ليس شاغلا للسودانيين ما إذا كان حديث الأممالمتحدة عن عدم اكتمال انسحاب جيش بلادهم من مناطق الجنوب إلى الشمال صحيحا أم لا، كما قال الأربعاء الماضي قائد قوات المنظمة الدولية هناك الجنرال جاسبار ليدر. ولا يشغلهم كثيرا ردّ حكومة بلادهم، كما فعل المتحدث الرسمي باسم القوات المسلحة العميد عثمان الأغبش يوم الجمعة في تصريحه أنه لا يوجد حاليا في الولاياتالجنوبية أي قوة تتبع الجيش. لا يبدو أن هناك مكانا لمثل هذه التفاصيل أمام أشواق السودانيين إلى أن يتأكد السلام الشامل بين شمال بلادهم وجنوبها. تحضر هذه القناعة إلى خواطر عشرات الحضور والضيوف والزوار الذين استمعوا إلى أغنيات وألحان، وشاهدوا رقصات واستعراضات، وأنصتوا إلى إيقاعات وأنغام، سودانية من الشمال والجنوب، في حفل لمهرجان “طبول السلام” الليلة قبل الماضية في المسرح القومي في أمدرمان، وهو الحفل الذي اختتم به المهرجان جولاته في مدن في شمال وشرق وجنوب وغرب السودان كان قد بدأها في ديسمبر/كانون الأول الماضي. يقام المهرجان “تحت رعاية الشعب السوداني”، وهذه بادرة مبتكرة، ويشارك في دعمه القطاع الاقتصادي ممثلا في مؤسسات وهيئات وشركات خاصة وعامة، وتنظمه مؤسسة “سودانيز ساوند”، بالتعاون مع السفارات البريطانية والنرويجية والفرنسية في الخرطوم. واختار اسم “طبول السلام” منذ دورته الأولى قبل ثلاثة أعوام، أي منذ إقلاع التحول السياسي للسودان بعد توقيع اتفاقية السلام الشامل في نيفاشا عام 2005 بين الشمال و”الجنوب الحبيب”، كما تكرر وصفه في كلمات متحدثين في الحفل. وإلى الفعاليات الفنية التي تيسر لروّاد حفلات المهرجان أن يبتهجوا بها في مدن عطبرة وبورتسودان والأبيض وودمدني وجوبا، عقدت في أثنائه جولات حوار في شؤون الأسرة السودانية ضمن “مقهى السلام” الذي تم تنظيمه، وخرج بتوصيات أنجزها خبراء وباحثون وناشطون اجتماعيون وتربويون، وتسلمها في واحدة من فقرات الحفل مسؤولون رفيعون وشخصيات وازنة، كان منها نائب الأمين العام للحركة الشعبية لتحرير السودان ياسر عرمان الذي أخطأ مقدمه باسمه فناداه أولا باسم ياسر عرفات، قبل أن يستدرك أن ثمة عذرا في الخطأ باعتبار ياسر عرفات مناضلا ومقاتلا أيضا. وقد أكد عرمان في كلمة له على وجوب حماية السلام وليكون الشمال والجنوب في وئام نفسي دائم. أما مدير دائرة المراسم في وزارة الخارجية علي يوسف فقال ان تحقيق السلام ينبغي أن يقود إلى تحقيق وحدة السودان إن شاء الله، وهذا ليس مسؤولية الحكومة و”الشريكين” وحدهم، بل مسؤولية كل سوداني. وكما غنّت الفنانة سمية حسن، وهي من أهل الشمال، في حفل “طبول السلام” في جوبا، عاصمة الجنوب، قبل نحو شهر، وشاركت نساءً من الجنوب الرقص في أكثر من أغنية وارتدت زيا جنوبيا، استمع حضور حفل الليلة قبل الماضية إلى إيقاعات ورقصات فرقة معهد أورباب لفنون الأداء الإفريقي من أهل الجنوب، وأطربت إيقاعاتهم على الطبول الكبيرة الجميع الذين تفاعلوا مع أدائهم. وبين ما أكده الاستقبال البهيج لهؤلاء السودانيين واستعراضاتهم في مسرح في الشمال، وكذلك ما أكّده التجاوب الجنوبي الكبير مع سميّة حسن أن الحاجة كبيرة إلى أن يتعرّف أهل السودان جيّدا إلى الحساسيات الفنية المختلفة لديهم، وخصوصا لدى أهل الجنوب الذي يطوي صفحة سنوات طويلة من حرب مجنونة قضت على نحو مليوني سوداني. لم تأت أي من كلمات المتحدثين ولا الأغنيات في حفل “سودانيز ساوند” في المسرح القومي في أمدرمان إلى شيء عن تلك الحقبة. فقد أدى كورال جامعة الأحفاد للبنات، وهي الجامعة الوحيدة في إفريقيا للبنات وتأسست قبل 42 عاما، مغناة عن “فداء بلدنا” بالأرواح والمال “وبنائه” بأيدينا”، ذات ألحان وديعة تلحّ على أخوة السودانيين، كما الفقرات الفنية الأخرى التي اختتمها الفنان والموسيقار المخضرم محمد الأمين بأغنيات ذات أشجان سودانية، أطربت الحضور، وبينهم سفراء أجانب وضيوف ودبلوماسيون ورجال إعلام عرب كانوا حاضرين، بدا أن رغبتهم كبيرة في تحسس مقادير ما في السودان حاليا من أجواء تعايش حقيقي وطبيعي بين وجدان أهل جنوب السودان الذين تقيم أعداد كثيرة منهم في ولاية الخرطوم ووجدان جميع أهل الشمال. وكانت هذه المقادير غنيّة بمشاعر تآلف غامرة في حفل اختتام مهرجان “طبول السلام” الذي حسم متحدثون فيه أن طبول الحرب مع “الجنوب الحبيب” لن تدقّ مرة أخرى. وقال مدير “سودانيز ساوند” عز الدين محمد إبراهيم علي إن السودانيين يريدون إعطاء السلام فرصة في مدارسهم وفي أسرهم التي انشغلت بها توصيات “مقهى السلام” التي كان منها أن دورا كبيرا يمكن أن تلعبه الفنون وأنشطة الترفيه في خلق الاستقرار الأسري وامتصاص العنف.. وليس حرص الحكومة السودانية على نفي “مزاعم” الأممالمتحدة عن بقاء قوات للجيش في مناطق الجنوب ما يشيع الإحساس الحقيقي بالاستقرار وامتصاص العنف، وبوجود حقيقي للسلام، بل هو الانشراح لإيقاعات جنوبية في مسرح في الهواء الطلق في أمدرمان، في حفل يُفتتح بتلاوة آيات من القرآن الكريم ثم بقراءة مقاطع من الإنجيل، في بادرة أخرى شديدة الدلالة.