لم يكن الإخوان المسلمون وحدهم السبب في فشل تجربتنا الأولى مع الديمقراطية.. هناك أطراف أخرى شاركت في هذه الجريمة.. وهناك تراث قديم من القمع والاستبداد مازالت آثاره تنعكس على وجه الحياة في مصر.. وحين يجئ وقت الحساب سوف يقدم كل فريق ما صنعت يداه، وفي تقديري ان النخبة الدينية والمدنية سوف تتحمل الإدانة كاملة أمام التاريخ، لأنها ضيعت على المصريين فرصة من أهم الفرص في تاريخهم الحديث لإقامة مجتمع ديمقراطي يقوم على التعددية والحرية والعدالة وكرامة الإنسان. كل طرف في مصر يعرف حدود مسئوليته في هذه الجريمة المشتركة. فى أقل من ثلاث سنوات قام المصريون بثورتين وخلعوا رئيسين وخرجوا في الشوارع مئات المرات في مليونيات ومظاهرات وإضرابات ولكن آخر صفحة في هذا المجلد الضخم من الإنجازات والتجاوزات كانت مواجهة دامية بين تيار ديني لم يكن مؤهلا لتحمل المسئولية وتيار مدني افتقد التواصل مع الشارع وكانت النتيجة سقوطا مدويا للإثنين معا: من جلس في مقاعد السلطة وخرج منها خاسرا ومن كان في مقاعد المعارضة ولم يحقق فيها شيئا، وكان السبب في ذلك ان كليهما افتقد ثقافة الديمقراطية الحقيقية وكانت لذلك أسباب كثيرة. لا يمكن ان تنفصل غوغائية الشارع وما ساد فيه من الفوضى عن رواسب كثيرة لوثت ماء النهر وافسدت العقول والمشاعر.. من يتابع ما يجري بين الناس من حوارات ومعارك وشتائم وبذاءات يدرك ان مصر التي نراها الآن ليست مصر التي عرفناها في عصور الازدهار الفكري والثقافي، لقد تغيرت منظومة القيم في حياة المصريين واختفى التفكير العقلي السليم أمام مواكب الجهل والأمية، ولم يكن غريبا ان تكون غوغائية السلوك نتيجة طبيعية للمستوى الفكري والأخلاقي للناس. ان الأمية هي التربة المناسبة للشطط الفكري والتخلف العقلي بكل ألوانه.. ولنا ان نتصور تلك العلاقة الشديدة الوضوح بين الغوغائية والأمية والعنف في الشارع المصري.. كانت أعمال البلطجة هي السلوك الطبيعي في ظل الأمية وكلاهما يصل إلى العنف وتوابعه، ومن يتابع حركة الشارع المصري بعد ثورة يناير سوف يكتشف ان سلوكيات المصريين تغيرت تماما بعد الأيام الأولى للثورة.. كانوا أكثر انضباطا وصاروا أكثر انفلاتا.. كانوا أكثر عقلانية في أيام الثورة وصارت حشودهم أكثر غوغائية وهنا ينبغي ان نتوقف عند عاملين رئيسيين: الأول هو لغة الخطاب السياسي وكيف كان واضحا وصريحا في تحديد أهداف الثورة والرغبة في التغيير والوصول إلى صيغة مجتمع جديد يحقق الحرية والعدالة.. من يتابع درجة التحول عليه ان يرصد لغة الحوار بين القوى السياسية خاصة الإخوان المسلمين وجبهة الإنقاذ والمستوى الهابط الذي وصلت اليه في الأيام الأخيرة لحكم الإخوان.. والأغرب من ذلك ان جميع التيارات السياسية افتقدت الرؤى والبرامج ورغم مرور أكثر من ثلاث سنوات على ثورة يناير وعام كامل على ثورة يونيه فمازالت مصر حتى الآن حائرة بلا برامج في مختلف مجالات العمل والحياة.. سنوات ثلاث لم تتبلور فيها خطط واضحة للإصلاح وإعادة بناء المجتمع والسبب في ذلك ان الصراع السياسي بين القوى السياسية افتقد البرامج والخطط وقبل هذا كله افتقد الإحساس بخطورة لحظة تاريخية لا تتكرر كثيرا في حياة الشعوب، ان مواكب الإرهاب التي تحاصرنا من كل جانب تعطل كل محاولات الخروج من هذا النفق المظلم. كان فشل الخطاب السياسي من أهم الأسباب في فشل رحلتنا الأولى مع الديمقراطية وكان الفشل مزدوجا وإن كان فشل سلطة القرار يتحمل المسئولية الأكبر من جبهة المعارضة.. كان التدين المصري عبر تاريخ طويل يتسم بالسماحة والوسطية وتغيرت أحوال المصريين ووجدنا أنفسنا أمام تدين غريب في شكله وصوره ومعتقداته.. والعامل