لعبت بعض قنوات الإعلام لا سيما الإذاعية منها دورا مهمًا في الحشد والتعبئة من أجل تأجيج النزاعات في العقدين الماضيين ليس فقط بسبب الانتقائية الأيديولوجية للمعلومات التي يتم نقلها للمتلقين، ولكن، وهذا هو الأكثر أهمية، لكونها تؤطر الصراع وتخلق المبررات الأخلاقية المدعاة والوقائع التاريخية المزيفة التي تدعم استمرار العنف. وفي خضم النزاعات تتحول وسائل الإعلام إلي أبواق دعاية فجة مثل الصحف التي ما زالت تسيطر الدولة (أو القطاع الخاص) علي سياستها التحريرية ومحتوياتها أو أنها تصبح طرفًا في الصراع ذاته تعجز معه عن مفارقة التحيزات الخاصة لتعبر عن وجهة طرف واحد فقط دون الآخرين. وبالطبع تظل وسائل الإعلام قابلة للاستعمال في كشف جذور الصراع وفضح المنتفعين به وخدمة المصالح الحقيقية لسواد الناس ونشر ثقافة التسامح والسلام وتقديم خدمات حيوية للمتلقين. وصارت الصراعات ذات الثوب العرقي أو العنصري أكثر انتشارا في العالم وخاصة داخل الدول التي تفككت في أوائل القرن الحادي والعشرين. ومنذ انهيار الاتحاد السوفيتي فإن تسعة من كل عشرة صراعات مسلحة هي داخل الدول وتنشأ بسبب نزاعات علي الموارد الطبيعية أو الأراضي ولكنها ترتدي أثوابا عرقية أو ثقافية أو دينية. وقد لعبت أجهزة الإعلام دورًا مهمًا في الصراعات منذ الحرب العالمية الثانية عندما توسع استغلال ألمانيا النازية لهذه الوسيلة عن طريق الأفلام والإذاعة ناشرة رموزها وأساطيرها عن تفوق الجنس الآري علي كل ما عداه نازعة الإنسانية وحق الحياة عن الآخر. وبعد الحرب العالمية الثانية صار استغلال أجهزة الإعلام في أغلبه موزعًا بين المعسكر الغربي بقيادة الولاياتالمتحدة من أجل نشر ما وصف بالديمقراطية وثقافة حقوق الإنسان وحرية الاقتصاد من ناحية والمعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفيتي وسيطرته الشاملة علي أجهزة الإعلام من أجل منع أي تشكيك في قدرات وإنجازات الاشتراكية من أجل البشرية من ناحية أخري. كان الهدف الرئيسي هو التأثير من هذا الجانب أو ذلك علي الرأي العام وعلي توجهات ومعتقدات المتلقين وبالتالي علي سلوكهم نحو الاتجاه المرغوب فيه سواء كان ذلك تمردا علي الحكم الشمولي الشيوعي أو مزيدًا من الإيمان به ومقاومة الإمبريالية والكولونيالية . كان الصراع بصورة أو بأخري بين بناءين أيديولوجيين ضخمين يلونان معه صراعات التابعين لهم في أفريقيا وآسيا. ورغم العلاقات الواضحة لمعظم أطراف هذه الصراعات بجماعات قبلية أو عنصرية أو دينية متعارضة تظل الأسباب الهيكلية لمعظم هذه الصراعات متجذرة في الافتقار داخل مناطق النزاع إلي سياسة مواطنة تعلي من عامل المساواة أمام القانون في وجه أيديولوجيات الهوية الضيقة. والصبغة العرقية أو القبلية أو الدينية تعمل أحيانًا كمحرك مباشر للصراع عقب عقود من الاضطهاد والتفرقة أو تصبح وقودا مغذياُ له. وهذه المواجهات القائمة غالبًا علي أهمية التفريق التراتبي بين نحن و هم تلعب فيها أجهزة الأعلام دور الزيت الذي يمكن المحركات من الدوران إن لم يكن أحيانًا دور الوقود أو فتيل الإشعال. وتلعب أجهزة الإعلام هذا الدور عن طريق تدعيم الصور النمطية والرموز والتحيزات عن الآخر - الذي هو العدو - وأحيانا تصل إلي حد التحريض المباشر علي القتل والعنف. وبينما تلعب الصحف دورًا مهما في تشكيل أفكار وتوجهات النخبة يمارس الإعلام الالكتروني الدور الأهم في التأثير علي الجماهير العريضة. ولأن معظم مناطق الصراعات في أفريقيا وآسيا حيث توجد معظم النزاعات تعاني من تفشي الأمية فإن الإذاعات صارت أكثر وسائل الإعلام أهمية حيث إن إقامة