في اليوم السابق علي انتخابات ولاية تكساس الحاسمة روت كارين هيوز التي استقالت مؤخرا من موقع المشرف علي الدبلوماسية العامة بالخارجية الأمريكية وابنة تكساس والجمهورية الصلبة قصتين طريفتين عن المطاردة التي قام بها فريق حملة أوباما لكل من لهم الحق في التصويت طالما أن الولاية تسمح للديمقراطيين والجمهوريين بالتصويت المفتوح في الإنتخابات التمهيدية. في الواقعة الأولي رن الهاتف في منزلها بمدينة أوستن ففتحت سماعة الهاتف لتجد علي الخط سيدة تقول' أنا ميشيل أوباما'! فما كان من زوج' هيوز' أن قال لها' أرفعي السماعة.. أجيبي ميشيل'! وفي الواقعة الثانية طرقت سيدة مسنة من أصول إسبانية جرس منزل هيوز لتبادرها بالقول' أدعوكي للتصويت لمصلحة أوباما' فردت هيوز' لكني صوت بالفعل' فما كان من السيدة العجوز إلا أن قالت لها متلهبة' هل صوتي لأوباما'. وأبدت هيوز ل' الأهرام' إستغرابها لشيئين أن الجماعات التي تروج لأوباما تطرق الأبواب بجسارة ولا تفرق بين جمهوري وديمقراطي. والأمر الآخر أن الأمريكيين من ذوي الأصول الإسبانية يساندون هيلاري كلينتون ولم تتخيل تحول بعضهم علي هذا النحو السريع لمرشح آخر مرددين وراءه الشعار الجديد' نعم.. نستطيع' في إشارة إلي التغيير الذي ينشده.. لكن أوباما عاد بعد يومين بخيبة أمل من تكساس.. في تفسير ما يحدث في السياسة الداخلية الأمريكية يصاب المرء بالحيرة ذاتها التي تغلف محاولة فهم السياسة الخارجية لهذا البلد. فمن كان يصدق الصعود الصاروخي لباراك أوباما المرشح الأسود حديث العهد بطرق واشنطن الصعبة او ما يعرف اليوم ب الولع بأوباما بعد فوزه ب11 ولاية منذ الثلاثاء العظيم في فبراير الماضي. ومن كان يتخيل دفن المجتمع الأمريكي لجزء لا يستهان به من تراث العنصرية في صورة الدعم الانتخابي من مختلف الطبقات وفي مقدمتهم الكثير من البيض للسيناتور ذي الأصول الكينية. ومن يتخيل الاستهجان الصريح من اليمين واليسار لمحاولة بعض المتشددين في الإعلام الأمريكي استغلال وجود' حسين' في الإسم الثلاثي لعائلة أوباما ودعوة الكل إلي تجاوز تلك السقطات والتركيز علي القضايا الحيوية. لكن هناك شواهد علي رفض القوي التقليدية سياسيا واجتماعيا لمبدأ صعود سياسي مثل أوباما ويرون أن حسابات إنتخاب الرئيس الذي هو' قائد القوات الأمريكية' مسألة مختلفة تماما في الانتخابات العامة في نوفمبر وهو ما برز في إنتخابات اوهايو وتكساس قبل أيام.. فماذا حدث ليصعد ثم يهبط؟! لماذا يكسب؟! عوامل عديدة قفزت بأوباما إلي الواجهة وغيرت خريطة السياسة الداخلية في الولاياتالمتحدة: * لم تعد العقيدة المحافظة في السياسة الأمريكية تحظي بالمساندة والدعم نفسه الذي كانت عليه في السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين بتأثيرات عديدة أهمها نهاية الحرب الباردة والعداء التقليدي بين الاتحاد السوفيتي السابق والولاياتالمتحدة وغياب الإلهام الأيديولوجي الذي كان يمثله رونالد ريجان نتيجة فقر الفكر لدي النخب الجديدة في الحزب الجمهوري وسقوط المحافظون الجدد في الاختبارات العديدة التي سنحت لهم في عهد بوش الإبن نتيجة تركيزهم علي السياسة الخارجية ذات النزعة التدخلية في الدول الأخري دون إسهام مبدع في قضايا الداخل. كما أن التصور الخاص بدور الحكومة في المجتمع الأمريكي والذي يمثل أحد دعائم الفكر المحافظ قد أصابه الإختلاط