الأهرام: 20/11/2008 * عندما تصدر محكمة الجنايات يوم الأحد الماضي قرارا بحظر النشر, في جميع وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية, عن قضية مازالت منظورة أمامها, معلنة في الوقت نفسه إباحة نشر قرارات المحكمة ومحاضر الجلسات وما يصدر فيها من أحكام, وتأكيد استمرار علانية الجلسات, وتكشف في قرارها عما لوحظ من كثافة الإعلام ومناقشة القضية وتوجيه الرأي العام بما يعد تدخلا في شئون العدالة, وكان قرار المحكمة قد أتي بعد إحالة القضية من النيابة العامة, إلي المحكمة منذ أول سبتمبر الماضي.. حيث انطلقت بعدها الصحافة والإعلام تعوض ما فاتها في أثناء حظر التحقيقات, فظلت ماضية في النشر والبث يوميا علي صفحاتها وبرامجها وحواراتها, بالصور والتحقيقات ومواد الاتهام وأدلة الثبوت, وصارت مادة النشر والحوارات مادة مثيرة استهوت الرأي العام.. وتخطت المعقول واللامعقول. * عندما تصدر المحكمة قرارها بحظر النشر المحدود بعد نحو ثلاثة أشهر من الإحالة والمحاكمة, تكون وبحق قد انتصرت لمهابة العدالة, والحفاظ علي حيادية الرأي العام.. واحترام الحقوق والحريات.. وإعلاء قرينة البراءة, بل إن القرار يكشف بين طياته في الوقت نفسه عن دعوة إلي مناقشة الأسباب التي دفعت إلي هذا الحظر, مناقشة مهنية موضوعية قانونية, ودعوة لممارسة الرقابة الذاتية في كيفية المعالجة الإعلامية حول قضايا الرأي العام أمام المحاكم, والتوفيق بينها وقرينة البراءة.. وحق المعرفة والعلم وسط الرأي العام, لنستفيد من الدروس من أجل المستقبل ترسيخا للحرية المسئولة. * وكنت قد كتبت في هذا المكان خلال, أكتوبر/ نوفمبر, وأطلقت عدة صرخات متواصلة, عن المعالجة الإعلامية لقضايا الرأي العام, وعن امتهان العدالة بمناسبة ما جري علي الساحة أخيرا من صور هزلية, وطالبت بحتمية المواجهة, كما كتبت أيضا عفوا صاحبة الجلالة ثم كتبت ناقدا وداعيا أصحاب المقام المجالس العليا, ملحا لإنقاذ العدالة من حالة الامتهان التي تتعرض لها.. والحفاظ علي حقوق الناس وحرياتهم وحرماتهم.. وعلي قرينة البراءة التي حماها الدستور ليظل الإنسان علي حاله منها ولو كان متهما , وحتي يثبت العكس بحكم القضاء, وهي قرينة دستورية حماية لكل الناس, معاتبا الإعلام علي ما يجري من نشر الحوارات والمحاكمات للرأي العام بعيدا عن ساحة العدالة.. فيصدر حكمه بفضل الإعلام والصحافة علي الناس قبل أن يفرغ القضاء من المحاكمة وصدور حكمه الذي يعتبر وحده عنوانا للحقيقة. * ومع طول عهد ما كتبت وما كتب غيري من الأقلام العاقلة الحكيمة, لكن الواقع الإعلامي كان أقوي وأشد يسير في اتجاه مضاد ومعاكس بخطي واسعة شرسة أكثر ضراوة, فعلي حين كتبت محذرا من التأثير علي الرأي العام.. ومشفقا علي العدالة وحريات الناس وحقوقهم فيما ينشر من تحقيقات وقضايا في أثناء المحاكمات.. لأن مثل هذا النشر يضع سلطة التحقيق والحكم في حرج شديد.. ويجعل العدالة في خطر لأحد أمرين, إما أن تتجه المنصة للرأي العام وتترك الأوراق فيكون الخطر عظيما.. وإما