الأهرام: 4/7/2008 مصر, عربية كانت أو إسلامية, سوف تظل باعتبارات الجغرافيا دولة إفريقية تتصدر واجهة القارة السمراء في حدودها الشمالية, وبوابتها التاريخية علي الشرق والغرب علي السواء, إذ لم تعزلها الصحراء الكبري عن بقية دول القارة, وكان دائما النيل والبحر الأحمر ودروب السير في الصحراء بمثابة جسور تفاعلت عبرها مصر اقتصاديا وثقافيا مع الدول الإفريقية. ولقد حاولت قوي كثيرة عزل الشمال عن الامتداد الإفريقي جنوبي الصحراء بمسميات مختارة للأقاليم الجغرافية تارة, والحديث عن الأجناس تارة أخري, والوقيعة بين أفارقة الشمال وأفارقة الجنوب مرات كثيرة.. ولكن ثوابت الجغرافيا والتاريخ هزمت تلك المحاولات فانتبهت إفريقيا لعلاقات المكان أولا. إن إفريقيا تغطي نحو23% من إجمالي مساحة المعمورة, ويسكنها نحو13% من سكان العالم. وهي غنية بكل الثروات, وتحتوي جميع معالم الجغرافيا من السهول والوديان إلي الهضاب والجبال, ومن الصحراوات القاحلة إلي الأراضي الفيضية والغابات الكثيفة, وتمتد الحياة البرية علي أراضيها لتضم أكثر من نصف ثروات الأرض من الأنواع النباتية والحيوانية, ومع كل ذلك يظل سكانها هم الأكثر فقرا في العالم, ويواجهون كل آثاره التي ذهبت بثرواتها من البشر والموارد الطبيعية, واستنزفتها القوي الاستعمارية طويلا وتركتها تعاني وحدها آثار الفقر وشح الموارد بما فعلته وبما جنته الحروب والصراعات بين القبائل والشعوب الإفريقية نفسها. ولقد كان عقد القمة الإفريقية الحادية عشرة في شرم الشيخ, بحجم المشاركة وموضوعات الحوار, علامة فارقة في مسيرة الهم الإفريقي المشترك. فالقمة الأخيرة هي الأكبر من نوعها في قمم الاتحاد, وكان اختيار موضوع المياه والصرف الصحي محورا للنقاش, والبحث عن استراتيجية عمل مشتركة اختيارا تجاوز مرحلة التحرر والتخلص من التبعية, بكل شعاراتها التي لم تسفر إلا عن قليل من النتائج, واقتربت القمة من مشكلات حقيقية تنوء بها الأرض الإفريقية وتعانيها شعوبها. وهنا نقول إن مشكلات التنمية في إفريقيا لن تستطيع دول القارة مواجهتها منفردة حيث تندر مصادر التمويل, وتختفي التكنولوجيا اللازمة, فإفريقيا بحاجة إلي دعم خارجي لمواجهة مشكلاتها, ولكنها تأخرت كثيرا في بلورة موقف إفريقي موحد يعزز قدراتها علي التفاوض مع العالم الخارجي. وربما لم تصل إفريقيا بعد إلي هذه المرحلة بالشكل الذي نرجوه, ولكنها بدأت وعرفت أهمية ذلك. ولعل إعلان قمة شرم الشيخ يعكس حالة من التطور في المواقف الإفريقية المشتركة. فقد عرفت إفريقيا حقيقة ما تحتويه أرضها من ثروات, وأدركت أن التخلف ليس قدرا مفروضا عليها, وأنها قادرة علي التحول من بلاد المجاعات والفقر الشديد والصحراوات الزاحفة إلي أرض تنتج الغذاء للعالم, وتؤمن مستقبل البشرية بما تحتويه من ثروات إذا تكاملت الرؤي, وتضافرت الجهود بين الأفارقة شمالا وجنوبا لتعرف كيف تتحدث باسم ثاني أكبر قارات العالم. وقد كان عقد القمة الإفريقية في شرم الشيخ إشارة بليغة لما يمكن أن يأتي به السلام والاستقرار إلي ربوع القارة التي كثر فيها الصراع وتزايدت أعداد الضحايا, فمدينة شرم الشيخ ثمرة من ثمار السلام وتحقيق الاستقرار, وهي أيضا نقطة التقاء بين أكبر قارات العالم, وهي المدينة التي استضافت علي أرضها سلسلة لم تتوقف من المحادثات والمؤتمرات التي تسعي إلي إقرار السلام وتحقيق الاستقرار سياسيا واقتصاديا, وجاء إليها زعماء الدول الصناعية وغير