الثاني أنه مع فشل الخطاب السياسي الذي تجاهل الواقع المصري في مجتمع يسعى للتقدم والنمو والعدالة كان هناك خطاب آخر لم يستطع المصريون الاقتراب منه أو إصلاح ما أصابه من التشوه والخلل وهو الخطاب الديني. منذ سنوات ونحن نتحدث عن ضرورة إصلاح الخطاب الديني الذي وصل إلى أقصى درجات التطرف بل العنف في بعض الأحيان.. تدفقت على العقل المصري رياح مسمومة جاءت من أماكن بعيدة واكتسحت في طريقها أسلوبا وسطيا يقدس الدين ويقدر الحضارة ولا يجد تعارضا بين الإيمان والفكر وبين الطقوس والسلوك.. غاب الأزهر الشريف فترة طويلة عن الساحة الفكرية والدينية ووجد المصريون أنفسهم أمام تيارات دينية وافدة اقتحمت العقول والبيوت والمساجد والأضرحة ولم تترك للمصريين شيئا من سماحة دينهم وترفع أخلاقهم وصحوة ضمائرهم.. تلاشت صرخات الحكماء وهم يطالبون بوقفة عاقلة لمواجهة التيارات الوافدة ولكن مع الأسف الشديد كان الطوفان أكبر من كل قدرات المقاومة، ولم يكن غريبا وسط هذا المناخ ان نجد عشرات الفضائيات التي تنشر الخزعبلات وتتاجر في الشعائر وتضلل النفوس المطمئنة. في ظل خطاب سياسي أقرب للسطحية والفوضى ورفضه للآخر ومع خطاب ديني أقرب للتشدد والعنف جاءت ثورة يناير لتفتح الباب واسعا أمام جميع التيارات بما فيها الديني والسياسي وهنا اختلط القصور السياسي مع التشدد الديني ليضع مصر في طريق يخالف تماما كل مقوماتها التاريخية وثوابتها الفكرية. في ظل مجتمع تسود فيه الأمية وفسدت فيه العملية التعليمية مع إعلام افتقد الرؤى والهدف سادت ثقافة سطحية ساذجة، وهنا كان من المستحيل ان تجد ثقافة تتناسب مع ثورة عظيمة قلبت كل الموازين واتجهت لتضع اساسا لمنظومة جديدة لمجتمع جديد. كان من الصعب ان تكون لغة العنف والتشدد الديني أساسا لتجربة ديمقراطية وليدة.. وكان الأصعب ان يصبح التشرذم السياسي وفوضى النخبة طريقا لتعددية حزبية مناسبة، وحين اجتمع التشدد الديني مع الفوضى السياسية انفلت الشارع المصري ووصل إلى حالة من الغوغائية استحالت معها قواعد الديمقراطية الصحيحة بثقافتها وتعدديتها ومنظومتها التاريخية. هنا اتضحت أمامنا الأزمة الحقيقية للديمقراطية في مصر في أولى تجاربها. ان الدين بمقدساته ليس المجال الصحيح لممارسة اللعبة السياسية ويجب ان يبقى الدين بعيدا عن المستنقع السياسي.. ولكن التيارات الدينية في مصر خلطت جميع الأوراق وأصبح الدين هو الحصان الرابح في كل المعارك السياسية ابتداء بالاستفتاءات وانتهاء بالانتخابات حتى وصل الإخوان المسلمون إلى السلطة ومعهم بقية التيارات الدينية. كانت أهم وأخطر مقومات هذا المشروع الديمقراطي الوليد انه قام على خلفية لا خلاف عليها وهي صندوق الانتخابات دون مراعاة لنسبة من الأمية تجاوزت 30 مليون مواطن وحالة فوضى وصلت إلى درجة العنف في المليونيات وكان من المستحيل ان تبقى الكلمة للصندوق رغم انه من ثوابت حرية الرأي ولكن كيف يحدث ذلك مع هذا التناقض الشديد والمسافة البعيدة بين حرية الصندوق وميراث طويل من الأمراض الفكرية والاجتماعية والإنسانية. كانت أغلب الأحزاب السياسية التي خرجت إلى الشارع المصري بعد ثورة يناير أحزابا قامت على خلفية دينية من خلال توليفة ترسخت زمنا طويلا في عقول المصريين ومع الأسف الشديد انها اعتمدت في بقائها وتواصلها على نقاط ضعف أساسية في مكونات الشارع المصري وفي مقدمتها الأمية ونظام تعليمي متخلف وثقافة جامدة وإعلام بلا هوية، من هنا كان فشل أولى تجاربنا مع الديمقراطية ولكي نبدأ من جديد لا بد ان نراجع اخطاءنا. جاء الوقت لكي نضع أسسا لخطاب سياسي يقوم على التعددية والرأي الآخر والممارسة السياسية