وتشغيل محطاتها أسهل تقنيا وأقل تكلفة بكثير من الإرسال التلفزيوني كما أن امتلاك مذياع وتشغيله أرخص تكلفة. وفي الصومال وأفغانستان علي سبيل المثال تصل نسبة مستمعي الإذاعة إلي ستين في المائة من الشعب. ويمكن للإذاعة علي الموجات القصيرة عبور الحدود كما يمكن بث برامج بلغات عدة وتكلفة الإنتاج الإذاعي أقل بكثير من التلفزيون أو الصحافة. وبالطبع هناك أوجه قصور ومنها الحاجة إلي صحفيين محترفين للغاية يمكنهم بالصوت تعويض غياب الصورة، ولا يمكن كما هو الحال في الصحف إعادة قراءة المقال وإن كان يمكن لعدة أشخاص الاستماع إلي مذياع واحد وهذا شبه مستحيل مع صحيفة واحدة . ولم يكن توزيع أهم صحيفة في رواندا في الثمانينيات يتعدي عشرين ألف نسخة بينما كانت إذاعة الدولة هي الوسيلة المهيمنة لنقل الأخبار. ومنذ العام 1973 حكم الجنرال جوفينال هابياريمانا البلاد وفق سياسات تمييزية لمصلحة عرق الهوتو حتي وصلت رواندا في نهاية الثمانينيات إلي مرحلة من الغليان السياسي مما أجبر الطغمة الحاكمة علي تقاسم السلطة. وفي سنوات قليلة زاد عدد الصحف في مناخ شبه ديمقراطي فظهرت مثلًا صحيفة كانغورا Kangura التي حرضت مرارًا علي الكراهية مثلما اكتشفت محكمة جرائم الحرب لاحقًا. علي سبيل المثال تبنت الصحيفة في أحد أعدادها ما وصفته بأنه الحل النهائي لمنغصات وجود الأقلية التوتسي وكان الحل علي شكل صورة منجل وهي الأداة الزراعية التي استعملت لاحقًا في حصد أعناق وقطع أطراف مئات الآلاف من التوتسي والمعارضين من الهوتو. بيد أن الصحف لم تكن المؤثر الرئيسي بل الإذاعة التي كان يستمع إليها أكثر من ستين في المائة من السكان. وفي مناخ الحرية غير المقيدة كانت مقيدة فقط في وجه الأصوات المعارضة قامت إذاعة RTLM أو مؤسسة الإذاعة والتلفزيون الحر لبلاد التلال الألف في العام 1991 ، وخلال أقل من ثلاثة أعوام وفي جحيم التطهير العرقي، واصلت هذه الإذاعة الحض علي قتل التوتسي عن طريق نشر الإشاعات والصور النمطية والخطابات التحريضية. وعندما حاول وزير الإعلام كبح جماحهم بعض الشيء دافع عنهم الرئيس محتجًا بحرية الصحافة ووصل الأمر بالإذاعة إلي بث أسماء بعينها من المعارضين ومحال إقامتهم وكيف يمكن الوصول إليهم. لقد كان تحرير الإعلام من سيطرة الدولة المطلقة بمثابة التبرير للدولة للتنصل من المسؤولية القانونية حيال انتشار حملات التحريض. وقد فتحت الدولة باب الحرية نتيجة الضغط المحلي من أجل الديمقراطية والضغط الدولي من جانب المنظمات الدولية وجماعات حقوق الإنسان من أجل مزيد من حرية التعبير ولكنها غضّت الطرف عن حرية الحض علي القتل رغم أنها وضعت عقبات في وجه بعض طالبي الحصول علي رخص لمؤسسات إعلامية معارضة . نعمت رواندا بعدة وسائل إعلام مختلفة الأصوات والتوجه، ولكن غياب قواعد محددة وقانون واضح يجرم الحض علي الكراهية والتحريض علي العنف تحت قناع حرية الصحافة، كان سببًا جزئيا في أن تكتسي عديد من تلال رواندا بالدم والأشلاء البشرية بعد أقل من عامين من تحرير الصحافة. ومنذ نهاية الثمانينيات تولت منظومة الأممالمتحدة والمنظمات الأهلية الدولية دورًا أكبر علي صعيد حل النزاعات، وبدأ الإعلام يمثل جانبا هامًا من هذه التدخلات في إطار الدبلوماسية الوقائية، أو حتي في مرحلة الصراع وفيما يليها في مراحل ما بعد الصراع ولملمة أشلاء المجتمع. وتركزت محاولات الأممالمتحدة والمنظمات الدولية غير الحكومية خاصة والحكومات الغربية علي خلق منظومات إعلامية في مناطق الصراعات يمكنها أن تصبح داعية، ليس فقط للسلام ولكن أيضًا للتفاهم عبر حواجز اللغة والعرق والدين، وبالتالي للعب دورين مهمين: - الحد من الأثر المدمر لإعلام الكراهية والحرب ولعب دور إيجابي في نشر ثقافة التفاهم - ليس عن طريق الدعاية الفجة بل بصورة رئيسية عن طريق نزع قناع الشيطان عن وجه العدو وأنسنة الصراعات وتوضيح خريطة الصراع وأصحاب المصالح فيه. وهذا العمل لا يعني فقط محتوي ما تقدمه الإذاعات بل أيضًا القوانين المنظمة لعملها، ومواثيق الشرف المهني، ورفع كفاءة الصحفيين...