أن تلتزم المنصة بالأوراق وهذا هو الأصل ولا تعبأ بالرأي العام.. وعندها قد يتصادم الحكم مع الرأي العام فيقع الامتهان والاتهام والشائعات.. وتصبح العدالة في موقع الاتهام والخطر, وهو ما قاله تماما وعبر عنه وزير الحقانية علي ماهر باشا في تقرير عرضه علي مجلس الوزراء بجلسة1932/11/14 أي منذ أكثر من خمسة وسبعين عاما!! إذ بينما تتجه كل كتاباتي وغيري من أصحاب الأقلام الحكيمة صوب هذا المقام.. كان الواقع الإعلامي أشد تنافسا قلب الدنيا رأسا علي عقب.. فازدادت مساحات النشر والتعليق حتي وصلت إلي الأحكام ذاتها قدحا أو مدحا.. وتزايدت البرامج والحوارات عن تحقيقات وقضايا مازالت في دور التحقيق والمحاكمات.. حتي صارت بذاتها ساحة للنقاش والتحقيقات والدفاع بلغت حدا لم يسبق له مثيل.. فاستباحت كل شيء.. وخرجت علي كل القواعد والأصول.. وناقشت الأدلة وساقت أخري.. وأبدت رأيا.. وحكمت.. وربما وقع السباب والاتهام.. فخرجت عن دائرة القضية ذاتها!!. * ثم تجاوزت عجائب الدنيا السبع وفاقت عجائبها وازدادت عجبا.. إذ اتجه البعض إلي المناداة بالبث المباشر للمحاكمات الجنائية.. لتتحول ساحات القضاء إلي مسارح مكشوفة للتنافس علي أدوار البطولات والأداء في تمثيل الأدوار أمام الكاميرات والشاشة والرأي العام, والوصول بها إلي المنازل والأماكن العامة مجانا وقت الراحة وربما وقت الجد والعمل.. ولا شأن لذلك كله بالعدالة التي تنتظرها الخصومات وينتظرها الناس جميعا.. لينال المتحاورون الإعجاب والتصفيق.. ليس من أجل العدل والإنصاف بين الناس, ولكن من أجل التسلية وضياع الوقت والشهرة أو الابتزاز أحيانا.. كما امتدت العجائب إلي التعليق علي أحكام القضاء علي الشاشة الصغيرة.. وفي الصحف.. والتسابق في الإشارة أو النقد والامتهان.. والأخطر من هذا فلقد شارك في بث هذه العجائب والغرائب بعض رجال القانون.. والقضاء.. ممن وقعوا فريسة للهوس الإعلامي والزهو وحب الظهور.. فتنامت حالة من الزخم الإعلامي في الطريق المعاكس.. وتعالت الأصوات.. وكادت تسهم بقوتها وطبيعة مادتها, في بث الإثارة والغوص في الأسرار والخصوصيات عدوانا علي الحقوق والحريات وافتراء علي حق المجتمع في الوقت نفسه. * نعم.. لم تكن المعالجة الإعلامية لقضايا الرأي العام منصفة, كما لم تجعل الرأي العام محايدا تجاه ما يجري من تحقيقات أو محاكمات, لأن النشر بطبيعته من شأنه التأثير علي الرأي العام بحكم طبيعة القضايا والتحقيقات وخلق المشاهد والإثارة طولها وعرضها, وموقف المحاور والمتحاور أو الناشر منها ربما بحسن النية أو عدم المعرفة, لهذا لم يقف مجلس القضاء الأعلي من ذلك موقفا سلبيا لكنه تدخل بقرارات منذ عام1986 أي منذ أكثر من عشرين عاما كانت ناعمة أحيانا.. خاطبت كلماته الصحافة والإعلام.. ووجه نداءه إلي المجلس الأعلي للصحافة.. وإلي نقابة الصحفيين ليكونوا ظهيرا للعدالة.. خلفها.. وليس أمامها.. أو التأثير فيها أو توجيهها.. كما خاطب رجال القضاء أنفسهم في الوقت نفسه, مؤكدا أن مهمتهم أعلي من أي