الأهرام: 21/8/20078 هذا العنوان محض تعبير مجازي عما انتشر وتفشي حتي صار ظاهرة, وطبعا ملأ حياتنا صخبا وضجيجا وضوضاء وصياحا وهتافا وهياجا وإهاجة وثورة وإثارة واستثارة وانفعالا واصطناعا وانفلاتا وتشويشا وتهويشا ومصادرة وعنتا وإرهابا.. هل هذا الهدير محل العقل والحكمة والروية والفكر والتأمل والفعل والمعني والهدف والغاية, وصار صخب الهدير متصلا في حياتنا اتصالا يطارد العاقلين الباحثين عن حكمة الفكر وتأمل النظر الهادئ وقيمة المعني وبصيرة الفؤاد ونفاذ الرؤية واعتدال العاطفة وسواء الفهم وسلامة النية والضمير! ثقافة الهدير ظاهرة صوتية, تحل فيها الحناجر محل العقول.. والانصراف إلي الحنجرة وما تخرجه قد لا يكون به بأس إذا عنيت الحنجرة بالصلة الواجبة بينها وبين معطيات العقل, ولكن تأتي الطامة حين تنفصم الحناجر من جميع المعطيات إلا ما تقذف به من إخراج.. هذا الإخراج مادام مفصوما عن العقل, لا يبقي له من ألبسة التزيين وفرض النفس, إلا العلو بالطبقات الصوتية, والإكثار المزدحم من الكلمات التي تطلقها.. الطامة الكبري حين تستخدم الحناجر كوسيلة للكتابة فتخطف لغة القلم من العقل وتحتويها في قاموسها القائم علي الصخب والضجيج والهدير.. لا تظنني أبالغ.. لقد مر كثير من أرباب القلم بمراحل في الكتابة أو النظم كانت الصياغة فيها أقرب إلي الخطابة, ولم يكن في ذلك كل البأس مادام موصولا بقدر أو بآخر بمعطيات العقل والفهم.. ومع النضج والتطور ودعوات كثيرة واعية كدعوة يحيي حقي ومحمد مندور وغيرهما إلي الالتفات إلي جرس العين وعدم الانحصار في جرس الأذن توارت شيئا فشيئا لغة الخطابة من أسلوب الكتابة, وزادت شيئا فشيئا معطيات العقل, وكان الظن أننا تخلصنا من الآفة الصوتية في الكتابة, ولكنها عادت للأسف لتجنح مع ثقافة الهدير جنوحا بعيدا, حتي انفلتت معاييرها من جميع المقاييس المتفق عليها لأدب الكلمة! مع ثقافة الهدير, احتلت الحناجر الصاخبة كل مساحة الصورة أو المشهد, في المشافهة وهي أكثر, وفي الكتابة أيضا.. حسبك لتري أزمة ما صرنا إليه أن تصغي.. في فوضي ما يكتب علي السيارات.. المانشيتات المثيرة بلا موضوع أو مضمون.. هوي المبالغة والتضخيم ومصادرة الآخر بالإرهاب والتخويف.. حلول الدجل والفهلوة محل الاتزان والوقار, وصخب الوعظ بالحناجر لإثارة العواطف بدلا من مخاطبة العقول.. فوضي وافتعال المشاكل والأزمات.. تواري العقل وحلول الكلمات محل الأفعال.. ضياع المنطق واستسهال الشتم والسباب.. علو شعار: خذوهم بالصوت ليغلبوكم؟!!.. حتي صار فلسفة وأسلوبا معتنقا لأصحاب الحناجر الذين يشهرون الخواء وفراغ العقل والحجة! ثقافة الهدير لم تدع شيئا إلا طالته, طالت المبادئ والأسس وخلطت الأوراق بين حرية الرأي والنقد, وبين التطاول والشتم والسباب والقذف والإهانة والتحقير.. ونجحت في فرض تراجع تشريعي فرغ الجزاء من مضمونه.. انطلق الهدير بغير حساب, ومارس الكثيرون حرية السباب والشتائم والافتراء والاختلاق, وفتح بعضهم منافذ خلفية لتلقي الرشاوي والجعول لوقف الحملات الصحيحة أو البطالة علي منطق ابعد عن الشر وغني له!! ضاع الوقار وتواري, وانسحب المنطق والحجة مخافة الرذاذ والطلقات الطائشة أو المقصودة!.. وسط الهدير لم يعد أحد يبالي بالفارق الواجب بين حرية التعبير وحرية السباب والإهانة والإدماء!.. لم يتورع الشتامون وسط ثقافة الهدير عن اختلاق الأكاذيب, بينما استباح الصغار أو أمراء التكفير التطاول علي الأزهر وعلي الكنيسة, ولم تنج سقوف الأديان ذاتها من هذا الهدير.. يتحدث من يريد عن كتاب لم يقرأه عنوانه: سقوط أو استقالة الإله, مليء بالازدراء للذات الإلهية والأنبياء والرسل, وجعل للرب بنتا تناقشه وتراجعه, ومع أن مجمع البحوث الإسلامية اكتفي بإبداء الرأي فيما تضمنه, ورفع أمر جريمة ازدراء الأديان السماوية الثلاثة إلي الجهة المختصة, دون أن يكفر أحدا, إلا أن أحدا من أصحاب الهدير لم يكلف نفسه عناء قراءة ما تضمنه الكتاب المليء بازدراء الأديان, ولا ما كتبه المجمع, ومع ذلك يستبيح التطاول علي