إلخ. وتتبدل بؤرة العمل بحسب بيئة الصراع. ففي البلدان المتقدمة مثل يوغسلافيا يكون التركيز علي إعداد برامج يمكن بثها في الإذاعات القائمة وتقوية وتغيير الأطر القانونية بينما في الكونغو مثلًا تطلب الأمر إقامة شبكة إذاعية جديدة. وتصاعد تدريجيًا دور الإذاعات في بعثات حفظ السلام وبدأ مجلس الأمن الذي يحدد ولاية وتفويض هذه البعثات يدرج في قراراته الحق في تنظيم حملات إعلامية، سواء كان ذلك عن طريق استعمال وسائل إعلامية قائمة بالفعل أو إنشاء وسائل إعلامية جديدة. ويتشكل هذا الدور وفق الإطار القانوني لتفويض مجلس الأمن، فإذا كان مرتكنًاعلي الفصل السادس من ميثاق الأممالمتحدة يخضع التدخل لمدي تعاون الدولة المضيفة، ويكون في الأغلب مع وسائل إعلام قائمة وفي إطار التعديلات القانونية وتقوية المهارات المهنية؛ أما إذا كان التدخل علي أساس الفصل السابع مما يمنح بعثة الأممالمتحدة حقوقًا تدعمها القوة في بلد أو منطقة انهارت فيها البنية الأساسية بما فيها حكم القانون، فساعتها يصبح تأسيس إذاعة خيارًا أفضل. وبدأت تتشكل ملامح عدة مباديء أساسية لمنظومة إعلامية يمكن نشرها في أجواء الصراع ومنها أن تكون وسيلة الإعلام ذات نفاذ وانتشار واسع مما يفسر التركيز علي الإذاعات في أفريقيا ، الاستيعاض عن الرقابة المباشرة بتبنٍّ صارم للوائح مهنية تفصيلية، مع الاستعانة بصحفيين أجانب علي قدر عالي من الحرفية لإدارة الإذاعات الجديدة أو لتطوير وسائل الإعلام القائمة، تعديل القوانين القائمة أو وضع قوانين جديدة تضمن حرية الصحافة وفي الوقت نفسه تضمن عدم استغلال هذه الحرية في الحض علي العنف أو الكراهية. ويمكن تبين ملامح عدة أدوار رئيسية لهذه الإذاعات من حيث المحتوي الذي تقدمه: 1- مكافحة الصور النمطية السلبية ونشر الحقائق حول الآخر وهمومه ومخاوفه وأيضًا حول مجريات الصراع أو عملية السلام والمصالحة. 2- التوعية بجذور الصراع وكيفية نشأته. 3- نشر الأخبار والمعلومات عن عمليات الإغاثة وتوزيع المساعدات الإنسانية وأوضاع اللاجئين والأوضاع الأمنية ونزع الألغام والسلاح وعمليات الانتخابات. وإضافة إلي الأممالمتحدة فإن اللاعبين الرئيسيين في مجال الإعلام في مناطق النزاع هم الدول والمنظمات المانحة من جهة، ثم المنظمات غير الحكومية الدولية التي تقوم بمعظم التنفيذ وأحيانا بجزء من التمويل من جهة أخري. هذا بالطبع بالإضافة إلي السلطات القائمة في هذه المناطق والمنظمات والصحفيين المحليين وإن كانت العلاقة تميل كثيرا لصالح الأطراف الخارجية منظمات أو مانحين لأسباب لا تتسع هذه المقالة لشرحها . وأهم المانحين: اللجنة الأوروبية، الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، قسم التنمية الدولي البريطاني، وكالة التنمية الدولية الدانمركية، والوكالة الكندية للتنمية الدولية. وأضخم المنظمات غير الحكومية الدولية في هذا المجال وكلها تتلقي التمويل الرئيسي من وكالة التنمية الدولية الأميركية هي إنترنيوز، أيريكس. والمجموعة الأخيرة من اللاعبين الدوليين في هذا المجال هي المنظمات العاملة في مجال تنمية الإعلام ويتم اللجوء إليها عادة لقدرتها علي تجميع