يبدو أن الولاياتالمتحدة قد وصلت إلى مرحلة من الضجر حيال أسلوب المماطلة الذي تتبعه إيران في التعامل مع أزمة ملفها النووي، وبدأت بالفعل اتخاذ مجموعة من الإجراءات العقابية بحقها وبحق المتعاملين معها.. خصوصًا أن الجهود كافة التي بذلت من جانب مجموعة 5+1 لإقناعها بالتخلي عن برنامج تخصيب اليورانيوم قد فشلت، رغم عرض الحوافز الأخير الذي قدمته المجموعة في يونيو الماضي والذي امتنعت طهران عن تقديم أي رد إيجابي حياله. ورغم أن فكرة فرض عقوبات على طهران والشركات المتعاملة معها ليست جديدة بل تلازم أزمة الملف النووي الإيراني منذ بدايتها، بدليل صدور ثلاثة قرارات بهذا الشأن(1737، و1747، و1803)، كما أن إيران نفسها تخضع لعقوبات وحصار أمريكيّين منذ ما يقرب من العقود الثلاثة - فإنه من الواضح أن أسلوب تشديد العقوبات عليها يبدو - من وجهة النظر الأمريكية - هو الخيار المتاح حاليا من أجل إخضاع الجمهورية الإسلامية لمزيد من الضغوط وإرهاقها اقتصاديا وفي نفس الوقت غلق المنافذ أمام تطوير قدراتها النووية بتقويض قدرتها على الحصول على المعدات والتكنولوجيا النووية اللازمة في هذا المجال. ولم يكن لجوء واشنطن إلى تشديد العقوبات بصورة فردية على إيران، إلا نتيجة لتعثر المحاولات التي قام ويقوم بها الستة الكبار في هذا الصدد، وصعوبة الاتفاق على طبيعة وحجم العقوبات التي ستفرض عليها خصوصًا أن أجواء العلاقة بين الولاياتالمتحدةوروسيا يسودها التوتر بعد أحداث جورجيا الأخيرة، وقد أعلنت روسيا بالفعل معارضتها لأي توجه لتشديد العقوبات على طهران، ولاسيما أنها الداعم الرئيسي لبرنامج الأخيرة النووي (وإن كانت تؤكد رفضها حيازة إيران للسلاح النووي). والمتابع لسلسلة الإجراءات العقابية التي لجأت واشنطن إلى فرضها على إيران خلال العام الجاري - وتحديدًا الفترة الأخيرة - سيلاحظ أنها طالت أفرادًا وشركات ومصارف إيرانية، كما طالت شركات ومؤسسات خارجية متعاملة معها. ولو نظرنا إلى العقوبات التي فرضت على المؤسسات والمصارف والأفراد الإيرانيين، سنجد أن وزارة الخزانة الأمريكية قامت في فبراير 2008 باتخاذ خطوات عملية لفرض عقوبات على البنك المركزي الإيراني للاشتباه في مساعدته لمؤسسات إيرانية أخرى على التهرب من عقوبات اقتصادية أمريكية مفروضة عليها، وأردفت الإدارة الأمريكية هذه الخطوة بالتقدم بمشروع قرار في مارس 2008 إلى مجلس الأمن لنفس الغرض.وبعد أربعة أشهر وتحديدًا في 8/7/2008، قامت إدارة الرئيس بوش بفرض عقوبات على 6 شخصيات وخمس شركات إيرانية، من بينها قائد الحرس الثوري "يحيى رحيم صفوي"، اتهمتها بالضلوع في البرنامج النووي الإيراني عبر المساعدة على تطوير أسلحة نووية وصواريخ عابرة للقارات. ولم يمض شهران على الإجراء الأخير حتى قامت وزارة الخزانة الأمريكية وتحديدًا في 11/9/2008، بفرض عقوبات على شركة خطوط الشحن البحري الوطنية و18 شركة أخرى تابعة لها، لدورها في إنشاء ودعم البرنامج النووي والبرنامج الصاروخي الإيرانيين عبر توفير خدمات لوجستية سريعة للجيش الإيراني. أما على صعيد الإجراءات العقابية التي اتخذت بحق الشركات الخارجية المتعاونة مع طهران، فقد اتخذت الإدارة الأمريكية في 17/9/2008 قرارًا بفرض عقوبات ضد شبكة من الشركات تتهمها بمساعدة إيران في برنامجها النووي وأيضًا إمدادها بأسلحة تستخدم ضد القوات الأمريكية في كل من العراق وأفغانستان، ولقد جاء التحرك في هذا المجال بالتعاون بين وزارات الخزانة والعدل والتجارة وكان التركيز تحديدًا في شركة "مايرو العامة للتجارة"، كما وضعت مجموعة الاستيراد والتصدير التي يقع مركزها في دبي تم وضعها هي الأخرى في القائمة السوداء، بسبب اتهامها بتزويد إيران بتكنولوجيا أدوات التفجير المتقدمة التي يتم استخدامها في أفغانستان والعراق. واللافت، أن وزارة الخزانة الأمريكية قامت بفرض عقوبات على ست شركات لها صلة بشركة "مايرو"، وأعلنت الوزارة أن هذه الشركات متورطة في تدبير والحصول على أجزاء من الأسلحة والمعدات التقليدية نيابة عن الجمهورية الإسلامية وتقديمها لها فيما بعد، وذلك من قبيل قطع غيار الطائرات