والإلتباس نتيجة تبني سياسات في التطبيق هي عكس ما يدعو اليه المحافظون نظريا مثل مدي إمكانية منح الحكومة مساحة أكبر في مراقبة الشأن العام وتنظيم العلاقات في قطاعات البيزنس من عدمه. الممارسة تقول أن الجمهوريين صاروا يفعلون عكس ما ينادون به من تقليص دور الحكومة بينما أرتقت رؤية الديمقراطيين التي تدعو إلي تدخل الدولة النشط في تسيير حركة المجتمع علي خلفية مخاطر العولمة الاقتصادية كثيرا في السنوا ت القليلة الماضية. ويقول محللون إن الحكومة الكبيرة قد سقطت في كارثة' كاترينا' عندما فشلت وتعرت أمام الرأي العام, وأن الطرف الوحيد الحريص علي بقاء الحكومة قوية هو القوات المسلحة الأمريكية. * ظهور جيل جديد من الأمريكيين يتجاوز التصنيفات الأيديولوجية بين اليمين واليسار والليبرالي والمحافظ وهو الجيل الذي يندفع في اتجاه مساندة الوجوه الشابة غير التقليدية في ظل تأزم وليس تراجع صورة الولاياتالمتحدة علي الساحة الدولية. ويبني هذا الجيل تصوراته من واقع الخبرات الراهنة خاصة بعد حوادث11 سبتمبر2001 التي أثبتت فشل النزعة الأحادية للسياسة الأمريكية في طمأنة الداخل الأمريكي بشأن الأمن القومي أو صعوبة تكرار سيناريوهات مفجعة علي غرار الهجمات الشهيرة. ويطلق البعض علي هذا الجيل' جيل ما بعد فيتنام' الذي يرفض السياسة الأمريكية في شكلها التقليدي الراهن والذي دار في فلك أسرتين فقط في البيت الأبيض هما بوش وكلينتون لمدة28 عاما منذ ظهور جورج بوش الأب نائبا للرئيس ريجان في مطلع الثمانينات. ويمثل هذا الجيل رصيدا قويا للديمقراطيين في انتخابات الرئاسة في نوفمبر المقبل حيث ينتظر أن يكون الإقبال من تلك الشريحة غير مسبوق ولا يعلم الجمهوريون ما الذي يمكن فعله لوقف تلك الموجة. وغالبية الزيادة في تصويت الديمقراطيين في الانتخابات التمهيدية بين الشريحة التي يقل دخلها عن100 الف دولار سنويا. وهناك ارتفاع هائل في إقبال المصوتين من الشباب في الشريحة العمرية من18 إلي29 سنة, والبالغ عددهم43 مليونا وهو ما يمثل ظاهرة جديدة علي المجتمع الأمريكي. * الأداء السيئ والانفعالي لبعض أجنحة التيار الرئيسي للإعلام الأمريكي- الصحف وشبكات التليفزيون الكبري- التي عمقت الانقسام في المجتمع وزادت من الفجوة بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري لسنوات طويلة بحيث لم يعد التوافق بين الحزبين في الكونجرس حول قضايا اساسية موجودا بالمرة. ودفعت السياسة الأمريكية ثمنا باهظا لحالة الاستنفار التي تسببت فيها وسائل الإعلام ذات التوجه المحافظ المتشددة سياسيا ودينيا بحيث صارت الولاياتالمتحدة تبدو كما لو كانت بلدين مختلفين تماما في أعين أبناء الداخل والمراقبين من الخارج. وقد نجح أوباما في تحييد قطاعات كبيرة في الشبكات والصحف الكبري رغم حداثة وصوله إلي واشنطن نائبا في الكونجرس عام2005 وبالمقارنة بتاريخ هيلاري أو ماكين مع الصحافة الأمريكية حيث لم يلجأ إلي الأساليب الدفاعية لتبرير مواقفه أو الاختباء من المراسلين الصحفيين وهو ما أعطاه ميزة في مواجهة وسائل الإعلام. * دخول الأقليات العرقية عنصرا مؤثرا في السياسة الداخلية الأمريكية نتيجة ارتفاع أعدادهم مقارنة بالتعداد العام مثلما هو الحال بين ذوي الأصول الإسبانية والسود وارتقاء درجة الوعي بين تلك الأقليات بتأثير النقاش حول قضايا الهجرة في مجتمع قامت الدولة فيه