مازالت تبعات أزمة الرهن العقاري تتوغل في عصب الإقتصاد الأمريكي لتنال من أكبر وكالتين للتمويل العقاري بأعتي إقتصادات العالم، وهما "فاني ماي" و"فريدي ماك" اللتين تملكان نحو نصف قروض المنازل الأمريكية التي تبلغ قيمتها 12 ألف مليار دولار. وهو ما أدي لهبوط حاد بأسواق الأسهم العالمية وسط مخاوف متزايدة علي سلامة الإقتصاد الأمريكي، خاصة مع القفزات القياسية لأسعار النفط وما تبعه من استمرار التدهور في قيمة الدولار. فقد سجلت مؤشرات MSCI العالمي لأسعار الأسهم، و"ستاندرد آند بوز" للشركات ال 500 الكبرى، و"الفايننشيال تايمز" للشركات ال 100 الكبرى، تراجعاً بنسبة 20% عن أحدث ارتفاعات لها، منضمة بذلك إلى بقية المؤشرات العالمية في الأسواق القريبة. فبالرغم من محاولات المسؤولون الأمريكيون طمأنة الأسواق فيما يتعلق بوضع الوكالتين الا أن جهودهم بائت بالفشل، كما إتضح علي لسان جون كمب، المحلل الاوروبي، حيث قال إن أزمة هاتين الوكالتين تمتد الي مختلف اسواق المال العالمية، مما يلقي بظلال سلبية علي عوائد الأجل الطويل ويجبر المركزي الامريكي علي الاحتفاظ بمستوى الفائدة الحالي رغم الارتفاع الكبير في نسب التضخم. وقال مارك أوستوارد، الخبير الاستراتيجي الامريكي، انه في ظل تأثر هاتين الوكالتين بالتراجع الذي نجم عن انفجار فقاعة الائتمان، فإن من غير المفاجئ أن تصاب قاعدتهما الرأسمالية بدمار شديد، مما يثقل كاهليهما بجمع 75 مليار دولار لدعم رأسمالها في تلك الأوقات الصعبة. وتضاربت الانباء حول رد فعل الحكومة الأمريكية، ففي الوقت الذي استبعد فيه وزير الخزانة الأمريكي بولسون التدخل لانقاذ فاني ماي وفريدي ماك، موضحا ان تركيز إدارته سينصب على مساعدة وكالتي التمويل العقاري الرئيسيتين في صورتهما الحالية، بينما نشرت صحيفة نيويورك تايمز تكهنات خبراء وساسة بأن الحكومة الامريكية ربما تضع يدها علي الوكالتين اذا تفاقمت مشاكلهما التمويلية. لكن في رد فعل سريع علي الأزمة، وافق مجلس الشيوخ الأمريكي الجمعة 11 يوليو/ تموز 2008، علي مشروع قانون لحماية ملاك العقارات ممن علي علاقة بالوكالتين. وذكرت وكالة أنباء بلومبيرج المتخصصة فى الشئون المالية والاقتصادية أن التشريع الجديد - الذى نال موافقة 63 عضوا مقابل 5 أعضاء - يوفر المساعدات لملاك العقارات الذين يواجهون المصاعب على تجنب حبس الرهن (أي استيلاء المقرض على العقار) من خلال اعادة تمويل قروض الرهن العقارى الخاصة بهم وتحويلها الى قروض ذات معدلات فائدة ثابتة تحظى بدعم من الحكومة. ويقدم مشروع القانون حوافز ضريبية لمشتري العقارات المحتملين، فيما يخصص 4 مليارات دولار لمساعدة المواطنين على شراء العقارات المرهونة التي استحوذ عليها المقرضون. ويمثل تمرير المشروع تحول في رأي الادارة الامريكية، حيث هددت ادارة بوش سلفا بإستخدام حق الاعتراض "فيتو" على المشروع، ألا أنها أبدت عزمها على التوصل الى حل وسط. ومع ذلك، قال البيت الابيض إن تخصيص مبلغ نقدي للمواطنين لشراء العقارات المرهونة من شأنه أن يعود بالنفع على المقرضين الذين يمتلكون العقارات الشاغرة بدلا من مساعدة الافراد على الاحتفاظ بمنازلهم. تراجع حاد لأسهم الوكالتين وهوت أسهم الوكالتين بصورة كبيرة بعد كشف النقاب عن ازمتيهما، فقد