المناعة ضد الفيروس الأجنبي, لم تتردد أمام جبروت فرنسا بونابرت, أوبريطانيا فيكتوريا, أو أمريكا كائنا من يكون علي رأسها. ولم يكن الفقر, ولم يكن التخلف التكنولوجي, ولم تكن الأمية, ولم يكن أي ظرف من ظروفنا السيئة, حائلا دون المواجهة, ولادون المقاومة. الدرس الكبير المستخلص من تاريخ مصر المعاصرة, هو تقوية جهازنا المناعي ضد فيروسات الهيمنة الأجنبية. نحن أمة بحكم موقعنا المفتوح علي بحرين, والمتمركز في ملتقي قارات ثلاث, والساكن في قلب اليابسة كلها متفتحون علي الأجنبي, مرحبون به, قادرون علي التواصل معه اعترافا وتعايشا وتعاونا واستيعابا. ولكن, في الوقت ذاته, وبحكم أصالتنا التاريخية, ومركزيتنا الحضارية, ووضوح هويتنا, نكره طاعة الأجنبي, وننفر من خدمة الأجنبي, ونرفض الخضوع الأجنبي. لهذا, فإن كل ثوراتنا إنما كانت ضد الأجنبي. وكذلك فإن كل زعمائنا هم الذين لهم باع في مقاومة الأجنبي. وأحب هنا, أن اكشف اللثام عن نقطة تغيب عن بال الكثيرين. كل زعمائنا الذين تميزوا بالصلابة الوطنية في مواجهة الأجنبي, كانوا جميعا ودون استثناء من رموز الاعتدال, ومن رموز الانفتاح, ولم يكن واحد منهم رمزا للانغلاق أو التعصب أو العنصرية أو التطرف القومي. الأزهريون وتجار القاهرة الذين وقفوا في وجه الامبراطورية الفرنسية وقائدها بونابرت كانوا من رموز الاعتدال ومن دعاة الانفتاح, وأغلبهم من أوساط الطبقات المستنيرة والمستريحة ماديا وأدبيا. ضباط الجيش الذي تزعمهم عرابي ضد بوادر التدخل الانجليزي, كانوا مثقفين, يؤمنون بالدستور, وأغلبهم كانوا أصحاب توجهات ليبرالية, وبعضهم من جذور ارستقراطية, وكانوا في مجملهم يمثلون نخبة وطنية مصرية ولكن ذات توجهات وميول أوروبية حديثة. مصطفي كامل وشباب الحزب الوطني, الذين أشعلوا الأرض نارا تحت أقدام الانجليز, تقريبا كانوا جميعهم ذوي ثقافة أوروبية وخاصة الفرنسية, الي حد يمكن معه وصفهم بأنهم كانوا يمثلون جذور الفرانكفونية في مصر. سعد زغلول ومدرسة الوفد, التي تمثل أول حركة وطنية يعرفها العالم كله بعد الحرب العالمية الأولي, هي كذلك مدرسة جذورها وطنية, ولكن مرجعتيها الثقافية والقانونية والدستورية, كانت ذات انفتاح شديد علي أوروبا, هذه المزاوجة بين صلابة الجذور والانفتاح علي أوروبا, جعلت من الوفد عدوا لدودا للامبراطورية البريطانية ليس في مصر وحدها, وانما في كل مستعمراتها, ويكفي ان مدرسة الوفد المصري كانت نبعا من الإلهام تقتبس منه مدرسة غاندي في الهند. ضباط الجيش المصري بزعامة عبد الناصر, لم يخرجوا عن هذه القاعدة, فالجيش كان أكبر روافد التحديث, وكان أكبر نوافذ الانفتاح, وابناؤه بعد اتفاقية1936 جاءوا من صفوف الحراك الاجتماعي الصاعد, جاءوا من طين هذا البلد, من ريفه وحضره, أنجزوا معجزة الاستقلال, وحققوا حلم الجلاء, ونقلوا مصر من عهد الي عهد, ومن تاريخ الي تاريخ. خلاصة الدرس: ثوراتنا كلها كانت ضد الأجنبي وزعماؤنا كلهم كانوا منفتحين علي الأجنبي, بل كانوا يستخدمون مرجعياته في مواجهته, مرجعيات الاستقلال, السيادة, الدولة الوطنية, حقوق الأوطان, تقرير المصير, وحدة بني الانسان, العدالة, الإخاء, المساواة, السلام العالمي. تاريخنا المعاصر, هو جسر طويل وعريض علي أحد أطراف هذا الجسر نقاوم التدخل الأجنبي وعلي الطرف الأخر من الجسر ننفتح عليه ونبسط له يد التعايش والتعاون. ومايقال في السياسة والعسكرية, ينسحب علي الفنون والآداب, فما كان يفعله عمر مكرم وأحمد عرابي ومصطفي كامل وسعد زغلول ومصطفي النحاس ومحمد نجيب وجمال عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك. جاء متوازيا مع ابداعات عبد الله النديم وسيد درويش وسلامة موسي وقاسم أمين ومحمد عبده وأحمد شوقي وطه حسين وعباس العقاد وأحمد أمين والبهي الخولي وأحمد لطفي السيد وعبد