علي أكتاف المهاجرين من شتي بقاع العالم(64% من السود ديمقراطيون و30% من الأسبان ديمقراطيون و40% مستقلون). وتلعب الأقليات اليوم دورا محوريا في ترجيح كفة مرشح علي حساب اخر في انتخابات الرئاسة فالأسبان' البروتستانت' لعبوا هذا الدور لمصلحة بوش في ولاية فلوريدا في إنتخابات2000 واليوم يحاول الحزبان تأمين أصوات تلك المجموعات تحسبا لإنتخابات شرسة في نوفمبر. لكن من عوامل تفوق أوباما هو عدم سعيه لبناء تحالفات عرقية' السود-الأسبان' ولكن حملته تركز من البداية علي تجاوز الاختلافات العرقية والدينية بين الأمريكيين حتي لو تعثر في الولايات الكبري. * لعبت العوامل السابقة دورا في ميل ذوي التعليم الجيد والمثقفين والطبقات الفقيرة إلي أوباما مرشح التغيير بحيث إرتفعت نسبة من يعتبرون أنفسهم ديمقراطيين إلي41% من الأمريكيين مقابل31% جمهوريون في إحصائيات شهر فبراير الماضي وهي أعلي نسبة يسجلها الحزب الديمقراطي في تاريخه والتي دعمتها الإنتصارات الكبيرة في إنتخابات الكونجرس في أواخر عام2006. لماذا يخسر؟ * صعوبة إختراق الكتل التصويتية الراسخة في الولايات الكبري ذات الأغلبية البيضاء مثل اوهايو وكاليفورنيا وفلوريدا وماساسوسيتش وتكساس حيث الغالبية التي تحسم النتيجة من الرجال والنساء البيض الذين مازالوا متمسكين بالتصويت لشخصية مثل هيلاري وليس وافدا جديدا علي السياسة الداخلية مثل أوباما بخلاف الولايات الصغيرة التي تشهد تنوع عرقي أكبر. ويأتي هذا الفشل في الوقت الذي يميل السود بنسبة كاسحة لمصلحته وجمع من الشباب تقف وراءه لكن هؤلاء لم يعوضوا إستمرار الغالبية البيضاء- الطبقة الوسطي البيضاء العاملة- في دعم هيلاري. ويقول جمهوريون وديمقراطيون معا إن الرئيس الأمريكي هو قائد القوات فلا يمكن تصور صعود أوباما من المجهول قبل سنوات قليلة إلي منصب قائد القوات. * تمكن بعض حملات الدعاية من سمعة أوباما فيما يتصل بسجله التصويتي في المجلس التشريعي لولاية ألينوي ومجلس الشيوخ الأمريكي حيث يروج منافسوه لغيابه عن التصويت في قضايا حاسمة عديدة وإهمال ترأسه للجنة الفرعية حول أفغانستان في الشيوخ في الشهور الأخيرة من الحملات الإنتخابية وهو ما قامت حملة كلينتون بالتعظيم منه في الأيام الأخيرة دون رد قاطع من حملة أوباما. وتشير أرقام تكساس إلي قيام ثلثي الناخبين المترددين من الذين لم يحددوا موقفهم قبل التصويت بثلاثة أيام بالتصويت لكلينتون. كما أن إستمرار الإقتصاد الموضوع الأول للحملة في مصلحة هيلاري وعودة شعبيتها بين الطبقات العاملة. * وتؤثر في حملة اوباما ما يتردد عن قيام مساعديه بالإتصال بجهات مؤثرة في الخارج مثل الحكومة الكندية وإبلاغها بأنه لا يجب التعويل كثيرا علي ما يقوله في الحملة بشأن ضرورة مراجعة إتفاقية التجارة الحرة بين دول أمريكا الشمالية' نافتا' ولسبب ما قامت الحكومة الكندية بتسريب محتوي اللقاءات. * قيام الجمهوريين في بعض الولايات المهمة بالتصويت لمصلحة هيلاري كلينتون علي حساب باراك أوباما مثلما حدث في ولاية تكساس الأسبوع الماضي حيث أظهرت الاستطلاعات أن2% من الذين شاركوا في الإنتخابات التمهيدية للديمقراطيين من الجمهوريين الذين سجلوا أنفسهم يوم الانتخابات علي أمل ترجيح كفة هيلاري علي حساب أوباما لأنهم يعتبرون هيلاري صيدا سهلا لماكين بخلاف أوباما الذي يمثل الشباب والحماس والتغيير الممكن.؟