الأهرام المسائي 4/8/2008 إنني أعلم أن الامريكيين شعب مخيف إذا تعاملت معهم وانهم يقدمون وعودا قاطعة ويمنونك بالأحلام, وعندما تتورط يتخلون عنك هذا ما قاله السفير البريطاني سير رونالد لينداس في سياق وصفه لأخلاق الأمريكيين عام1932, وينطبق هذا القول سواء بسواء علي ما آلت اليه الأمور في الحرب التي دارت بين روسيا وجورجيا, واثبتت رفض روسيا الاعتراف بخسارة موقع البلاد كقوة عظمي. وجدير بهذا كله ان يدلنا علي ان ما حصل في القوقاز, يكشف عن مكون أصيل في سياسة الولاياتالمتحدة, وهو توظيف قضايا انسانية وأخلاقية وسياسية, بل والتلاعب في الارواح والدمار الشامل من أجل الهيمنة المنفردة والمطلقة علي العالم, ولا شك في ان هذه الصورة العامة تحتاج الي تحديد. فبرغم ان روسيا بعد تفكك الاتحاد السوفيتي1991, قد استغنت عن الحزب الشيوعي, واندرجت في العولمة والشراكة الامريكية, ونسقت في حروب يوغسلافيا السابقة وفي حرب الخليج الثانية, إلا انها في نهاية المطاف وجدت نفسها في مهب الريح, ولم تجن سوي قبض الريح. وفي كنف هذه الظروف كانت مقولة فلاديمير بوتين في ذات يوم: إن تفتيت الاتحاد السوفيتي إلي دول ودويلات, هو أسوأ ما حدث للعالم خلال القرن العشرين. ولقد يحق لنا ان نستدرك في هذا الصدد فنقول, ان العلاقة الوجيزة التي قامت بين بوتين وبوش الابن اثر أحداث11 سبتمبر, سرعان ما تلاشت من الجهة الروسية, ازاء الشعور بأن الامريكيين الذين يتسترون وراء مأساة نيويورك, والواجهة المعنوية للحرب علي الإرهاب, يستغلون كل ذلك لتغيير قواعد اللعبة علي حساب منافسيهم, وعلي هذه الشاكلة نلحظ ها هنا باختصار, أنه أعقب التنكر لمعاهدة الصواريخ البالستية, الثورات الملونة الهادفة الي حصار روسيا ديمقراطيا وسياسيا, وتأسيس انظمة حكم مناهضة لروسيا وعميلة لامريكا, ثم الاندفاعية الامريكية في آسيا الوسطي وبقي علينا ان نذكر اجتياح العراق. وهكذا ادرك الروس باليقين انهم في الوقت الذي يغلقون فيه قواعدهم, ويظهرون كل النوايا الطيبة تجاه الغرب وأمريكا بوجه خاص, أن حلف الاطلنطي يتصرف بطريقة عدائية, وانه يضم في صفوفه الدول المجاورة لروسيا, وان القواعد الامريكية تقام علي مقربة من الحدود الروسية. وبالنتيجة يكاد يكون من الطبيعي بل من المحقق ان لا يهدأ بوتين إلا بعد استعادة روسيا لمكانتها العسكرية والدولية التي كانت تتمتع بها خلال النصف الثاني من القرن العشرين, وفي هذا الاتجاه لازال بوتين ينحت في الصخر ليجعل من روسيا كيانا قويا علي شاكلته هو شخصيا, وهو الهدف الذي كان وراء شعبيته الجارفة بين الشعب الروسي, والذي جعل المحللين السياسيين في الغرب يصفونه بأنه هجين فريد من الذئب المتوحد, والثعلب الداهية, ذئب رفض ان يبقي حبيسا داخل الحدود الروسية يواجه مصير الموت خنقا بعد ان قام الغرب بتطويق منطقة القوقاز الاستراتيجية والغنية ايضا بالبترول مثلها مثل العراق, وتأليب دول القوقاز وآسيا الوسطي علي روسيا ضمانا لعدم عودتها أبدا إلي مكانتها السابقة. وكانت ذروة الغضب الروسي واضحة في خطاب بوتين في ميونيخ في فبراير2007 حيث تحدث عن