الاهرام 11/05/2008 الانطباع الغالب عند معظم المراقبين هو ان اهتمام الولاياتالمتحدة بالشرق الأوسط هو أمر حديث نسبيا قد يرجع إلي ما بعد الحرب العالمية الثانية فقط, اما قبل ذلك فان ما اطلق عليه الشرق الأوسط فقد كان هما أوروبيا بحتا, وربما بدأت العلاقة مع أوروبا عند ظهور الإسلام نفسه ثم مع توسعه إلي اطراف اوروبا في الغرب مع انشاء دولة العرب في الاندلس في بداية القرن الثامن مما أوجد توترا بين الطرفين, ثم عاد التوتر مرة أخري مع الغزوات العكسية من أوروبا مع الحروب الصليبية منذ القرن الثاني عشر, وتجدد الصراع مرة ثالثة مع الصحوة الجديدة للدولة الإسلامية منذ القرن الرابع عشر حين بدأ التوسع العثماني علي اطراف شرق أوروبا في البلقان ووسط أوروبا, وذلك قبل ان تعود أوروبا من جديد لاستعمار معظم بلدان الشرق الأوسط في القرن التاسع عشر, وإلي جانب هذه الغزوات المتبادلة, فقد كانت التجارة مستمرة بين الطرفين طوال هذه القرون, وفي كل هذا لم تظهر أمريكا بشكل واضح في هذه العلاقة, إلا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية لمواجهة خطر التوسع السوفيتي من ناحية, وحماية مصالح النفط من ناحية ثانية, واضيف إلي ذلك ضمان وجود إسرائيل بعد انشائها, هذا هو الانطباع الغالب عن علاقة أمريكا بالشرق الأوسط فهل هذه هي كل القصة؟ في كتاب حديث عن القوة والعقيدة والأوهام يتناول المؤلف الإسرائيلي الأمريكي أورين استعراضا لعلاقات الولاياتالمتحدة بالشرق الأوسط, مبينا ان هذه العلاقات قديمة, وقد بدأت منذ استقلال أمريكا, والكتاب استعراض عريض وشامل لاشكال العلاقات بين امريكا والشرق الأوسط ومن خلال ثلاثة محاور اوردها الكاتب في العنوان وهي علي التوالي القوة والعقيدة والأوهام( وربما الافضل تعريب الكلمة فانتازيا) فأما الحديث عن القوة فهو حديث عن المصالح الاقتصادية والدفاع عنها بجميع الوسائل السلمية والعسكرية, وأما العقيدة فهي تعبر عن تأثير العقيدة الدينية, خاصة البروتستانتية المستمدة من القصص التوراتية عن الاراضي المقدسة, كما يدخل فيها ايضا احيانا مباديء الديمقراطية والحرية واخيرا فالفانتازيا تشير إلي الشوق إلي سحر الشرق أو اساطير الف ليلة وليلة او تاريخ الفراعنة وحضارات ما بين النهرين. وبصرف النظر عن مدي موضوعية الكاتب, فان الكتاب يزخر بثروة هائلة من الوقائع والأحداث التي تبين ان مانراه الآن من سياسات امريكية له جذور قديمة في التاريخ الأمريكي, وقبل ان نتعرض لبعض لمحات الكتاب فقد يكون من المناسب الاشارة إلي ملاحظتين, اما الملاحظة الأولي, فهي الالتباس الشديد في دوافع السياسة الأمريكية بين المباديء والمصالح. وكان كيسنجر قد اشار في كتابه عن الدبلوماسية إلي التردد في السياسة الأمريكية الخارجية بين محورين, الأول هو المثالية كما يمثلها ودورولسن, والثاني هو البرجماتية أو الواقعية التي يعبر عنها تيودور روزفيلت, واما الملاحظة الثانية, والتي تميز المجتمع الأمريكي, فهي الجمع بين امرين يبدوان متعارضين فأمريكا, هي ربما اكثر الدول علمانية في فصلها الكامل بين الدولة والكنيسة, ومع ذلك فان مواطنيها هم من أكثر الدول تدينا. جاء