الاهرام 11/6/2008 من المؤكد أن نوري المالكي رئيس وزراء العراق واجه صعوبات جمة في زيارته الأخيرة لطهران, التي استهدف خلالها تسويق الاتفاق الأمني طويل الأمد مع الولاياتالمتحدة والذي تعتبره إيران ماسا بأمنها من جهة ويحول العراق إلي بلد تحت الاحتلال الدائم من ناحية أخري. هذا الاتفاق الأمني لم يصل بعد إلي مرحلة الصياغة النهائية وهو الآن في طور المفاوضات بين حكومة المالكي وإدارة الرئيس بوش وما تسرب عن بعض تفاصيله أو بالأحري بعض المطالب الأمريكية في هذا الاتفاق المنتظر تؤكد أن العراق في مفترق طرق حقيقي وان الخيارات المطروحة أمامه لاستعادة سيادته وإنهاء الوجود العسكري الأجنبي علي أراضيه محدودة جدا وربما غير موجودة أصلا. فجوهر هذه الخيارات هو مجرد الانتقال من حالة احتلال وفقا لتفويض دولي حسب القرار1546 الصادر في يونيو2004, إلي حالة وصاية مباشرة وفقا لاتفاق ثنائي بين طرفيه بون شاسع جدا في توازن القوي المادي والسياسي معا. معروف أن تفويض الأممالمتحدة للقوات الدولية في العراق ينتهي في نهاية العام الحالي وبعدها يحق للعراق أن يخرج من تحت مظلة قرارات الأممالمتحدة الصادرة وفقا للفصل السابع والتي تقيد الحكومة العراقية في كثير من المجالات الخارجية والداخلية معا. وعندها قد يعتبر نفسه بلدا مطلق السيادة بالمعني القانوني والشكلي. غير أن الأمور التي تجري علي الأرض لن تقود إلي مثل هذه النتيجة فالارتباط الأمني والاستراتيجي بين العراق والولاياتالمتحدة الذي ستحدد تفاصيله الاتفاقية المطروحة سيعني أن العراق لن يخلو من القوات الأمريكية لسنوات وعقود طويلة مقبلة وأن قدرته في الدفاع عن نفسه لن تتوافر إلا بالمشاركة المباشرة مع هذه القوات الأمريكية ووفقا لما تحدده قيادتها, وأن التلازم بين استراتيجية العراق والاستراتيجية الأمريكية في المنطقة بات قدرا محتوما. وسيعني أيضا أن منظومة الأمن في منطقة الخليج والمشرق العربي ككل باتت محكومة بالوجود العسكري الأمريكي المباشر. أو بعبارة أخري أن الاتفاقية تؤسس لمنظومة أمنية إقليمية جديدة, وتنهي بذلك تراثا طويلا من مقولات أن أمن الخليج مرهون بأصحابه, وبعلاقات حسن الجوار بينهم. وهو أمر سيكون له نتائجه المباشرة علي تحركات القوي الإقليمية تجاه بعضها البعض. هذه النتائج تجد صداها في المطالب الأمريكية التي قدمت للجانب العراقي, والتي تشمل أمورا عديدة تدخل في صميم سيادة أي بلد كإقامة عدد من القواعد العسكرية الثابتة( يتردد عددها بين 14 و40 قاعدة), والسيطرة الكاملة علي الأجواء والحصول علي تسهيلات مفتوحة برا وبحرا وحق اعتقال وسجن أي فرد يرونه يشكل تهديدا, وشن عمليات عسكرية لملاحقة الإرهاب دون استشارة الحكومة العراقية, وان تدخل القوات الأمريكية والأموال دون علم الحكومة ومنح حصانة للقوات الأمريكية والمتعاقدين معها, وان تقوم بعمليات عسكرية دون إذن الحكومة, والتعامل مع العقوبات المفروضة علي العراق عن طريق الأممالمتحدة, واعتماد قانون مكافحة الإرهاب وفقا للمفاهيم الأمريكية, وحق استقدام جيوش إلي العراق دون علم بغداد. وغير ذلك من المطالب التي تعكس قرارا أمريكيا استراتيجيا في أن يكون البقاء في العراق مريحا وغير مقيد ومطلق زمنيا وموضوعيا. مثل هذه المطالب ربما تتغير جزئيا أو توضع لبعضها صياغات تسمح للحكومة العراقية بالقول إن الاتفاق الأمني لا يتعارض مع سيادة البلاد الكلية. لكن الواقع سيكون غير ذلك قطعا إذ سيكون هنا نوع من الوصاية المباشرة امنيا وسياسيا بعيدة الأمد. ومن هنا يدرك عراقيون كثيرون ومنهم من تعاون مع القوات الأمريكية في احتلال بلاده في مارس 2003, بأن هذا الاتفاق وإن كان يمثل خروجا من قيود الفصل السابع لميثاق الأممالمتحدة, لكنه يضع قيودا أشد وأقسي ويجعل سيادة العراق نوعا من السراب, ناهيك عن أن الاتفاق, وهو أمني الطابع, لكنه سيعطي نفوذا هائلا للولايات المتحدة في تحديد مسار كل شئ في