الامبريالية الأمريكية. وإن دل هذا علي شيء, إنما يدل علي ظهور روسيا بعد تفكك الاتحاد السوفيتي علي الساحة الدولية كلاعب يتعافي مما حدث, فأصبح اقتصادها أفضل بكثير مما سبق, وفي ظل امتلاكها للقوة النووية الاكبر في العالم, فضل بوتين وخلفه ميدفيديف التدخل بصورة استباقية, محاولين ثني الشركاء الممكنين عن المشاركة في المناورة الامريكية, ومن هنا جاءت التهديدات من روسيا التي لاتزال عملاقا عسكريا استراتيجيا بتوجيه الصواريخ الروسية الي بولندا وأوكرانيا, بل حتي علي دول البلطيق, إذا ما اقيم نظام الصواريخ الامريكية فيها, ومن هنا ايضا جاء القرار الخطير جدا الذي اتخذ في ديسمبر2007 بتعليق الالتزام بالقيود التي فرضتها روسيا علي نفسها حتي ذلك الوقت بموجب معاهدة التسلح التقليدي في اوروبا, وهو ما فاجأ بقوة القارة بأكملها. ومن هنا أخيرا رفض الشعب الروسي الاعتراف بخسارة البلاد كقوة عظمي, والمداخلات الدائمة من الجنرالات الروس العاملين او المتقاعدين, في رقصة مدروسة دقيقة, تأتي فيها وبمهارة التصريحات المدروسة. ان لم نقل المنطقية, الصادرة عن اصحاب الرتب الحاليين في اعقاب تعبيرات ديناصورات الحرب الباردة الملوحة بالحرب وببراعة. ومما لا ينبغي إهماله في هذا المضمار المعاهدة الروسية الصينية التي جاءت لتتوج ما ترغبه بكينوموسكو التي تحاول تصديع فكرة درع الصواريخ والمحاولات الامريكية للسيطرة علي مقاليد السلطة في العالم. ولا يمكن التغاضي عن دلالة الحديث الروسي عن كوبا الآن, فقد كانت الجزيرة الكوبية رمزا لنفوذ الدب الروسي في نصف الكرة الغربي لسنوات طويلة أثناء الحرب الباردة. ففي اجتماع لمجلس الوزراء الروسي عقب عودة الوفد الروسي من كوبا قال بوتين رئيس الوزراء إننا يجب ان نستعيد مواقعنا ليس فقط في كوبا, بل في دول أخري ايضا, وهذا بدوره جدير بأن يفسر لنا القرار الذي اتخذته روسيا بتمركز أسطولها في البحر المتوسط إذ ان عودة العلاقات مع العرب تشكل هاجسا للكرملين وبحار ومحيطات العالم بشكل دائم. كثيرون يؤكدون ان روسيا اليوم, لن تتغاضي كما تغاضت من قبل ولن تتنازل عن كرامتها وحقوقها كما تنازلت المرة بعد الآخري.. الروس البارعون في لعبة الشطرنج, لا يحبذون تبييت الملك بهذه السهولة, فرأت موسكو ان الرد علي أمريكا والدول الغربية, يمكن ان يأتي من خلال دعم مطالب أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا بالانفصال عن جورجيا حليف امريكا والغرب في المنطقة.. وهكذا نستطيع ان ندرك بسهولة بالغة, أن روسيا الاتحادية تسير بثبات حتي الآن في طريق اختارته لنفسها منذ سنوات مضت, وهو الطريق الخاص بإقامة نظام عالمي متعدد الاقطاب, مما يؤكد ان الشهور والسنوات القادمة, ستشهد مواجهات اكثر قوة وعمقا بين روسيا وحلفائها المرتقبين كالصين وإيران وفنزويلا وكوبا, وبين الولاياتالمتحدة وحلف الناتو من جانب آخر, ومن ثم فالمطلوب من العرب العمل علي إعادة الثقة الي روسيا, لئلا يظلوا يترددون في المهاوي علي يد أمريكا وإسرائيل, تلك المهاوي التي باتوا فيها أشبه بالموتي بلا قبور. المزيد من الأقلام والآراء