تعبير الشرق الأوسط لأول مرة في مقال للامريكي الفريد ماهان عام1902, واما اهتمام امريكا بالشرق الأوسط فقد بدأ مع ولادة الجمهورية الجديدة واستقلالها عن التاج البريطاني, فقبل الاستقلال, كانت البحرية البريطانية وهي سيدة البحار تحمي تجارة مستعمراتها في أمريكا وبمجرد الاستقلال وجدت الدولة الجديدة سفنها التجارية عارية من كل حماية عسكرية, وكان يسيطر علي مداخل البحر المتوسط في شمال افريقيا قبائل وممالك عربية وبربرية, وكانوا يتعرضون للسفن المارة امامهم من غير الدول الإسلامية, ومن هنا اطلق عليهم الغربيون اسم قراصنة البحر ولم يكن امام أمريكا وهي لاتملك اية قوة بحرية في ذلك الوقت سوي ان تحاول ارضاء هؤلاء القراصنة بدفع اتاوات أو رشوة لهم لضمان عدم التعرض لسفنهم التجارية, وهكذا بدأت علاقة امريكا بالشرق الأوسط بشراء سكوت قراصنة شمال افريقيا, وربما بسبب هذه الاحداث ادركت الولاياتالمتحدة ان حرية التجارة وحدها لاتكفي وانها تحتاج إلي قوة عسكرية لحمايتها, وهكذا فقد كانت هذه الاحداث مبررا للمطالبة بتدعيم السلطة المركزية لحكومة الولاياتالمتحدة في مواجهة سلطة الولايات, ومع الاعتداءات علي السفن الأمريكية في البحر المتوسط طلبت الحكومة المركزية منحها الحق في تكوين الجيوش والاساطيل مما ادي إلي تقوية الحكومة الفيدرالية, وقد انعكس كل ذلك علي الدستور الفيدرالي في1787, وبالفعل نجحت الحكومة الأمريكية بعد سنوات في بناء اسطول قادر علي محاربة سكان شمال افريقيا فيما اطلق عليه آنذاك حرب البرابرة وهكذا بدأت علاقة أمريكا بالشرق الأوسط لحماية المصالح التجارية الأمريكية بالمساومة حينا وبالسلاح حينا آخر. ولكن أمريكا ليست مجرد تاجر يبحث عن مصالحه, فأمريكا تعتقد انها دولة ذات رسالة تدعو إلي مباديء تؤمن بها, وقد ظهر ذلك بشكل واضح في منتصف القرن التاسع عشر فيما عرف بايديولوجية القدر المكتوب لرسالة أمريكا'manifestdestiny1840 ويمكن ان نميز في النزعة المثالية للرسالة الأمريكية بين اتجاهين غير متطابقين تماما, يتوافقان احيانا ويتعارضان احيانا اخري, الوجه الأول تغلب عليه مسحة دينية, في حين ان الوجه الآخر ذو توجه علماني بحت, اما الوجه الديني فهو يرجع إلي ان معظم مواطني أمريكا هم من المسيحيين البروتستانت المتدينين والمتأثرين بقصص العهد القديم والتي تدور معظمها في الشرق الأوسط في الاراضي المقدسة بفلسطين, ولذلك فان جزءا من هذه الدعوة يعكس الارتباط الوجداني مع الاراضي المقدسة, ولكن لهذه النزعة التبشيرية وجها آخر, حيث ان التاريخ الأمريكي يفخر بان الولاياتالمتحدة هي أول دولة تدعو إلي الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان. فهذا جزء اصيل من رسالة أمريكا للعالم وبالنسبة للمواطن الأمريكي العادي, فانه لايري تعارضا أو تناقضا بين هذين الوجهين. فهذا المواطن وهو عادة بروتستانتي متدين يعتقد انه يؤمن بالدين الصحيح وأن دينه يدعوه إلي المحبة والإخاء والسلام, ولذلك فانه بدعوته إلي البروتستانتية وقيمها فانه يدعو ايضا إلي الحرية والديمقراطية وإلي السلام, ولكن هذين الجانبين في حالة الشرق الأوسط يظهران كما لو كانا متعارضين, فالدعوة