اسماء، ربما يثير بعضها ذكريات ما، في هذا الخضم تطل وجوه الاقربين، تختزل السنين وتوالي الايام والمشاعر والمواقف والنواصي والمفترقات في اللحظات الآنية، عندما وصلنا إلي امام المبني الضخم، سارع رجال الاسعاف بإنزال النقالة، الحق انهم كانوا يؤدون واجبهم بمهنية عالية، اولئك الذين حملوني إلي الطابق الثالث حيث يقع المستشفي ودفعوا بي إلي الداخل اولئك الذين لم اعرف اسماءهم، وربما لن ألتقي بهم ابدا. من ديوان الشعر العربي قال امير الشعراء احمد شوقي: وأن المجد في الدنيا رحيقٌ إذا طال الزمانُ عليه طابا