الخرافة قرينة الضعف والعجز وقلة الحيلة. ولذلك كانت لصيقة بحياة الانسان في مهدها علي الأرض. كان الإنسان ضعيفا أمام قوي الطبيعة عاجزا عن فهم ظواهرها وقوانين حركتها. كما كان قليل الحيلة إزاءها خالي الوفاض من إمكانات التعامل معها. ولم يكن في استطاعة الإنسان, والحال هكذا, إلا اللجوء إلي تفسيرات خرافية للظواهر الطبيعية. فكانت الخرافة هي أداته في فهم ماكان يحدث حوله, وفي التعامل معه, إلي أن بدأ في إدراكه تدريجيا مع ازدياد قدراته في مواجهة الطبيعة. ومع الوقت, حلت التفسيرات والمناهج العلمية محل الخرافة التي ظلت باقية في كثير من جوانب حياة الانسان وتفكيره. وفي هذا السياق لم تعد الطبيعة هي المجال الرئيسي للخرافة, وإنما السياسة والمجتمع والفكر. فما أكثر الخرافات التي ظهرت في هذا المجال حتي الآن في بلادنا وبعض بلاد غيرنا. وتندرج الدعوة إلي إقامة جمهورية برلمانية في مصر الآن ضمن هذا الإطار, من حيث إنها قرينة ماتعرضت له المعارضة الرشيدة من عوامل تجريف أضعفتها إلي الحد الذي يعجزها من الإحاطة بالواقع وحسن إدراكه, ويفتح الباب أمام أشكال من الرفض السياسي الجديد تتسم بنوع من البدائية وقد أختلطت بفجاجة ملحوظة. فالجمهورية البرلمانية هي أحد أشكال الحكم التي قد تساعد علي تحقيق ديمقراطية تضرب بها الأمثال, ولكنها قد تؤدي في ظروف أخري إلي دكتاتورية الأغلبية وتغلق الباب أمام انتشار الحرية في المجتمع. ولذلك يصبح من قبيل الخرافة النظر إلي النظام البرلماني كما لو أنه وصفة سحرية لتحقيق الديمقراطية. فهذا نظام يمكن أن يكون مرتعا لدكتاتورية الحزب الذي يحصل علي الأغلبية البرلمانية فيسيطر علي السلطة التشريعية ويهيمن بالتالي علي السلطة التنفيذية إذا لم تكن هناك تقاليد ديمقراطية مستقرة وراسخة. النظام البرلماني, إذن يحتاج إلي مثل هذه التقاليد لكي يكون ديمقراطيا. ولذلك فإذا لجأنا إليه في غياب التقاليد التي تضمن ديمقراطيته, فهذا يعني أننا خرافيون في نظرتنا إلي المشكلة التي تواجهنا وفي تفكيرنا إزاءها وفي الحل الذي نعتقد أنه مناسب للتعامل معها. وإذا كان النظام البرلماني يفصل بين رئاسة الدولة التي يجعلها شرفية بالأساس ورئاسة الحكومة التي تملك كامل السلطة التنفيذية, فهو يدمج هذه السلطة في السلطة التشريعية دمجا محكما يمكن أن يعطل دور هذه الاخيرة تماما في مراقبة الحكومة ويجعلها تابعا أمينا لها ورجع صدي لسياستها وقراراتها. ولايحول دون ذلك إلا وجود تقاليد ديمقراطية تضع حدا لهذا النوع من التسلط الذي يعرف بدكتاتورية الأغلبية, التي يمكن أن توجد أيضا في النظام الرئاسي. غير أنه في هذا النظام توجد فرصة لتجنب دكتاتورية الأغلبية, إذ يستطيع الناخبون الاقتراع في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في اتجاهين مختلفين. وفي هذه الحالة, يأتي رئيس الدولة من حزب ورئيس الحكومة من حزب أو ائتلاف حزبي آخر. وهذه فرصة ذات طابع موضوعي, بمعني أنها لاتتوقف بالضرورة علي وجود تقاليد ديمقراطية راسخة. إنها فرصة متاحة للناخبين دائما ويتوقف الأخذ بها من عدمه علي خياراتهم. كما أن في إمكانهم الإمساك بها غدا إذا دعوها تفلت منهم اليوم. فقد يقترع الناخبون رئاسيا وبرلمانيا في الاتجاه نفسه علي نحو يؤدي إلي هيمنة حزب واحد علي رئاسة الحكومة. ولكنهم يستطيعون تغيير اتجاه التصويت في الانتخابات التالية لإنهاء هذه الهيمنة وتوزيع السلطة لتنفيذية بين أكثر من حزب. ولذلك يعتبر هذا النوع من النظام الرئاسي, الذي تتوزع السلطة التنفيذية فيه