الرحمن بدوي ولويس عوض ومحمود شاكر ونجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس ومحمد عبد الوهاب وكمال الطويل وأم كلثوم وعبد الحليم حافظ الي آخر القائمة الثرية لرموز الإبداع في هذا البلد. (2) هذه المناعة ضد الفيروس الأجنبي, هي التي خلقت مصر الحديثة, وهي التي وضعت هذا البلد في قلب السياسة العالمية, وهي التي حجزت لمصر موقعا أعلي من أي موقع آخر في ترتيب القوة علي الصعيدين العربي والإقليمي. هذه المناعة ضد الفيروس الأجنبي, لم تتردد أمام جبروت فرنسا بونابرت, أوبريطانيا فيكتوريا, أو أمريكا كائنا من يكون علي رأسها. ولم يكن الفقر, ولم يكن التخلف التكنولوجي, ولم تكن الأمية, ولم يكن أي ظرف من ظروفنا السيئة, حائلا دون المواجهة, ولادون المقاومة. هذه المناعة تبقي صامدة, علي اختلاف أحقاب الزمن, ورغم اختلاف ماتعاقب علي مصر من أنظمة حاكمة تداولت علي مقعد السلطة والنفوذ. مصر في عهد الملكية رفضت الأحلاف العسكرية, وكذلك فعلت مصر في عهد الجمهورية. مصر في عهد الملكية أرسلت القوات المسلحة المصرية للدفاع عن فلسطين العربية, وكذلك فعلت مصر في عهد الجمهورية دفاعا عن فلسطين, ودفاعا عن سوريا, وتحريرا لكامل ترابنا الوطني. هذه الاستمرارية رغم اختلاف العهود تؤكد ان مناعة الكيان المصري ضد الفيروس الأجنبي, هي صفة ثابتة تلازم وجودنا في كل الأحول والأطوار. هذه مقدمة لازمة لكل من يريد أن يرصد وقائع مايجري في العالم العربي خصوصا وفي الشرق الأوسط عموما, من تحولات نري القليل منها, وينكشف بعضها بالتدريج, ويبقي أكثرها مطويا في دهاليز الاتصالات الدولية التي تتفاعل في كل اتجاه. (3) كثيرون لم يفهموا علي نحو صحيح قول الرئيس مبارك إن العالم العربي يمر بأحسن حالاته. * أمريكا خرجت منهزمة من العراق, خرجت مضروبة بالجزمة, تم تكريم بوش بفردتي حذاء من شاب عراقي بسيط, الرسالة أعمق مما نتصور هي خاتمة سياسات قامت علي السلاح, وخاتمة رؤية استهانت بشعوب هذه المنطقة, وخاتمة حقبة في تاريخ أمريكا نفسها. الجزمة لم تسقط فقط علي رأس بوش, إنما سقطت علي رأس أمريكا نفسها رسالة الاحتقار لم تقتصر علي شخص بوش, وانما وصلت الي قلب الهيمنة الأمريكية. في السنوات الثماني الماضية, اهتزت أمريكا مرتين: مرة في11 سبتمبر2001 وعلي أثرها, دقت طبول الحرب ومرة ثانية14 ديسمبر2008 في وداع بوش بالجزمة في العراق, وعلي أثرها خرجت فكرة الحرب من العقلية الأمريكية. فقد السلاح الأمريكي هيبته, وفقد مشروعيته, وفقد أخلاقيته, وهذا كله ينسحب علي الوجود العسكري الأمريكي, ولن تفكر أمريكا أبدا في حرب جديدة في الشرق الأوسط قبل أن تمضي عقود من الزمن. الدعاية الأمريكية تحاول اخفاء هزائمها عن أعين الرأي العام, ولكنها تنسي ان هذه الهزائم تسكن لا اراديا في وعي صانع القرار الأمريكي وتحركه وتوجهه سواء كان علي ادراك لذلك أم غاب عنه الادراك. خلاصة ماسبق, قدرة أمريكا علي إملاء ارادتها في العالم العربي, هي اليوم أقل مما كانت عليها, قبل بوش وأثناء عهده. * إسرائيل هي الأخري انهزمت عسكريا ثلاث مرات, مرة بالانسحاب من جنوب لبنان, ومرة بفرجة الأرض عليها وهي تحارب منظمة مسلحة اسمها حزب الله لمدة ثلاثة وثلاثين يوما, هزيمة معنوية أصابت غرور القوة المسلحة الاسرائيلية, وعاد العالم ليتفرج علي إسرائيل وجيشها علي مدار شهر كامل يقتل الأطفال والنساء في غزة. وصول التطرف اليمني الي سدة الحكم الاسرائيلي, هو هزيمة الأكذوبة الديمقراطية الاسرائيلية, صناديق الانتخابات هي عندهم مرتع لتمرير الاجرام والانحراف والعنف والارهاب والديمقراطية الإسرائيلية لم تعد أكثر من آلية للتصويت علي الدموية التي باتت السمة الغالبة لإسرائيل مجتمعا ودولة. الديمقراطية الإسرائيلية هي أداة لفرز مجرمي الحرب ومحترفي العدوان والاختيار