في توجهها الديني تحبذ انشاء دولة لليهود في ارض فلسطين باعتباره وعدا من الرب, اما الرسالة في جانبها العلماني فانها تتطلب احترام حقوق الاغلبية من السكان الاصليين الفلسطينيين وعدم تعريضهم للتشريد والاضطهاد وقد نجحت الحركات اليهودية خاصة الصهيونية في استلاب واستثمار الجانب الديني في هذه النزعة التبشيرية لدي الأمريكيين, فاليهود ليسوا من المسيحيين حقا, ولكنهم ابناء عمومتهم, وكتابهم التتاخ ويشمل التوراة والانبياء وغيره وهو العهد القديم في الكتاب المقدس وعودة اليهود للاراضي المقدسة هي عندهم, وعد من الله. وإذا كان اليهود قد نجحوا في استثمار الجانب الديني العقائدي للرسالة الأمريكية, فان العرب قد فشلوا تماما في استغلال الجانب الآخر العلماني من هذه الرسالة للديمقراطية وحقوق الانسان, فالدعوة للحرية والاستقلال وحقوق الانسان, لاتقل رسوخا في الوجدان الأمريكي, ولعل ابلغ مثال لها ما أعلنه الرئيس ولسن لمبادئه الاربعة عشر قبل نهاية الحرب العالمية الأولي بالدعوة إلي تقرير المصير, ومن هذا المنطلق فقد ساعد الأمريكيون عددا من الزعماء العرب المطالبين بالاستقلال الوطني, مثل تأكيد ضرورة عودة الملك محمد الخامس إلي المغرب وحماية الحبيب بورقيبة وضمان سلامته, فضلا عن تأييد الثورة الجزائرية, بل الاحتفال بحركة الضباط الاحرار في مصر عند قيامها, وبعد سحب عرض تمويل السد العالي, الزمت امريكا إسرائيل وحليفتيها انجلترا وفرنسا بالانسحاب من القناة وسيناء. وهكذا فان مانراه علي الساحة الآن ليس الا تكرارا واعادة لمشاهد سبق رؤيتها علي المسرح الأمريكي نفسه, فما يعلنه جورج بوش الآن ليس بعيدا عما كتبه جده الأكبر, واسمه ايضا جورج بوش, وقد الف كتابا بعنوان رؤية السهل دعا فيه إلي انشاء دولة يهودية في فلسطين, وذلك قبل ظهور الحركة الصهيونية نفسها, وكان بوش الجد قد اصدر ايضا كتابا عن النبي محمد عليه السلام, ولم تكن احكامه علي الدين الإسلامي منصفة دائما, وذلك علي عكس الجنرال باتون الذي قاد القوات الأمريكية بعد قرن من الزمان في شمال افريقيا ثم في أوروبا وقرأ القرآن ووجده ملهما ومشوقا. وبعدما قامت دولة إسرائيل في عام1948 انقسمت الادارة الأمريكية علي نفسها تعبيرا عن الازدواج في رؤية أمريكا لرسالتها للعالم, فوزير الدفاع آنذاك جيمس فورستال ووزير الخارجية جورج مارشال كانا معارضين لهذه الخطورة, وكان رأي فورستال ان مباديء الديمقراطية تتطلب ان تكون ادارة فلسطين للاغلبية العربية, ولكن ترومان الذي كان رجل سياسة اكثر منه رجل دولة ايد انشاء الدولة اليهودية لاعتبارات انتخابية, وكان شريكه في محل الملابس قبل ان يصل إلي الرئاسة ايدي جاكبسون قد اهاب به ان يساعد شعبه من اليهود, فاستجاب له ترومان, ثم ندم بعد ذلك, وهكذا نري ان الالتباس في المواقف الأمريكية قديم. وامريكا دولة كبيرة وبالغة التنوع, وقد نجح اليهود في استثمار تطلعات عدد كبير من الأمريكيين إلي الاراضي المقدسة وارتباطهم بها, ولم ينجح اي من العرب حتي الآن في استنهاض تطلع أمريكي آخر لايقل اهمية, اسمه الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان فهل نتعلم؟ الله أعلم