بين رئيس دولة ورئيس حكومة لكل منهما صلاحيته, هو الأكثر ملاءمة في مراحل التطوير الديمقراطي. فهذا نظام يساعد في إرساء تقاليد ديمقراطية مع الوقت, بخلاف النظام البرلماني الذي يصعب تصور أي إسهام له في هذا المجال. وإذا كان الأمر كذلك, تصبح الدعوة إلي جمهورية برلمانية في ظروفنا الراهنة نوعا من التفكير الخرافي مضمونا وشكلا. فإلي جانب أن الجمهورية البرلمانية لاتدعم أي تطور ديمقراطي, فهي غير ممكنة في حالتنا الآن بدون تغيير جذري وكامل في النظام السياسي وإصدار دستور جديد تماما. وفي مثل هذا السياق, لايمكن أخذ هذه الدعوة مأخذ الجد إلا من جانب من يؤمن بالمعجزات التي تعتبر رافدا من روافد الخرافة. فإذا نأينا بأنفسنا عن طريق الخرافة, قد يكون في إمكاننا السعي إلي تغيير محدود, ولكنه يمكن أن يحدث أثرا كبيرا في حياتنا السياسية, وهو إعادة توزيع الصلاحيات داخل السلطة التنفيذية علي النحو الذي يتبناه حزب التجمع اليساري. ولكن دعوته اليه تضيع وسط الصخب السياسي والإعلامي الغالب الآن. ولايحتاج ذلك إلي أكثر من تعديل في عدد من مواد الدستور معظمها في الفصل الثالث في الباب الثالث, أي الفصل الخاص بالسلطة التنفيذية في الباب المتعلق بنظام الحكم. فكل ما هو مطلوب تعديل في النظام الرئاسي نفسه بحيث يظل رئيس الدولة هو المسئول الأول عن السلطة التنفيذية, مع حصول رئيس الحكومة علي صلاحيات أوسع نسبيا في رسم وتنفيذ السياسة العامة. ولكي يستقيم هذا التوازن الجديد, لابد أن تكون رئاسة الحكومة تلقائيا للحزب أو الائتلاف الحزبي الحاصل علي الأغلبية في الانتخابات البرلمانية, وأن تكون نتائج هذه الانتخابات بالتالي هي الفيصل في تعيين رئيس الوزراء, بينما يكون للبرلمان وليس لرئيس الدولة الكلمة الاخيرة في إقالته أو استمراره في منصبه. ويقتضي ذلك أن يكون لمجلس الشعب الحق في سحب الثقة من الحكومة, وأن يكون واجبا علي رئيس الحكومة عرض تشكيلها وبرنامجها علي هذا المجلس لطلب الثقة فيها. وعندئذ يكون رئيس الدولة هو تكليف المرشح الذي يختاره الحزب أو الائتلاف الحزبي صاحب الأغلبية في مجلس الشعب. وفي هذه الحال يكون المكلف رئيس حكومة بالمعني الدقيق وليس مجرد رئيس مجلس وزراء, علي النحو الذي نراه في فرنسا علي سبيل المثال حيث يظل رئيس الدولة هو الرأس الأول والأكبر للسلطة التنفيذية. وفي ظل هذا التعديل, إذا حدث, تصبح الحكومة هيئة سياسية وليست مجرد( الهيئة التنفيذية والإدارية العليا للدولة) وفق الوضع الراهن الذي تنظمه المادة153 من الدستور. كما يتوسع دور رئيس الحكومة ليشمل المشاركة في صنع سياستها العامة والإشراف علي تنفيذ هذه السياسة, وليس مجرد الإشراف علي أعمال الحكومة وفق ماتحدده المادة نفسها. وإذا اقترن ذلك بتعديل المادة77 من الدستور لاعادتها إلي ماكانت عليه حتي عام1980, بحيث يجوز إعادة انتخاب رئيس الجمهورية لمدة أخري وليس لمدد أخري, سيكون نظامنا السياسي الرئاسي قادرا علي التحليق في سماء التطور الديمقراطي أكثر من أي نظام برلماني في ظروف ومعطيات مماثلة. ولو بادر الحزب الوطني بذلك الآن, لاختلف المشهد السياسي تماما وتركز الاهتمام في الانتخابات البرلمانية الوشيكة, وليس في الانتخابات الرئاسية التالية لها. فالتعديل المقترح هنا يزيد أهمية الانتخابات البرلمانية ويرفعها إلي مرتبة قريبة من الانتخابات الرئاسية, بكل مايمكن أن يؤدي إليه من فتح آفاق للمشاركة السياسية لايتطور المجتمع وثقافته في اتجاه الديمقراطية بدونها. نقلا عن صحيفة الأهرام المصرية