الثلاثاء 16 ديسمبر: اكتشفنا بعد أن ودعنا اكوادور أنه فاتنا زيارة أهم وأشهر مزاراتها، وهو جرز جلاباجوس، وللحقيقة فإن زوجتي أستاذة الفيزياء علوم الطبيعة هي التي ظلت تلح علينا بضرورة زيارة هذه الجزر التي تقع علي بعد 900 كيلومتر داخل المحيط. لكن الأغلبية اختارت تمضية اليوم في المدينة الكبيرة لمزيد من التعرف علي إكوادور بعد أن تبين أن الذهاب إلي جلاباجوس وسيلته المتاحة في الساعات التي سنمضيها السفر بالطائرة فور نزولنا إلي الميناء والعودة في المساء قبل دقائق من تحرك الباخرة. لم نقدر أهمية تلك الجزر إلا في المساء عندما عدنا إلي الباخرة ووجدنا القناة التليفزيونية الداخلية للباخرة تعرض فيلما ومحاضرة مسجلة أعيدت مرارا عن هذه الجزر البالغة الأهمية في تاريخ العلوم والبشرية بسبب الأنواع النادرة الموجودة فيها من حيوانات وطيور ونباتات. ومن هذه الكائنات التي مازالت بالجزر أضخم أنواع السلاحف وسباع البحر, وبعض الطيور التي لا ميثل لها في مكان آخر. وبسبب الأهمية الخاصة لهذه الجزر فقد قررت منظمة اليونسكو عام 1986 اعتبارها محمية بشرية وإحاطة السياحة إليها بقيود شديدة حفاظا علي أنواع الكائنات الفريدة. وبرغم أن الأسبان كانوا أول من وصل إلي هذه الجزر عام 1535 م ثم استولت عليها الاكوادور وأعلنت ضمها عام 1832 م إلا أنها لم تنل شهرتها إلا بعد أن زارها العالم البريطاني الشهير شارلز داروين وما أعقبها من توصله إلي نظرية أصل الأنواع. وقد دخل داروين (1809 1882) في البداية كلية الطب ليتخرج طبيبا في جامعة أدنبرة كما كان يتمني والده, لكنه بعد سنتين في ادنبرة ترك دراسة الطب وذهب إلي جامعة كامبرج لدراسة اللاهوت (علم المعتقدات المسيحية) استعدادا للعمل كاهنا في إحدي الكنائس إلا أن القدر شاء أن يلتقي في كامبريدج باثنين من كبار العلماء في تخصصيهما: آدام سيدويك عالم الجيولوجيا, وجون ستيفن عالم التاريخ الطبيعي، وقد كان لهما تأثير كبير عليه في تعليمه كيف يكون شديد التدقيق في التفاصيل وفي مراقبة الكائنات وظواهرها. ولم يدخل داروين الكنيسة كما كان يخطط فبعد تخرجه من كامبردج عام 1831 في سن 22 سنة اختير ليكون ضمن بعثة تقوم برحلة بحرية علمية حول العالم فوق السفينة بيجال المتخصصة في الابحاث. وكانت مهمته فيها دراسة الظواهر الطبيعية والحفريات في المناطق التي يمر بها. وقد استغرقت الرحلة خمس سنوات زار داروين خلالها جزر جلاجابوس وقد لاحظ أن كل جزيرة من هذه الجزر تعيش فيها نفس الأنواع من السلاحف والطيور إلا أن لكل نوع طبيعة خاصة مختلفة عن نفس النوع في الجزر الاخري, سواء من حيث السلوك أو طرق التغذية. هذه الملاحظات قادته إلي نظريته التي ظل يعمل فيها 24 سنة إلي أن ضمنها كتابا صدر عام 1859 عنوانه أصل الأنواع. وربما كان أبسط توضيح لهذه النظرية ما قاله عنها عالم الأحياء أرنست ماير أكبر مؤيدي داروين وقد لخصها في النقاط التالية: 1 كل نوع من الكائنات يملك القدرة الكافية لإنتاج نوعه, وتكاثره بالطريقة الخاصة به(يلد/يبيض/يلقح) إلا أنه لو عاشت ذرية أحد هذه الأنواع كاملة وتناسلت باستمرار لغطي أفرادها سطح الأرض. ومثال ذلك السمكة التي تضع نحو ربع مليون بويضة لنا تصور لو بلغت جميعها ووضعت كل منها ربع مليون بويضة وهكذا.. إلا أن الذي يمنع ذلك أنه في كل مرة تضع فيها أي سمكة أي عدد من البويضات لاينجو منها سوي عدد قليل, كما لا يصل إلي سن التبويض سوي عدد أقل. حتي أبطأ الحيوانات تناسلا وهو الفيل لو فرض أن تناسلت ذرية زوج واحد منه, واستمرت في التناسل دون نقص لأصبح هناك 19 مليون فيل في مدي 750 سنة، ولهذا فبرغم تكاثر أي نوع من الكائنات إلا أن تعداده يبقي تقريبا واحدا.( ملاحظة مني: ربما كان الاختلاف في الإنسان الذي يزداد بصورة مستمرة نظرا لتوصله إلي وسائل العلاجات من الأمراض مما رفع متوسط العمر). 2 المصادر وأهمها الغذاء محدودة إلا أنها نسبيا مستقرة علي مر الزمن, مما يؤدي إلي صراع للبقاء بين الأنواع ووقوع ضحايا. 3 الأفراد داخل مجموعة أي نوع من الكائنات يختلفون من واحد للآخر, كما أن معظم هذه الاختلافات تورث للجيل التالي. 4 يحدث أحيانا ألا يستطيع بعض الأفراد أو السلالات التعايش مع البيئة التي وجدت فيها فتصبح أقل قدرة علي البقاء والتكاثر وهو ما يفسر اكتشاف انقراض أنواع من الكائنات. أما الأنواع والسلالات التي تستطيع التلاؤم مع بيئتها فتصبح أكثر قدرة علي البقاء والتكاثر. ومع الزمن تأتي السلالات بتغييرات تجري ببطء ويتم توريثها وتراكمها حتي تشكل نوعا جديدا. وتأكيدا لذلك يري داروين أنه قديما كانت هناك زرافات كثيرة لها رقاب مختلفة الطول بقيت من بينها الأكثر طولا لملائمتها للبيئة، وهي وحدها كانت لها القدرة علي البقاء والتناسل, أما قصيرة الرقبة التي لم تستطع مقاومة البيئة فقد انقرضت. ومازال الذين يزورون جزر جلاباجوس اليوم يمكنهم مشاهدة عدد من الحيوانات العملاقة الضخمة، فهناك السلاحف وعدد من السحالي الضخمة والطيور, وهناك شعور بالخطر علي هذه الكائنات يقلق العلماء بعد أن وجدوا الإنسان يرحل إلي هذه الجزر، ومعه عادات البشر, وايضا ما يمكن أن يجلبونه إلي الجزر من أعداء لحيوانات الجزر مثل الفيران، مما جعل أصدقاء الطبيعة وحماة البيئة يكونون جماعات ضغط هدفها إعادة العزلة التي كانت عليها الجزر لتنعم كائناتها بالحماية والبقاء! * نقلا عن جريدة الاهرام المصرية