خسرت أسهم فاني 6.10 دولار أي ما يعادل 46.2 % لتصل الى 7.10 دولار في حين انخفضت أسهم فريدي 4.01 دولار أو 50.1% مسجلة 3.99 دولار، من قيمتيهما في أغسطس 2007. وحدت أزمة "فاني ماي" و"فريدي ماك" - اللتين ترعاهما الحكومة- من الآمال في انتعاش الاقتصاد الأمريكي شريطة إنتهاج مجلس الاحتياطي الفدرالي (المركزي الأمريكي) سياسة لرفع الفائدة. ودفعت الأزمة عددا من الاقتصاديين الامريكيين الي الاشارة باصابع الاتهام الي الكونجرس الامريكي مؤكدين أن قرارته المفتقرة للكفاءة دفعت الوضع من السىء الي الاسوء، كما انه مسؤول عن وضع الرهون التمويل العقاري في سلة واحدة. وتفصيلا، استمرت البنوك والمؤسسات المقدمة للرهون علي مدي سنوات حريصة علي التأكد من رهن الممتلكات العقارية بقيمها الحقيقية وبدون مبالغة، وأن يكون للمقترض سجل جيد في الاستدانة، ودخل كافٍ للقيام بمدفوعات الرهن دون وجود عراقيل مخيبة للآمال، حفاظا علي أموال مودعي البنوك المقدمة للرهون. ومع مرور الوقت وتوسع الاقراض أصبحت المؤسسات المالية أكثر تخصصا، فبعضها تخصص في إصدار القروض والبعض الآخر تخصص في جمع رأس المال بغرض تمويل القروض، ويتم الاقراض بناء علي التعاون بين الجهتين، مما افرز سوقا ثانوية للتمويل العقاري. وبدأت المشكلة عام 1938، إبان إدارة الرئيس روزفلت، حيث اقر الكونجرس توسيع الملكية الإسكانية من خلال إشراك الحكومة، وأنشأ الجمعية الفيدرالية للرهن العقاري الوطني وعرفت بأسم بمؤسسة فاني ماي، بغرض شراء الرهون من البنوك، كما كانت تفعل الشركات الخاصة، ولكن باستخدام أموال دافعي الضرائب. وتقوم "فاني ماي" بإقراض المواطنين من أموال الحكومة الفيدرالية بفائدة أقل من المؤسسات الخاصة بدعوى تيسير امور الاقراض كعمل اجتماعي، فضلا عن تمتعها بمصداقية ائتمانية مما أدي الي إحتكار المؤسسة سوق الرهن الثانوية بسرعة. ثم قامت الادارة الامريكية، بخصخصة مؤسسة فاني ماي عام 1968، علي أن تقوم بجمع رأس المال من أسواق القطاع الخاص، وهو ما لقي استحسان من جانب موردي رأس المال لثقتهم بأن الكونجرس لن يسمح بإفلاس "فاني ماي"، وهوي ما هوي بمعايير الإئتمان. وفي عام 1970 أقر الكونجرس تأسيس شركة اخري هي "فريدي ماك" لتكون المنافس لها. واستمرت المؤسسات المالية التي قامت بإصدار الرهون بالسماح للمعايير بالهبوط نظرا لوجود مشترين اثنين، وبحلول عام 2002، قام بنك الاحتياطي الفيدرالي بعرض أموال غير محددة علي البنوك بأسعار فائدة أقل من مستوى التضخم احيانا، وهو ما دعم الرخاء الإسكاني بشكل مصطنع بفعل إصدار ما نسبته 100% من الرهون إلى مقترضين لا يتمتعون بمصداقية ائتمانية. وبإمكان البنوك التي قامت بإصدار الرهون أن تقوم بعرض بيع خداعي لهذه الرهون العقارية شبه الممتازة على مؤسستي فريدي ماك وفاني ماي اللتين ستقومان بوضعها في "مجمعات" من الرهون العقارية، وهي التي بدورها ستباع إلى صناديق استثمارية وإلى عامة الجمهور علي انها استثمارات تتمتع بأدنى حد من المخاطر المالية، وبالتالي سمحت للمشاركون بالسوق بالحصول علي اموال دافعي الضرائب. وأدي هذا الاسلوب- الذي يقضي بإعطاء ربح على مال شخص من مال شخص آخر- الي تحول مؤسستا "فاني ماي" و"فريدي ماك" الي موطن للفساد المالي والمحاسبي.