الصناعية, وكبار الاقتصاديين في العالم بحثا عما يمكن أن نضمن به مستقبلا أكثر أمنا لشعوب المنطقة والعالم. وكان حضور الرئيس حسني مبارك وماطرحه من رؤي تحولت إلي برامج عمل, دار حولها الحوار والنقاش, تأكيدا لدور مصر في القارة السمراء, وارتباطها بمشكلاتها وهمومها, وحين وقف مبارك متحدثا أمام القمة الإفريقية اقترب كثيرا من مشكلات القارة وطرح برنامج عمل يعظم نتائج القمة, ويدفع جهود العمل الإفريقي المشترك خطوات إلي الأمام, وقد طرح الرئيس تسع نقاط محددة, تمثل في مجملها رؤية متكاملة لمواجهة قضية المؤتمر حول المياه والصرف الصحي واحتوت تلك النقاط التسع آليات عمل تجمع الجهود الإفريقية وتعزز بناء موقف إفريقي موحد يساعد في الحصول علي أقصي المنافع من الشركاء الدوليين, فمصادر المياه في إفريقيا تعاني مشكلتين: أولاهما امتداد تلك المصادر علي مساحات تتجاوز حدود العديد من الدول بما يفرض تكاملا في الجهود من أجل إدارة تلك الموارد المائية وتعظيم عائداتها بما يحقق زيادة في الرقعة الزراعية الإفريقية اللازمة لإنتاج الغذاء وبدون تلك الإدارة المتكاملة التي اقترحها الرئيس حسني مبارك سوف تظل أفريقيا تعاني العطش برغم الموارد المالية الهائلة المتوافرة.. وهذه الإدارة المتكاملة تتطلب تسوية للكثير من الخلافات السياسية والصراعات المسلحة التي تحول دون استثمار تلك الموارد. وثانيتهما هي ضعف الموارد المالية والخبرات البشرية اللازمة لإنقاذ الموارد المائية من الضياع والهدر الذي تعانيه الآن, فما يتدفق علي الأراضي الإفريقية من مياه يكفي حاجة سكانها ويسمح بزيادة حاصلاتها الزراعية, ولكنها لم تستغل بعد الاستغلال الصحيح. ومن بين ما طرحه الرئيس أيضا تنمية القدرات الفنية للكوادر البشرية المتخصصة, التي يمكنها وضع وتطوير خطط التنمية الوطنية في قطاعي المياه والصرف الصحي. فمصر بخبراتها الطويلة في هذا المجال قادرة علي تقديم العون الفني للعديد من الدول الإفريقية, ومن خلال آليات عمل مشترك يمكن أن تستفيد القارة السمراء من تلك الخبرة التي تراكمت حول مياه النيل الإفريقية. ولاشك في أن التصدي لمشكلة المياه والصرف الصحي هو البداية الصحيحة لمواجهة الفقر الذي استوطن إفريقيا زمنا, فالمياه تعني الزراعة وتوفير الغذاء للأفواه التي نال منها الجوع وسوف ينال منها أكثر مع أزمة الغذاء العالمية, كما أن الصرف الصحي مرتبط بمشكلات صحية أنهكت الجسد الإفريقي طويلا فأضعفت بنيته القوية, وهددت موارد القارة من البشر الأصحاء القادرين علي العمل بعيدا عن الأوبئة التي حصدت عشرات الملايين من الأفارقة. وأخيرا فإن كل جهد إفريقي لتحسين مستويات الحياة مرتبط أولا وأخيرا بإدراك الأفارقة جميعا في شمال القارة وجنوبها وشرقها وغربها أنه لابديل عن توحيد جهودهم وكلمتهم في إدارة مواردهم, وفي التعامل مع القوي العالمية التي تتكالب اليوم علي إفريقيا بحثا عن صيغة جديدة لإعادة استنزاف موارد القارة. دور مبارك في مواجهة الأزمة العالمية للغذاء والطاقة لقد عقدت ثلاث قمم متتابعة لإفريقيا في شرم الشيخ.. قمة الاتحاد الإفريقي وموضوعها الرئيسي المياه والصرف الصحي. وقمة النيباد ذراع إفريقيا الاقتصادية والآلية الإفريقية لمراجعة النظراء. وأربعة خطابات للرئيس حسني مبارك ومداخلتان للقمم الإفريقية المتتابعة تعكس رؤية مصر ورئيسها لأسلوب التحرك الدبلوماسي الجاد والفعال لمحاصرة المشكلات والأزمات الاقتصادية, وارتفاع