العراق, بداية من نوعية العملية السلمية في الداخل ومرورا بالهيمنة علي قطاع النفط, ونهاية بتحديد العقيدة الدفاعية للعراق وعلاقاته الخارجية, فضلا عن صياغة اتجاهات التعاون والتكامل في الإقليم وفقا للمصالح الأمريكية. المفارقة الصارخة هنا تتمثل في مجموعة من المواقف الملتبسة بين مؤيد ومعارض للاتفاق الأمني. فبينما تجبر الحكومة علي الاستمرار في المفاوضات وتوقيع الاتفاق بأي صيغة كانت, وليس لديها حيلة التراجع أو قدرة الممانعة, تأتي المعارضة الأكبر للاتفاق الأمني المزمع عقده قبل نهاية31 يوليو المقبل من تيارات وقيادات سياسية ومرجعيات دينية شيعية تشكل الدعامة الأساسية للحكومة, ولها صلات بشكل أو بأخر بإيران, لاسيما وان جزءا كبيرا منهم عاش في إيران فترة معارضته للنظام السابق, وبما يسمح جزئيا بالاستنتاج بأن أسباب المعارضة تنطوي علي أسباب عدة, منها عناصر وطنية تدافع عن سيادة واستقلال حقيقيين, ومنها معارضة أن تكون بلادهم منطلقا للضغط علي الحليف الاقليمي الأول من جهة, أو أن يتحول الوجود العسكري الأمريكي المستقبلي إلي عنصر كابح لطموحاتهم في تحويل العراق أو جزء منه إلي نموذج قريب من حكم ولاية الفقيه. ولا شك أن هناك من يعارض لمساعدة المفاوض الحكومي علي ترشيد الاتفاق الأمني إلي أقصي حد ممكن. وفي سياق تلك المفارقة نفسها يأتي تأييد الاتفاق بكل ما ينطوي عليه من ضغوط علي سيادة البلاد من الأحزاب الكردية المشاركة في الائتلاف الحاكم, ومن جبهة التوافق السنية والحزب الإسلامي السني, رغم اختلافهما الكبير مع حكومة المالكي, ورغم كونهما من القوي التي عارضت الاحتلال الأمريكي وساهمت في فترات سابقة في تأييد عمليات المقاومة العراقية. وتأتي أسباب التأييد من منظور أن الاتفاقية ستؤدي إلي حماية العراق من أي اعتداء خارجي وأنها ستساعد البلاد علي بناء منظومة دفاعية حقيقية بلا اختراقات كبري من الدول المجاورة, كما أنها ستحد من النفوذ الإيراني المتصاعد وستحافظ علي العراق الموحد. مثل هذا الموقف هو نتيجة لتحول مواقف بعض القوي السنية وعدد من العشائر العراقية الكبري إلي التعاون مع القوات الأمريكية طوال ما يقرب من عام لمواجهة المنظمات التابعة للقاعدة من جهة وحلفاء إيران من جهة أخري. وهكذا, ما بين التأييد والمعارضة يطل علينا البعد الإيراني, والذي بات يمثل احد إشكاليات حاضر ومستقبل العراق والإقليم ككل. هناك أيضا مؤيدون للاتفاقية الأمنية المنتظرة من خارج العراق, يرون فيها ضمانة لأمور أساسية وجوهرية, منها منع تحول العراق إلي ساحة لتصفية حسابات إقليمية بين إيران وتركيا والعرب وسد منافذ الحرب الأهلية الكامنة في النسيج العراقي ووقف الامتداد الإيراني إلي باقي مناطق وأقاليم العراق ومنه إلي بلدان أخري مجاورة. و لا يهم هؤلاء اعتبارات السيادة بقدر ما يهتمون باعتبارات التوازن الإقليمي المرشح لمزيد من الاختلالات في حالة خروج القوات الأمريكية دون وجود بديل قوي يساعد العراقيين في الحفاظ علي أمنهم. ولاشك أن إيران المتطلعة إلي تعاون كامل مع أي حكومة عراقية في المستقبل تجد في الاتفاقية الأمنية طويلة الأمد سدا أمام الكثير من أحلامها سواء في العراق أو في عموم الإقليم. هنا يلفت النظر أن تاريخ توقيع الاتفاقية المنتظر هو نهاية يوليو المقبل, أي قبل خمسة أشهر من نهاية ولاية الرئيس بوش وهنا يبدو احتمالان : الأول, أن تحديد وضع القوات الأمريكية مطلوب قبل أي عمل عسكري ضد منشآت نووية إيرانية, يتردد أن شهر أغسطس هو الأنسب لمثل هذا الهجوم. والثاني, أن الاتفاقية مطلوبة لكي تساعد المرشح الجمهوري علي القول بأن التضحيات الأمريكية من أموال وجنود وسمعة لم تذهب سدي, بدليل أن العراق ونفطه باتا تحت سيطرة أمريكية غير محددة المدة, ومن ورائها ترتيبات أمنية تسهم في مزيد من الأمن لإسرائيل. هذان الأمران متكاملان وكل منهما يطرح إشكاليات صعبة علي العرب بحاجة لمزيد من التفكير والتأمل.