بريق إعلامي, ومضت قرارات مجلس القضاء الأعلي.. فكان قرار9 سبتمبر95 قرارا أكثر حسما وصف ما جري بالعبث محذرا من أنه سوف يتصدي لما يجري وبما يقتضيه.. وكان ذلك من عام95 ومن بعد اعوام2002..2004..2006.. ومازال المجلس الموقر علي عهده, وعله يعود إلي مضابط جلساته فينشرها علي رجاله.. وعلي الرأي العام والإعل ام.. ومع كل ذلك.. ظل الحال علي ما هو عليه.. بل تفاقم غلوا في المعالجة الإعلامية وأشد ضراوة, في صورة غير مسبوقة ولعل القضية المتداولة حاليا التي ضجت وسط الرأي العام.. في هذه الأيام واقتضت التدخل بحظر النشر خير شاهد ودليل. * هذا الذي جري يفتح الباب لحوار ونقاش موضوعي بناء.. حول مسئولية الصحافة والإعلام تجاه معالجة قضايا الرأي العام أمام القضاء.. ومسئولية الصحافة والإعلام.. عن نشر العلم والمعرفة وهو حق.. وكيف يجري النشر عن المحاكمات أو الجلسات استمرارا لعلانية الجلسات دون أن يؤثر ذلك علي اتجاهات الرأي العام.. أو تدخلا في شئون العدالة.. وكيف للنشر أن يكون حصيفا حصينا أمينا كما عبرت عنه المذكرة الإيضاحية لتعديل القانون واعتبار النشر تصورا أمينا حكيما محايدا للجلسات لا يؤثر علي اتجاه الرأي العام نحو العدالة, وكلما اتجه النقاش والحوار إلي التصحيح والتصويب بعيدا عن ردود الأفعال.. أو التهديد والوعيد.. كلما كان ذلك انتصارا للصحافة وللعدالة في الوقت نفسه. * تعالوا بنا أيها السادة نعترف هل ذلك الذي جري من النشر عن قضية بذاتها تطالعنا بها الصحف كل الصحف.. ويوميا.. وفي صفحات كاملة.. وحوارات تجري علي القنوات الفضائية بطريقة مثيرة بأحداث مفاجئة.. وبطولات مزيفة في الادعاء والتصريحات عن الجلسات والرأي العام.. وإجراء المباراة بين الدفاع.. والادعاء.. ومخاطبة الرأي العام بالأدلة والبراهين بعيدا عن ساحة المحكمة.. مع أن نصوص القانون واضحة وصريحة.. فقانون المحاماة يقول لنا إنه لا يجوز للمحامي أن يدلي بتصريحات أو بيانات عن قضية يتولي الدفاع فيها أو ينشر أمورا من شأنها التأثير علي سير الدعوي لمصلحة موكله أو ضد خصمه, وقانون الصحافة وميثاق الشرف الصحفي يقولان لنا لا يحق للصحفي تناول ما تتولاه سلطات التحقيق أو المحاكم بما يؤثر علي مراكز من تتناولهم.. وعدم نشر صور المتهمين, وقانون العقوبات يعاقب علي نشر ما من شأنه أن يؤثر علي سير العدالة.. ولهذا كانت قرارات مجلس القضاء الأعلي علي الدوام. * ولماذا لا نحترم الرأي العام.. ونحافظ علي هيئته وهيبته وعدم انحيازه.. ونعزز ذلك بالثوابت والقيم.. ونقاوم أو نغالب شهوة الإثارة.. والشهرة.. واجتذاب المشاهد مهما تكن الأساليب والحيل.. وكل ذلك يصب في مصلحة المشاهد.. والقارئ والرأي العام.. * حقا أيها السادة أن ذلك الذي حدث هو انتصار لمهابة العدالة.. وحماية لحرية الإعلام.. والرأي العام في الوقت نفسه.. واحترام القوانين ومواثيق الشرف وحقوق الناس.. وعلينا أن نصحح أنفسنا.. وننتصر لقيمنا العليا.. وعندئذ تتعانق الحرية مع مهابة العدالة.. لنهتف جميعا بأعلي صوت يحيا العدل.