أسعار السلع الغذائية العالمية علي شعوبنا, وإحداث تحرك عالمي في هذا المجال.. وهذه رؤية لم يطرحها الرئيس مبارك أمام القمة الإفريقية الأخيرة وحده ولكن كانت خطوته الأولي إليها في تجمع المنتدي الاقتصادي العالمي بشرم الشيخ في مايو الماضي, بحضور زعماء العالم وقواه المؤثرة من المؤسسات المالية والاقتصادية العالمية الغنية, ثم تابعها في تحرك دبلوماسي وسياسي في قمة الفاو لمنظمة الأغذية والزراعة في روما في أوائل يونيو الماضي, ثم أكدها أمام قمم إفريقيا في نهاية يونيو وأوائل يوليو الحالي, وسوف يطرحها مرة رابعة في منتصف هذا الشهر أمام أول قمة أورو متوسطية بباريس في محاولة جادة وفعالة لإيجاد استراتيجية عالمية شاملة تتأسس حولها المسئولية الجماعية والمشتركة والأسرة الدولية في توفير الأمن الغذائي للبشر. لقد تحرك الرئيس مبارك, منذ أن انفجرت أزمة الغذاء العالمية علي كل الأصعدة, وهو يتسم بالنبل والإيجابية والفاعلية معا, فعلي الصعيد المحلي أصر علي أن تساعد حكومته محدودي الدخل وأن تمد لهم كل أيدي المساعدة, وكانت له سياسات إيجابية هي الأكبر في زيادة دخولهم ووقفت الدولة معهم لحماية غذائهم, والحد من الآثار السلبية لتلك الأزمة التي قد تخلق مجاعات في عالمنا المعاصر, وعلي الصعيد الإقليمي يبني ويؤسس دورا فعالا يدفع نحو حل الأزمة وعلي الصعيد العالمي يدفع الأغنياء والقوي الكبري للمشاركة بزيادة إنتاج الغذاء والحد من الاتجاه نحو تحويل الأراضي المخصصة للغذاء إلي إنتاج الوقود الحيوي لمواجهة الآثار السلبية لارتفاع أسعار البترول. وسوف يؤرخ لهذا الدور وتلك الفاعلية لمصر ورئيسها, أنه الدور الأكثر تأثيرا في التنبيه لمخاطر أزمة عالمية تخص أكثر شئون الإنسان والحفاظ علي استمراره والحد من المجاعات ومخاوف البشر من هذه الأزمة الأكثر ضررا في حياته. إننا جميعا في حاجة إلي أن نكون مع رئيسنا وهو يخوض هذه المعركة الشرسة والصعبة التي يتحملها وحده ليس من أجل مصر أو إفريقيا فقط, ولكن أيضا من أجل العالم والفقراء في عالمنا المعاصر. إن الرئيس مبارك في هذه المعركة كان واضحا منذ اليوم الأول أنه يخوضها من أجل الفقراء في العالم كله وليس في العالم النامي وحده, فالفقراء في العالم المتقدم أيضا يعانون كثيرا لأن ارتفاع أسعار السلع الغذائية يؤثر فيهم ويدفع الجميع إلي حافة المجاعة. إن نبل هذه الدعوة والتخطيط الفعال لها لتنبيه القوي المؤثرة وحشد التأثير العالمي من الجميع وعلي كل الأصعدة, يعكس عمق رؤية الرئيس مبارك في أزمة عالمية حادة تؤثر في قوت الإنسان وأخص خصائص حياته وهو الغذاء. فهل يبادر العالم إلي فهم هذه الرؤية الرشيدة الواعية, ويلتقط هذا الخيط ويضع تحركا دوليا في هذا المسار يخفف من حدة الأزمة علي الفقراء. وإن هذه الدعوة وهذا الجهد الدائب في الطرح من جانب الرئيس مبارك يعكسان الإيمان الصادق والحقيقي بالقضية التي يتبناها ويدعو إليها في مختلف المحافل, بما يجعلنا واثقين من أن هذه الدعوة وتلك الرؤية سيكون لهما تأثيرها السحري في الخروج من هذه الأزمة الطاحنة, وإنها ستكون لها نتائج إيجابية تخفف من وطأة الآثار السلبية الطاحنة للأزمة العالمية في حياة البشر جميعا. وعلينا أن نبرزها علي أكثر من صعيد, ليس لأنها قادمة من رئيسنا فقط ولكن لأهميتها ونبلها للإنسانية وحياة كل الناس, فهذا هو الفكر الذي يعيش, وهذا هو الدور الذي يبقي, لأنه يصب في مصلحة الإنسانية كلها.