يجهد خبراء المعلوماتية لتنسيق جهودهم في مجال «الزراعة الرقمية» Digital Agriculture، في محاولة للإسهام في الحدّ من تصاعد الموجة المفجعة من الجوع المترافق مع الارتفاع الصاروخي في أسعار السلع الغذائية عالمياً، والذي تطلق عليه الكثير من الأوساط الاقتصادية والسياسية اسم «تسونامي الجوع». والمعلوم أن تلك الموجة أثارت احتجاجات شعبية في بعض الدول العربية مثل مصر والأردن واليمن وموريتانيا، اسوة بدول أخرى مثل هايتي والهند والسنغال وبوليفيا والارجنتين وغيرها. ماهي «الزراعة الرقمية»؟ وتتزايد حاجة الدول العربية الى استخدام أساليب المعلوماتية وتقنياتها، وتوظيفها في تحسين الانتاجية الزراعية وزيادة المساحات القابلة للاستزراع وتنمية الثروة الحيوانية وترشيد استخدام مياه الري، وبالتالي تحفيز التنمية الزراعية والريفية عموماً. ومن المعلوم أن الثورة الرقمية استطاعت أن تُدخل الكثير من التطور التقني على أساليب الزراعة والرعي، إضافة الى عمليات الحفظ والتخزين والتعليب والتسويق، وكذا عملية التخلص من المخلفات الزراعية والحيوانية ومكافحة التلوث وغيرها. ويُطلق على هذه الأمور مصطلح «الزراعة الرقمية». وبخلاف الزراعة التقليدية، التي تعتمد على تراكم تدريجي للخبرات البشرية المتوارثة عبر الأجيال، يشكّل المكوّن المعلوماتي عنصراً جوهرياً في هذا النوع المتطور من الزراعة، التي ما زالت في أطوارها الأولى. وترتكز الى استخدام قواعد بيانات دقيقة عن خصائص التربة والمحاصيل، وسلوك قطعان الماشية، وتغيّرات الطقس والمناخ وتحركات الاسواق وغيرها. وتستعين هذه الزراعة بتقنيات رقمية مثل «النظام العالمي لتحديد المواقع» («جي بي اس» GPS) وتقنية «الاستشعار من بُعد» Remote Sensing ، والأقمار الاصطناعية و «نُظُم المعلومات الجغرافية» («جيوغرافيك انفورمايشن سيستم» GIS) وتقنية «التعرف الى الهوية بموجات الراديو» («آر أف أي دي» RFID) والخليوي والروبوت وغيرها. وشهدت السنوات الأخيرة انتشاراً كبيراً لأساليب الزراعة الرقمية في كثير من الدول المتقدمة مثل الولاياتالمتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا والصين والدول الاسكندنافية وغيرها. ويلاحظ أن معظم تلك الدول أدرجت مناهج الزراعة الرقمية في الجامعات ومراكز البحوث الأكاديمية. وفي هذا السياق، يُلاحظ أيضاً دور «نُظُم المعلومات الجغرافية» في عمليات ادارة ملكية الأراضى وإستصلاحها، وتصميم أنظمة الري والصرف وصيانتها وبرمجتها ومتابعتها. وتالياً، يعتمد «الفلاح الرقمي» Digital Peasant على تقنيات متطورة في المعلوماتية لتحديد الطرق المُثلى في استخدام المياه والبذور والسماد والمبيدات. وكذلك يعتمد عليها في التعرّف الى تغيّرات المناخ وخصائص التربة. وفي سياق متصل، تُستخدم أيضاً تقنية «الاستشعار من بُعد» لجمع معلومات عن التربة مثل نسبة الطين والحجارة والأملاح والرطوبة والمعادن. كما تُستعمل تقنية «تحديد المواقع العالمية» في رسم خرائط تفصيلية للمزارع بمقاييس دقيقة، ما يُمكّن تالياً من تقسيمها إلى مناطق صغيرة طبقاً لإختلاف مستوى سطح التربة، ومن ثم تحديد احتياجات كل منطقة بحسب خصائصها. كذلك زُوّدت الآلات الزراعية بأنظمة دقيقة لغرس البذور على أعماق تتناسب مع نوع المحصول وتركيبة التراب ودرجة الرطوبة ومستوى تماسك التربة وغيرها. وكذلك يتزايد استخدام المعلوماتية في تحلية مياه البحر وتنقية مياه الصرف وتكريرها تمهيداً لاعادة استخدامها في الزراعة. وعلى المنوال نفسه، استخدمت نُظم المعلوماتية في ادارة حظائر الماشية والمحالب والمجازر، وتتبع ظروفها الصحية والبيئية، وتنمية الثروة الحيوانية بصورة عامة. وصار شائعاً في المزارع الرقمية ومراعيها استخدام تقنية «التعرف الى الهوية بموجات الراديو» بغرض تكوين قواعد بيانات عن الحيوانات، ومتابعة تكاثرها، ومسار قطعانها، ورصد سلوكها وتحليله. كما تستخدم تقنية «الاستشعار من بُعد» ونُظُم التحكّم المركزية في عملية التحكم الآلي بالحظائر والمذابح لجهة مراقبة نظافتها، والتحكّم في درجة حرارتها، ونِسَب