من بينهم. ونأتي الي أخطر المقاتل التي تضرب المشروع الصهيوني, وهو اعلان يهودية الدولة الإسرائيلية, وهو في الواقع اعلان عن نهاية هذه الدولة وإفلاسها, وإفلاس كل من يناصرها ويدعو لها, انها ارتداد بالمجتمع الانساني الي كهوف ومتاحف تاريخية لم تحدث اصلا الا في خرافات اليهود واساطيرهم. اسرائيل تقدم نفسها علي أنها مشروع للحداثة في محيط تقليدي, وها هي اليوم تنتكس وترتد وتكشف عن أقبح الوجوه التي يمكن ان يظهر بها مجتمع أو تظهر بها دولة, أو تظهر بها أمة. يهودية الدولة الإسرائيلية مزنق عميق وأخدود غائر يدخله المشروع الصهيوني برمته يهودية الدولة إعلان عن تراجع في مواهب وملكات القيادة في إسرائيل, وهي الآن تتراوح بين الجند القادمين من الجيش, والمدنيين القادمين من المهاجر والملاجئ والمنافي, وليس فيهم صاحب رؤية بل كلهم يتخبطون. وخلاصة القول في هذه النقطة, ان خطر اسرائيل علي اسرائيل أكبر من خطر اسرائيل علي العرب. (4) لم يكن السفير القدير سليمان عواد في حاجة الي المزيد وهو يشرح اقتناع الرئيس مبارك بأن الخلافات العربية في طريقها الي الانتهاء. 1 مصر لديها رسالة عربية, وعليها واجب عربي, ولها مصالح في محيطها العربي. 2 مصر أعادت شمل العرب للالتئام في النصف الثاني من الثمانينيات. 3 مصر وقفت الي جانب العراق في حربه مع ايران. 4 مصر وقفت الي جانب الكويت حتي تحررت. 5 مصر تلتزم بأمن الدول العربية علي الخليج, وترفض التهديدات الايرانية. 6 مصر وقفت الي جانب سوريا إزاء التهديدات التركية علي خلفية حزب العمال الكردستاني. 7 مصر رفضت الحرب الأمريكية علي العراق, ورفضت المشاركة فيها, ورفضت اضفاء الشرعية عليها, وتحملت حماقات بوش التي كانت في جوهرها حربا علي مصر امتدت طوال فترتي حكمه. 8 مصر ترفض المساس بعدالة القضية الفلسطينية, وتصر علي انها جوهر الصراع والحرب, وعلي أنها جوهر السلام والتسوية. 9 مصر ترفض هيمنة القوي غير العربية, سواء كانت إيران أو إسرائيل أو تركيا. 10 مصر ترفض قلب المعايير والأوزان في العالم العربي, لاتصادر علي طموح أي دولة عربية, ولكنها ليست مع الفوضي التي تعطي أدوارا مصطنعة لدول صغيرة, خدمة لمخططات أجنبية, تستهدف خلق حالة من الفوضي في العلاقات العربية العربية. التاريخ لايتوقف عن الجريان, وصراع الأمم لايتوقف عند محطة, وحيوية الشعوب وقدرتها علي مواجهة التحديات تبقي أكبر من كل ظن وأكبر من كل تقدير. ليس أمام مصر الا ان تواصل مسيرة الاستقلال, وقدرها ان تؤدي واجباتها العربية في لحظة مهمة وحاسمة. * بعد11 سبتمبر2001, كان العرب أمة محل اتهام. هذا تاريخ انتهي, وزال ماترتب عليه من ترتيبات اقليمية فرضتها الادارة الأمريكية. بعد14 ديسمبر2008, بعد وداع بوش بالجزمة, بدأ تاريخ جديد, أمريكا محل ادانة ومحل شك وهيمنتها محل رفض واستنكار. * بعد4 يونيو2009, بعد خطاب أوباما في جامعة القاهرة, أعلن أوباما بداية عهد المصالحة التاريخية, ولكن المصالحة لاتكفي وحدها لتحديد المصالح وتعريفها. * المصالحة تعني انتهاء الهيمنة علي طريقة بوش, ومن باب أولي, يجب ان تعني انتهاء الهيمنة علي أي طريقة كانت. * انفاسنا في حاجة الي الراحة نحن نتنفس هواء أمريكيا, تصريحات أمريكية, صورا أمريكية, جولات أمريكية, دعاية أمريكية, وعودا أمريكية, أمريكا سحابة تغطي السماء فوق رءوسنا. من حقنا أن نحظي بفترة استراحة, بفاصل ولو قصير من حقنا أن نحلم بشرق أوسط دون هذا الحضور الأمريكي الكثيف لانريد اخلاء الشرق الأوسط من الحضور الأمريكي الشامل, لكننا نريد التوازن, نريد لحظة من الهدوء نستريح فيها من الرقابة الأمريكية التي تكاد تحصي حبات الرمال في صحاري العرب. * نحن في حاجة الي مناعة اقليمية, الاقليم في حاجة الي باب والغرباء في حاجة ليتعلموا آداب الاستئذان. *الأهرام المسائي