العسكرية، والمعدات ذات الاستخدام المزدوج، التي يمكن استخدامها في الأنشطة المتعلقة بالأسلحة النووية، وكان هذا الإجراء استكمالاً للإجراءات العقابية بفرض قيود على نشاط شركة "مايرو" بعد فرض عقوبات صارمة على المجموعة والشركات التابعة لها في عام .2006 ولكن المثير في هذه القضية، تواتر بعض المعلومات حول اكتشاف واشنطن وجود شبكة عالمية كبيرة تضم أكثر من 100 شركة على صلة أو ترتبط بعلاقات تجارية مع شركة "مايرو"، وهذه الشركات تستخدمها إيران في دعم أنشطتها التجارية والعسكرية عالميا. وكجزء من الإجراءات التي تم اتخاذها من قبل الإدارة الأمريكية، وجهت وزارة العدل في 17/9/2008 اتهامات ضد 16 شركة تعمل خارج الولاياتالمتحدة وتربطها علاقات تعاون مع "مايرو" بالتعاون مع إيران ودول أخرى، وذكرت وزارة التجارة الأمريكية أنها حذرت من تصدير أو إعادة تصدير المعدات الحساسة ذات الاستخدام المزدوج إلى 75 دولة ذات صلة بهذه المجموعة. ولفت "ديفيد ألبرت"، الباحث بمعهد واشنطن لعلوم الأمن الدولي، النظر إلى وجود حالة من القلق لدى واشنطن حيال مدى قدرة دولة مثل الإمارات العربية المتحدة - باعتبارها أحد أبرز مراكز الحركة التجارية في منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي - على فرض الرقابة على الصادرات التي تحتوي على معدات حساسة ذات تكنولوجيا متطورة وبالتالي منعها من الوصول إلى طهران، ومما يثير بل يزيد من قلق واشنطن ما ذكرته الوكالة الدولية للطاقة الذرية مؤخرًا بشأن تلقي إيران مساعدات خارجية تمكنها من إجراء تجارب نووية باستخدام وسائل وأدوات تفجير متطورة، وألمح مسؤولو الوكالة إلى أن هذه المساعدات جاءت من دولة ليست لها انشطة نووية، ومن مصدر لا علاقة له بمجموعة "عبدالقدير خان" العالم النووي الباكستاني، الذي تزعم جهات غربية أنه أمد إيران بأجهزة الطرد المركزي وغيرها من المعدات النووية الأخرى. واستبعد "ألبرت" أن يكون "عبدالقدير خان" على صلة بشبكة الشركات المرتبطة بمجموعة "مايرو" مشيرًا إلى أنه من المتوقع أن يكون العالم الباكستاني قد قام بأنشطة في نقل التكنولوجيا النووية إلى إيران بصورة منفردة. ولعل السؤال الذي يطرح نفسه في ضوء كثافة وتنوع الإجراءات العقابية التي تستهدف إيران، يدور حول مدى إمكانية أن تؤتي تلك الإجراءات ثمارها وتنجح في دفع إيران إلى التجاوب مع الضغوط الدولية وتوقف برنامجها لتخصيب اليورانيوم. إن إجابة هذا السؤال تتطلب الوقوف على موقف إيران وحكومتها من تلك العقوبات؛ فالملاحظ من تصريحات القيادة الإيرانية، وتحديدًا الرئيس "محمود أحمدي نجاد"، أن طهران لا تعبأ بالعقوبات سواء الدولية التي يفرضها مجلس الأمن أو تلك التي تفرضها الولاياتالمتحدة والدول الغربية ضدها؛ حيث يصفها - أي "نجاد" - بأنها عقوبات ضعيفة التأثير ولن تثني الإيرانيين عن عزمهم لحيازة التكنولوجيا النووية للأغراض السلمية بعد أن استطاعوا التكيف والتعايش مع تلك العقوبات. ولكن إلى متى ستظل إيران صامدة في مواجهة تلك العقوبات؟ إذا كانت طهران قد نجحت في تحقيق قدر من الانتعاشة الاقتصادية تحت تأثير الطفرة في مداخيل النفط الناتجة عن ارتفاع أسعاره، فإن هذه الانتعاشة ليست كافية لعلاج الاختلالات الهيكلية التي يعانيها الاقتصاد الإيراني، والمشاكل المرتبطة بذلك، من ارتفاع الأسعار وانخفاض مستوى معيشة المواطنين الإيرانيين. وفي أغلب الأحوال فإن قدرة إيران على احتمال العقوبات لها حدود وقد لا يمكنها الصمود في مواجهة الضغوط وتصعيد هذه العقوبات خصوصًا إذا طالت قطاعا مهما مثل قطاع النفط الذي يقوم بدور الرئة بالنسبة للاقتصاد الإيراني. ولا شك أن سياسة التشدد التي يتبعها كل من الطرفين تجاه الآخر ليست في صالح أي منهما؛ لأنها من الممكن أن تقود إلى خيارات أكثر صعوبة وكارثية على الجانبين، ومن ثم فإن الحل الأمثل للأزمة هو الحوار والمفاوضات ومحاولة بناء جسور الثقة بين الجانبين، وصولاً لاتفاق يحظى بالرضا المتبادل ويحقق الأمن والسلام لشعوب المنطقة وهو ما يتطلب أن يكون لدول المنطقة وخصوصًا دول الخليج العربي دور مهم في تحقيقه.