الرطوبة والتهوئة فيها. وفي هذا السياق، بدأت وزراة الزراعة الأميركية منذ العام 2006 في استخدام هذه التقنية لإنشاء نظام هوية فيديرالي لقطعان الماشية والحيوانات في الولاياتالمتحدة. ويتوقع أن ينتهي جرد حيوانات تلك البلاد مع نهاية العام 2009، وذلك بغية رقمنة كل الأنشطة المتعلقة بالثروة الحيوانية فيها. وتستعمل تقنيات رقمية مُشابهة في عمليات صيد الأسماك وتتبع مواسم تكاثرها وهجرتها في البحار. وكذلك تستخدم في ادارة مزارع الأسماك ومتابعة ظروف الأسماك الصحية والبيئية. ويُضاف الى ذلك، تزايد اعتماد الصيادين والرعاة على نظام «جي بى اس» لتحديد المواقع، إضافة إلى الهواتف الجوّالة المتصلة بالاقمار الاصطناعية، لكي يبقوا على اتصال بالاسواق في صورة مستمرة. وبذا، صارت الحوسبة والخرائط الالكترونية وصورها والبيانات الدقيقة والآنية الخاصة بالمزارع والمراعي والمصائد، من لوازم التخطيط والادارة في المجتمع، وخصوصاً في مجال الزراعة الرقمية. الاقتصاد الزراعي الرقمي عربياً استناداً إلى ما تقدّم، يمكن القول إن طرق الزراعة والرعي الرقمية تُمكّن الفرد من زراعة المحاصيل وتربية الحيوانات في الأماكن المناسبة وبالطرق المُلائمة، وكذلك تهيئة المناخ الأكثر توافقاً مع نموها؛ إضافة الى رعايتها ومتابعتها باستمرار وبكفاءة ودقة كبيرتين. ولذا يسميها البعض «الزراعة الدقيقة» «Precision Agriculture». وبالمقارنة مع الطرق الزراعية التقليدية، يبدو واضحاً أن هذه الطرق الذكية أكثر إنتاجية وكفاءة في التعامل مع عناصرالانتاج، وتحجيماً للمخاطر المحتملة ومحافظة على البيئة. ومن الأدلة المُهمّة على ذلك، بالنسبة الى المنطقة العربية، تضاعف انتاجية المزارع الاسرائيلي مقارنة بنظيره المصري ذي الخبرة العتيقة؛ بأثر من ميل الأول للاعتماد على المعلوماتية في إدارة مزارعه وتسويق منتجه ورصد متغيّرات مواسمه وغيرها. ولذا، يعوّل «البنك الدولي» على الزراعة الرقمية، وإن بصورة جزئية، في مكافحة موجة غلاء أسعار الغذاء راهناً التي يتوقع أن تزيد الفقر بنسبة تتراوح بين 3 و5 في المئة من السكان عالمياً، أي ما يعادل 100 مليون شخص. وفي هذا السياق، يواجه العالم العربي تحديات متمثّلة في تزايد الطلب على الغذاء وارتفاع أسعاره، وتفاقم أزمة المياه، وخصوصاً في ظل المتغيرات المناخية الراهنة؛ إضافة الى ضرورة الحفاظ على خصوبة التربة وعناصرها الأساسية. ويرجع بعض خبراء الإقتصاد فجوة الغذاء في العالم العربي الى سوء إدارة الموارد المتاحة، التي تُفاقم مشكلة ندرتها المُزمنة. ومثلاً، تشير التقارير إلى أن الفاقد من مياه النيل في مصر يصل إلى حوالى 29 بليون متر مكعب سنوياً، بنسبة تزيد على 52 في المئة من حصة مصر في مياه النيل. ويفترض معالجة هذه المشكلة باستخدام المعلوماتية في هندسة أنظمة الري والصرف. وعلى رغم الإمكانات الزراعية الضخمة للسودان والتي تصل الى 30 مليون فدان من الأراضي الخصبة الصالحة للزراعة، فإن ما يستغل منها لا يزيد على 16 في المئة، مع ملاحظة توافر الأيدي العاملة والموارد المائية اللازمة في البلد. وكذلك تقدّر الثروة الحيوانية في السودان، التي رُشّحت مع كندا واستراليا كثلاث دول قادرة على ردم فجوة الغذاء العالمية، بقرابة 132 مليون رأس من الماشية والابل والأغنام والماعز، قابلة للتضاعف اذا ما استخدمت التقنيات المعلوماتية المتطورة. ويمكن للدول العربية، ولا سيما مصر والسودان والعراق وسورية، توظيف المعلوماتية لمضاعفة الانتاج الزراعي والحيواني من ناحية، وتخفيض تكلفة الانتاج وزيادة جودته من الناحية الأخرى. كما يمكن للدول النفطية الاستفادة من ارتفاع عائدات النفط الراهنة واستثمارها في قطاع الزراعة في هذه الدول. وقد بدأت مصر والسعودية وقطر فعلياً في الاستثمار في القطاع الزراعي والثروة الحيوانية في السودان. وفي المقابل، يظل نقص الخبرة والوعي بأهمية المكوّن المعلوماتي، وارتفاع نسبة الأمية الرقمية (والألفبائية) بين المزارعين والرعاة، من أبرز العوائق أمام نفاذ الزراعة الرقمية الى العالم العربي.