علم جديد سيرفرف في سماء أوروبا بلونه الاحمر ونسره الكوسوفي الاسود ، ودولة اخرى ''سابعة'' تم استيلادها من ''بقايا'' الاتحاد اليوغسلافي السابق، الذي انتهت عملية تفكيكه وفق السيناريو الاميركي الاوروبي، الذي اراد طي اخر ''افرازات'' الحرب العالمية الثانية، والتي انعكست في صورة توسع سوفياتي (اقرأ شيوعي)، طال شرق وبعض وسط اوروبا، كذلك جمهوريات البلطيق الثلاث وكانت يوغسلافيا بما استطاع جوزيف بروز تيتو تجسيده على الارض، ووضع ست جمهوريات هي صربيا، الجبل الاسود، مقدونيا، كرواتيا، سلوفينيا والبوسنة والهرسك، تحت راية واحدة هي الاتحاد اليوغسلافي، ''الصخرة'' الاخيرة التي اراد الغرب، وخصوصاً الولاياتالمتحدة الاميركية تحطيمها، بعد ان انهار الاتحاد السوفياتي ''واستقلت'' جمهورياته الاربع عشرة واختفى حلف وارسو من ''الخرائط''.. واذ باتت كوسوفو دولة مستقلة وعضواً لاحقاً في الاممالمتحدة (في حال لم تستخدم روسيا حق النقض في مجلس الامن)، فإن من المهم الاشارة الى اسباب بروز كوسوفو على مسرح احداث الاتحاد اليوغسلافي، الذي كانت الحرائق ''القومية'' ونزعات الاستقلال قد اشتعلت في جنباته وبدأ تواتر الروايات، الاميركية والبريطانية دائماً، عن مذابح ومقابر جماعية واجتياحات يرتكبها الصرب، الذين يشكلون الاغلبية العددية داخل الاتحاد ويتواجدون في معظم جمهوريات الاتحاد بهذه النسبة أو تلك، وفي كوسوفو تصل نسبتهم الى 10% من عدد السكان الذين لا يتجاوزون المليوني نسمة، ويعيشون على مساحة من الارض اكثل بقليل من مساحة لبنان (10900 كم 2)سلوبودان ميلوسيفتش هو من ارتكب الحماقة الاولى وأوصل بلاده الى ما غدت عليه، بعد ان صرف النظر عن الجرائم التي ارتكبت بحق ابناء القوميات الاخرى الذين طالبوا بالاستقلال او أقل منه، ويبدو ان المتطرفين والمتعصبين الصرب قد استطاعوا اقناعه بأن القوة وحدها هي الكفيلة بالمحافظة على ارث تيتو (الكرواتي بالمناسبة) والابقاء على تماسك الاتحاد رغم الرياح العاتية التي هبت على جمهوريات الاتحاد السوفياتي، ورغم ما افرزته المتغيرات التي عصفت بموازين القوى الدولية واوصلت العالم بداية العقد الاخير من القرن الماضي الى وضع فريد يستدعي نموذج ''روما القديمة'' وهو جلوس الولاياتالمتحدة الاميركية ''وحيدة'' على هرم القيادة العالمية، وتفردها في اتخاذ القرارات التي تحمل ظاهرياً دعم حق الشعوب في تقرير المصير واختيار النظام الذي يناسبها ونشر الحرية والديمقراطية (والمثل والقيم الاميركية على رأس جدول الاعمال بالطبع)، لكنها في واقع الحال ليست سوى اعادة ترتيب ورسم جديد للخرائط، يستهدف في جملة ما يستهدف، الغاء كل ما ترتب على الحرب العالمية الثانية من نتائج وتوظيف كل ما آلت اليه الحرب الباردة (من واقع ووقائع) في صالح المشروع الامبراطوري الاميركي تمهيداً للعبور الى القرن الجديد، الذي لم يتورع رهط المحافظين الجدد تسميته بالقرن الاميركي (القرن الحادي والعشرين) في قراءة ساذجة وتبسيطية للتاريخ الذي ظنوا انه انتهى وتم حسم معركة الافكار والايديولوجيا لصالح الرأسمالية التي شقت (لاحقاً) طريقاً جديداً بعد تكريس العولمة ونشر ثقافة السوق والخصخصة وقوانين وانظمة منظمة التجارة العالمية والاستقرار على ما بات يوصف بالنيوليبرالية، وصفة ''اجبارية'' يجب على الدول، وخصوصاً في العالم الثالث، التزام تعليماتها تحت طائلة العقوبات. عودة الى حماقة ميلوسيفتش.:- الرئيس اليوغسلافي الذي يبدو انه بات أسير نظرته الجامدة وقراءته الساذجة للمتغيرات التي عصفت بالمشهد الدولي واعتقد ان التشدد وخصوصاً استخدام القوة، قادر على تجنيب يوغسلافيا (الموحدة على الخرائط فحسب) المصير البائس الذي بات عليه الاتحاد السوفياتي في اواخر عهد غورباتشوف، ما دفع ميلوسيفيتش الى ارتكاب غلطته التاريخية التي كلفته حياته في النهاية (فضلا عن تفكيك يوغسلافيا واعادة صربيا الى حجمها الطبيعي) عبر اتخاذ ''مرسوم'' في العام 1989 بالغاء الحكم الذاتي الذي كان يتمتع به اقليم كوسوفو بموجب قرار كان اتخذه الرئيس اليوغسلافي السابق جوزيف بروز تيتو في العام 1974. منذ ذلك القرار، الذي عكس الفارق الشاسع بين بعد نظر وحكمة تيتو الذي غدا اخر رئيس شيوعي ليوغسلافيا قبل تفككها، هذا التفكك الذي ما كان ليحدث لو كان حياً، وبين حماقة وقصر نظر ميليوسيفيتش، بدأت يوغسلافيا رحلتها نحو الهاوية والتقسيم، ولم يخرج ألبان كوسوفو عن طريق المطالبة بالاستقلال الناجز بعد ان ''أنكر'' عليهم ميليوسيفيتش والدائرة المحيطة به من المتعصبين الصرب، حقهم في ''الحكم الذاتي''، الذين ارتضوا الصيغة التي طرحها عليهم تيتو في وقت مبكر من السبعينيات ولم تكن بوادر ''التصدع'' قد ظهرت على الاتحاد السوفياتي، بل ربما يكون الاخير قد سجل ''نصرا كبيراً'' في احدى معارك الحرب الباردة، عندما بدأت تلوح في الافق الهزيمة المنكرة التي سيلحقها بعد عام (1975) الفيتناميون المدعومون من موسكو، بالولاياتالمتحدة الاميركية ونظام ''الدمى'' الذي اقاموه في فيتنام الجنوبية. جمهورية كوسوفو، اسم جديد في عالم الدول ''الاوروبية'' التي قامت على اسس قومية، ومن خلال معادلات الاستقطاب وتحسين المواقع الاستراتيجية، لكن استقلالها لن يكون بدون ثمن وستدخل هذه الدولة الوليدة اعتبارا من اليوم منطقة التجاذب ولعبة المحاور والسجالات السياسية الدائرة الآن على الساحة الاوروبية، وبين موسكو وواشنطن والتوتر الآخذ في التصاعد بينهما ولن تكون ''صربيا'' بعيدة عن ذلك، وربما تغدو مقراً لأكثر من قاعدة عسكرية ''روسية'' متقدمة في الصراع المتجدد بينهما.