الأموال اللازمة بسرعة وحركتها النشطة في تنفيذ مهامها وتحررها من القيود الدبلوماسية التي قد تبطيء عمل الأممالمتحدة. وتؤمن كل هذه المنظمات بحرية التعبير وتسعي إلي دعم الديمقراطية والحيلولة دون اندلاع الصراعات وبناء السلام علي أساس أن حرية الصحافة هي أهم الضمانات اللازمة لتحقيق هذه الأهداف. وتعمل هذه المنظمات في مجالات بناء القدرات والمؤسسات وتقديم المشورة بشأن سياسات وقوانين الإعلام ودعم إنتاج البرامج والاتحادات المهنية. ومن هذه المنظمات التي قام معظمها في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات. وهناك أمثلة لإذاعات تابعة للأمم المتحدة مثل إذاعة أوكابي لم تكن هناك إذاعة قائمة يمكن الاعتماد عليها في الكونغو ولذا قامت الأممالمتحدة بإنشاء راديو أوكابي Okapi في العام 2002 بالاشتراك مع مؤسسة إيرونديل السويسرية وفقا لتفويض من مجلس الأمن نص علي تسهيل الحوار الوطني . وبث الراديو برنامجه بخمس لغات وكان يصل إلي قرابة سبعين في المائة من سكان البلاد. وبالإضافة إلي الأخبار والبرامج المعلوماتية بثت إذاعة أوكابي برنامجًا حواريا يوميًا يشارك فيه مواطنون من أطراف الصراع المختلفة. ووفقا لقسم عمليات حفظ السلام في الأممالمتحدة أرست هذه الإذاعة معايير جديدة للحرفية والنزاهة والاستقلال في الوسط الإعلامي في الكونغو. والتحدي الماثل أمام أوكابي الآن في مرحلة ما بعد الصراع هو كيف يمكن لها أن تستمر دون دعم الجهات المانحة سواء كان ذلك عن طريق التحول إلي مشروع تجاري يعتمد علي الإعلانات أو التحول إلي محطة إذاعة عامة يتم تمويلها جزئيًا أو كليًا عن طريق تحصيل نسبة علي فواتير الكهرباء أو من ميزانية الدولة مباشرة. وإذاعة مرايا تبث إذاعة مرايا التابعة للأمم المتحدة في السودان التي تأسست في العام 2006 ليلاً ونهارًا دون انقطاع ولكن بثها يقتصر علي جنوب السودان علي موجات إف إم حيث لم يتم بعد التوصل إلي اتفاق مع الحكومة حول البث في الشمال. ولكنها أيضًا تبث علي الموجة القصيرة ثلاث ساعات يوميًا. وتقدم الإذاعة برامج إخبارية وتعليمية وحوارية وموسيقي باللغة العربية والعامية والإنجليزية. وتأسست مرايا في شراكة بين الأممالمتحدة وبين مؤسسة إيرونديل السويسرية وقامت بتدريب 120 صحفيًا ثم اختارت نحو نصفهم للعمل في الإذاعة. وبعد أقل من عامين من بداية البث صارت المحطة تصل لأكثر من نصف مستمعي الإذاعة في جنوب السودان. وإذاعة أونوكي ONUCI تغطي هذه الإذاعة التابعة للأمم المتحدة نصف مساحة ساحل العاج وهي إحدي أهم أربع إذاعات في العاصمة أبيدجان. وكانت بداية الإذاعة عندما لاحظ الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي أنان الطبيعة التحريضية لبعض وسائل الإعلام في ساحل العاج ثم فوض مجلس الأمن بعثة الأممالمتحدة هناك بحق مراقبة الإعلام وتقديم تقارير دورية للجنة عقوبات مما برر إنشاء محطة إذاعة كتدخل إيجابي. وتركز المحطة علي أخبار عملية السلام وتشجع علي المشاركة فيها وتقدم بديلًا للبروباغندا التي كانت سائدة فتعمل علي بناء الثقة في الوجود الدولي وإمكانية توطيد السلام. وتمارس الإذاعة عملها مع اتحاد للصحفيين المحليين. منذ بدأ إنشاء إذاعات تابعة للأمم المتحدة قامت أيضًا محطات في تيمورليست وكمبوديا والبوسنة بينما عملت وحدات من الإذاعيين التابعين للأمم المتحدة في صناعة مواد إذاعية لبثها علي الشبكات القائمة في عديد من الدول. ويستثني هذا عشرات المحطات الإذاعية التابعة لمنظمات أهلية محلية ودولية أو مجتمعية التي تبثها إرساليات كنسية أو منظمات محلية صغيرة في قري أو تجمعات محلية.