الأهرام 13/7/2008 حسن ومرقص.. فيلم جريء جميل, من أول لقطة يضعنا في قلب المشكلة.. هل يمكن أن يكون هناك تعايش بين المسلمين والأقباط في مصر؟.. الفيلم يترك لنا حرية الاختيار.. فماذا نريد؟ (1)منذ البداية.. نحن أمام عطار مسلم, إمام مسجد يقرر الأمن إخفاءه بإعطائه شخصية مسيحي, فالحاج محمود يصبح مرقص.. عمر الشريف.. ونلقي رجل دين مسيحي, هو جرجس, يتم أيضا إخفاؤه في شخص مسلم هو حسن عادل إمام. وتتصاعد بعد ذلك دراما الفيلم, وينسي المشاهدون تماما أن المسلم كان في الأصل مسيحيا, وأن المسيحي كان في البداية مسلما.. ويتعاملون معهما بلا تفرقة ودون أن يعنيهم أيهما المسلم وأيهما المسيحي. ولعل هذه من أجمل نقاط الفيلم.. فليست هناك أي فوارق عرقية أو طائفية بين المسلمين والمسيحيين في هذا البلد.. فهم في الأصل شيء واحد, وكون أحدهما مسلما والآخر مسيحيا, فهذا لا يعني أن التعايش والتفاهم والتحاور بينهما مستحيل. وبأسلوب راق, ودون إسفاف, يسخر الفيلم من الذين يرددون الشعارات الكبيرة لأنهم لا يؤمنون بها فعلا.. فمثلا عند عقد جلسات للحوار الإسلامي المسيحي, أو لقاءات الوحدة الوطنية الرسمية, نجد أن الذين يرددون هتافات عاشت وحدة الهلال مع الصليب داخل المؤتمر, هم الذين لهم ميول طائفية.. فنجد من كان يتحدث عن عدد الأقباط في مجلس الشعب أو الوزراء, أو المحافظين, أو كبار المستشارين...الخ, ومن كان يتحدث عن سيطرة الأقباط علي الاقتصاد, وعلي بعض المهن الفنية مثل تجارة الذهب والأعمال المصرفية والمحاسبة والضرائب...الخ, نجد أن من يتحدثون بهذه اللغة, هم الذين يتصدرون المشهد لغرس قيمة الوحدة الوطنية التي لا يؤمنون بها فعلا. ولا يتقبل الفيلم أيضا هذا المنطق القائم علي النفاق, فيقرر أن يصدمنا بما يحدث في حياتنا اليومية, وإن كنا لا نراه أو نحب ألا نتوقف عنده.. فعندما يفتح صاحب عمارة قبطي أبوابه لمسلم لكي يسكن عنده, وعندما يفتح صاحب عمارة مسلم أبوابه لمسيحي ليسكن عنده., نري الأهل في المنطقة, من الجانبين, يوجهون اللوم ويوسوسون له.. أما كان الأجدر فتح الباب أمام مسلم في عمارة المسلمين, وأمام مسيحي في عمارة الأقباط؟! وعندما يتفق الرجلان حسن ومرقص علي إقامة وتشغيل مشروع مشترك بينهما مخبز, يحدث الشيء نفسه.. هكذا.. الفيلم لا يبني وقائعه علي افتراضات نظرية, أو مبالغات غير منطقية, بل إنه يعتمد علي فضح وتعرية وكشف ما يجري في الواقع بقوة وصدق.. وهذا أجمل ما فيه. (2)البعض يفهم خطأ أن الحديث عن العلل والأمراض التي تعتري العلاقة بين المسيحيين والمسلمين في مصر هو نوع من التحريض علي الوقيعة بين طرفي الأمة.. وهناك من يتصور أن فضح الحقيقة هو إساءة لصورة المجتمع المصري, واقتراب غير مسئول من قضية أمن قومي.. والحق أن هذا المنطق القائم علي النفاق والزيف وتجميل الصورة, هو أكبر خطر يتهدد البلد, فمما يشهد لهذه المرحلة من التطور الديمقراطي في مصر, أن تتم إثارة هذه القضية بكل هذه الصراحة وبلا مواربة.. وإذا كنا نتحدث في تاريخ السينما المصرية عن الجرأة في عرض فيلم شيء من الخوف في الستينيات, وفيلم انتبهوا أيها السادة والبريء وسواق الأتوبيس والكيت كات...الخ, فإن فيلم حسن ومرقص ينضم إلي هذه الكوكبة من الأفلام التي تعد علامة في تاريخ السينما المصرية, وهي تشهد للقائمين علي هذه الصناعة بالوعي والإدراك والجرأة, من منطلق وطني كامل. لنتصور فقط مشهد الختام.. ففي هذا المشهد, تدور معركة يسقط فيها ضحايا من المسلمين والمسيحيين في الحي, وبينما تشغل المعركة خلفية المشهد, تتصدر الشاشة صورة عائلتي حسن ومرقص وهما تمسكان بأياديهما معا, وكأنه يقول لنا: ماذا تريدون أن تكونوا؟.. هل تريدون أن تتقاتلوا معا مثل الغوغاء والدهماء وتعرضوا هذا البلد للانهيار.. أم تريدون أن تتكاتفوا معا من أجل حماية هذا الوطن؟.. ويترك المخرج للمشاهد حرية الاختيار. (3)ليس غريبا أبدا علي عادل إمام الفنان المبدع والبديع أن يقدم عملا فنيا دراميا بهذه القوة.. فقد سبق له, عبر تاريخه الطويل والممتد, أن فضح لنا عمليات تزوير الانتخابات في مجلس الشعب, وفساد الأعضاء, كما أنه لم يتورع عن فضح فساد السادة الوزراء, ولم يتردد لحظة في إطلاق صيحة تحذير مؤداها أن الإرهاب هو وجه العملة الآخر للحكومة أو لجهاز الدولة, عندما يصيبه العطب أو ينحرف بالسلطة.. ولم يتردد أيضا في الحديث عن آلام ومأساة المهمشين في المجتمع, بدءا من الهلفوت وانتهاء بالحب في الزنزانة.. أفلام لا تحصي سواء في تاريخ عادل أو في تاريخ السينما المصرية, تشهد له بالقدرة علي الإبداع, وبالجرأة علي تشريح وفضح وتعرية المجتمع بنعومة ودون فجاجة أو سوقية أو ابتذال. تبقي كلمة واحدة.. فليس في وجداني ذرة شك في أن أداء عمر الشريف البسيط بلا افتعال وبتلقائية دون إسفاف, والعميق دون تعقيد.. ليس هناك شك في أن هذا الدور, هو واحد من أبدع أدواره, ولا يقل أبدا عن أدواره الكبيرة في السينما المصرية, مثل بداية ونهاية ولوعة الحب وصراع في النيل.. فالحق أن المشاهد لم يشعر بغربة إطلاقا وهو يؤدي دور الحاج محمود ثم وهو يؤدي دور مرقص. فيلم حسن ومرقص.. فيلم جميل, بديع, نظيف, يربي النفس, ويترك لها حرية الاختيار.