بثوابتها التقليدية واحترام رأي الأغلبية مع البدء في علاج الأمراض التي لا يمكن ان تتحقق معها الديمقراطية وهي الأمية والتعليم والإعلام والثقافة. على الجانب الآخر، مازالت قضية الخطاب الديني هي أخطر قضايا العقل المصري في السنوات الماضية، ولا بد ان نعترف بأننا تركنا هذه الساحة للمغامرين والمتاجرين والأدعياء وان علينا ان نعيد الأشياء لأصحابها، وهنا لا بد ان يستعيد الأزهر دوره وهيبته ومسئولياته في ترشيد بل وتطهير الخطاب الديني لأنه لا يعقل ان نعيش في عصر العلم والتقدم بعقلية الجاهلية الأولى.. هناك من يطالب المصريين بالعودة إلى العصر العثماني والمملوكي ودولة الخلافة وشجرة الدر وكافور الأخشيدي.. إن أي جهد نقوم به لإصلاح ما أفسدته الأحداث والأيام في العقل المصري لن يفيد إذا لم نبدأ من لغة الخطاب.. نحتاج لخطاب سياسي يقوم على الحوار وخطاب ديني يقوم على الوسطية بشرط الا نخلط بين الدين والسياسة وتكفينا تجربة واحدة فاشلة. ان العقل المصري يحتاج الآن إلى ثورة ثقافية تجدد دماءه وتحيى ما مات فيه ولن تنجح هذه الثورة إلا إذا قامت على جناحين رئيسيين دين وسطي متسامح وفكر سياسي يؤمن بالتعددية والحوار. سوف يبقى الفرق كبيرا بين ثقافة تمهد للحرية وتحمي مقوماتها وتوفر أسبابها، وثقافة نشأت في أحضان الإستبداد وليست قادرة على تجاوز مخاطره وأمراضه وهذا ما تعانيه النخبة المصرية، حيث انها تسعى للديمقراطية ولا تملك مؤهلاتها الفكرية وتحاول ان تتخلص من رواسب الاستبداد وهو جزء أصيل من ثقافتها ومكوناتها التاريخية وهذه هي الأزمة الحقيقية التي عاشتها مصر في أولى تجاربها مع الديمقراطية. ..ويبقى الشعر لو يعلم الجهلاءُ رحمة ديننا لتسابقوا فى البر والرحماتِ لم يشهد التاريخُ يوما أمة ً جمعتْ حشودَ الحق ِفى لحظاتِ لم تشهد الدنيا جموعًا سافرت عبرت حدود الأرض ِ والسمواتِ لكنه الإسلامُ وحد بينهم فتسابقوا للهِ فى عرفاتِ هذا هو الإسلامُ دين محبةٍ رغمً اختلافِ الجاهِ والدرجاتِ يا للمدينة حين يبدو سحُرها وتتيه فى أيامها النضراتِ ومواكبُ الصلواتِ .. بين ربوعها تهتز أركانُ الضلال ِالعاتى فى ساحةِ الشهداء لحنٌ دائم صوتُ الخيول ِ يصولُ فى الساحاتِ والأفقُ وحىٌ .. والسماءُ بشائرٌ والروضة ُ الفيحاءُ تاجُ صلاتِى ويطوفُ وجهُ محمدٍ فى أرضها الماءُ طهرى .. والحجَيج سُقَاتى ماذا أقولُ أمام نوركَ سيدى وبأى وجهٍ تحتفى كلماتى بالعدل ِ.. بالإيمان ِ.. بالهمم ِالتى شيدتها فى حكمةٍ وثباتِ؟ أم بالرجال ِالصامدينَ على الهدى بالحق ِ..والأخلاق ِ.. والصلواتِ؟ أم إنه زهدُ القلوبِ وسعيها للهِ دون مغانم ٍ وهباتِ؟ أم أنه صدقُ العقيدة ِ عندما تعلو النفوسَ سماحُة النياتِ؟ أم أنه الإنسانُ حين يُحيطه نبلُ الجلال ِ وعفة ُالغاياتِ؟ أم انه حبُ الشهادةِ عندما يخبو بريقُ المال والشهواتِ؟ أم أنه زهدُ الرجال إذا علتَ فينا النفوسُ عَلى نِدا الحاجاتِ؟ أم إنه العزمُ الجليلُ وقد مضى فوق الضلال ِ وخسةِ الرغباتِ؟ بل إنه القرآنُ وحى محمدٍ ودليلنا فى كل عصر ٍ آت.. يا سيدَ الدنيا .. وتاجَ ضميرها أشفع لنا فى ساحة العثرات ِ أنا يا حبيب الله ضاق بِىَ المدى وتعثْرتْ فى رهبةٍ نبضاتى وصفوكَ قبلى فوق كل صفاتِ نورُ الضمير ِ وفجرُ كل حياة ِ بشرً ولكن فى الضمير ترفعُ فاق الوجودَ .. وفاقَ أى صفاتِ وصفوكَ قبلى فانزوت أبياتى وخَجلتُ من شعرى ومن كلماتى ماذا أقولُ أمامَ بابك سيدى سكتَ الكلامُ وفاض فى عبراتى يارب فلتجعل نهاية َ رحلتى عند الحبيبِ وأن يراه رفاتى يومًا حلمتُ بأن أراه حقيقة ً ياليتنى القاه عند مماتى.. من قصيدة "على باب المصطفى" سنة 2010 نقلا عن جريدة الأهرام