علماء أجلاء أخلصوا لله والحقيقة, ويطالب دون أن يقرأ كتابا في الدين, ولعله لم يقرأ القرآن المجيد, بإلغاء هذا المجمع وتسريح علمائه! لم يعد هناك حصانة وسط هذا الهدير, لا لدين, ولا لقيمة, ولا لرمز, ولا لمبدأ, ولا لمنطق, ولا لعقل.. اختلط الحابل بالنابل, وصار هدير التطاول طاغيا علي العقل والعقلاء, وعلي المنطق والمناطقة, وعلي الأدب والمتأدبين! من ثقافة الهدير تمايع وانبهام وتسطح وهلامية وعدم ضبط أو تحديد معاني الكلمات, ومع بهوأة واتساع ومطاطية الألفاظ يتواري العقل والمنطق ويغيب الفهم, وتسود لغة الصخب والضجيج ليحل باجتياحاته وتجاوزاته محل الصدق والنظر المبني علي انضباط اللغة بالتعبير وسلامة الاستقبال وإعمال العقل. من المفارقات اللافتة أن المشرع نفسه قد تراجع أمام بهوأة استخدام المتطفلين أو المتمسحين أو المطاريد للقب المستشار, وبدلا من أن يلزم هؤلاء بضبط ما يتشحون به من ألقاب أو ينتحلونه من صفات طلبا للمكانة أو خداع الناس, وبدلا من هيبة وضبط النظام والقانون, رأينا القانون الأخير للسلطة القضائية يلغي لقب مستشار الذي تهرأ من استخدام كل من هب ودب, ويستخدم بدله لقب قاض بتعميم ينطبق علي كافة درجات القضاة. في تراجع غير محمود لا هو أوقف هدير فوضي استخدام الألقاب والصفات بغير ضابط, ولا قدم لرجال القضاء واقعا قابلا للتطبيق يمكنهم قبوله, فظلت الأحوال رغم القانون علي ما هي عليه! بثقافة الهدير, هجرنا أو كدنا نهجر كوميديا المواقف, وتحولنا إلي كوميديا الصخب والكلمات الهابطة والطبل والزمر الذي أدخلناه أحيانا إلي خشبة المسرح التي لم تعد تشعر بتقاليدها إلا في المسرح القومي والنادر جدا من المسارح الخاصة.. حتي التعليق علي المباريات الرياضية, خاصة كرة القدم, يصاب المتابعون بالحيرة حين يسمعون زعيق وصخب وتعبيرات المعلقين, وشهوة الكلام للكلام بعيدا عن المشهد المعروض.. ما إن يمسك المعلق بالميكروفون لوصف مباراة مرئية علي الشاشة وفي متناول المشاهدين, إلا ويمسك بتلابيبهم.. لا يريد أن يترك لهم لحظة واحدة لمتعة المشاهدة إلا ويلاحقهم بالكلام في أي شيء إلا التعليق علي المشهد المرئي.. بعض المعلقين يدير معركة حربية حقيقية بالكلام! إذا كان فريق دولته يلعب مع فريق أجنبي.. لا يكف عن الانفعال والصخب والضجيج والهتاف والمناداة علي اللاعبين بل وتوجيههم!.. ولكن الأغرب ما يديره بعض المعلقين من معارك تعليقا علي مباريات بين دول أجنبية لا تشارك فيها دولة المعلق.. صارت الشكوي عامة من هذا الهدير حتي أن كثيرا من المشاهدين يضطرون إلي إغلاق الصوت والاكتفاء بالصورة ليحموا أنفسهم من لغو وصخب وهدير المعلق!! من ثقافة الهدير المكتوب, ما تابعته لأسابيع علي صفحات إحدي الصحف الخاصة, من إفراد عناوين ضخمة, ومساحات كبيرة, وعلي الصفحة الأولي أو الصفحات الرئيسية, للإعلان عن كيان في الطريق لم يشأ صاحبه حتي أن يعلن اسمه, أو اسم أحد ممن معه فيه, في مشهد لا يخطئ الفاهم أنه إعلان عن شيء لا وجود له في المشهد الجاري.. ومع ذلك يمضي الهدير المكتوب في تحليلات وتعليقات لتنطوي بعد أسابيع صفحة هذه الإعلانات الهادرة, ودون أن تتوقف الصحيفة مع نفسها, أو يتوقف أحد المتابعين ليسأل سؤالا واجبا يفرض نفسه: لماذا كانت كل هذه المساحات والتغطيات للغو لا يخطئ أحد أنه هدير مآله إلي لا شيء! هدير عجيب غريب يؤكد غياب العقل, نري هدير فضائيات وبعض صحف تصدر نماذج ما أنزل الله بها من سلطان, لا علم ولا ثقافة ولا تاريخ ولا قدرات ولا مكنات, ومع ذلك لماذا لست أدري؟!! تصدر إلي الناس صباح مساء, هذا للرئاسة, وهذا للوصاية علي القضايا الكبري, وهذا لتأسيس حزب!! يتوالي الكلام واللغو والهدير بلا فعل ولا ناتج, والناس من السأم تتابع من باب التسلية أو مقاومة الملل أو إزجاء الفراغ, والإعلام الأحول يتصيد ما يشبع نهم الناس بالهدير إلي ما لا طائل منه, وتضيع وسط هذا الهدير قيم العقل وثقافة العمل والفعل والجد وتنفرط مع هذا كله المنظومة الأخلاقية, وتعيش الأمة واقعا مصطنعا غير واقعها الحقيقي!