رئيس توافقي، رئيس غير توافقي، 14 آذاري، توافقي، غير توافقي. ستتلف زهرات المارغريت من دون أن نعرف هوية رئيس جمهورية لبنان. وسيأتي حين يأتي، كمحصلة لاختبار قوة، عالمي ومحلي. قبل 2005، كان الرئيس محسوم الهوية والهوى، وأصبح الآن عصياً على التنبؤ والتخمين، وحده المنجم ميشال حايك يطلق لرؤاه المزعومة العنان، فلا معيار ثابتاً وواضحاً لاختياره، بعض مضامين الدستور اللبناني، وجهة نظر، يتم تطويعها وفق رغبات المقتدر والمستقوي. ومن دون اللغط الدائر حول تفسير بنود الدستور، كانت عملية انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية معقدة بفعل تنوع الحساسيات السياسية المكونة للمجلس النيابي، وتوزعها على الطوائف، المنقسمة أحياناً على نفسها. ومما يزيدها تعقيداً انتماءات الجماعات الخارجية، المتغيرة، وتفاعل هذه الأخيرة دورياً مع قوى عالمية واقليمية، فالسنّة والدروز ليسوا ما كانوا عليه قبل 30 سنة، والشيعة صهروا «عموماً» تنوعهم السياسي بخيار المقاومة، وربطوا استراتجياتهم باستراتيجيات الثورة الايرانية وحلفائها، والمسيحيون توزعوا على المحاور، حتى على تلك التي لا تنسجم مع خيارهم التاريخي المرتكز على فكرة لبنان كدولة مستقلة تماماً. وعلى رغم صلاحيات الرئيس السابقة الواسعة، كان موقع الرئاسة لا ينجو من ضغوط قيادات الطوائف، وكان هذا الموقع، موضع توجس وريبة، حالما يحاول الرئيس تحييد مؤسسات الدولة عن المؤثرات والتدخلات الطائفية، كما حدث أثناء حكم الرئيس فؤاد شهاب. والآن مع النبرة العالية المواكبة لانتخاب رئيس الجمهورية، فإن الأطراف المتصارعة، خصوصاً تلك التي تملك موارد عسكرية ومالية وعقائدية وديموغرافية معتبرة، تتفوق على حجم أي رئيس محتمل، حتى على ذاك الذي قد توافق عليه، والذي سيتحول الى امتداد قسري لها، الى مجرد اكسسوار، هو لزوم ما لا يلزم، فهي مكتفية بذاتها تشرّع وتنفّّذ، اللهم إلا اذا احتاجت الى اضفاء مشروعية وطنية لسياساتها الثابتة، تواجه بها العالم. فهي استغنت عن الهيئة التشريعية، أوقفت الزمن التشريعي، جمّدت المجلس النيابي، الذي يظل المنطلق الرئيس للديموقراطية، مهما اعتور هذه الديموقراطية في لبنان والعالم العربي عموماً، وتعذر عليها تعطيل عمل الحكومة، فهي تستعد كما تهدد، الى تعكير «صفو» الجمهورية إن لم يؤخذ برغباتها. ولا تعني للقوى السياسية المتعاظمة، المهمات التي رصد لها هذا الموقع وهي حماية دستور البلد والحفاظ على استقلاله ووحدته، أي وحدة الدولة، والسهر على تطبيق الدستور بكل مضامينه وهي كثيرة ومنها الغاء الطائفية السياسية، ومحاربة الفساد المتمثلة في قانون محاكمة الرؤساء والوزراء، وتطبيق قانون الإثراء غير المشروع، وتفعيل مؤسسات المحاسبة والمراقبة، وانجاز قانون انتخابي عادل وموحد، وتحقيق الإنماء المتوازن، والسعي الى تحقيق العدالة الاجتماعية، وغيرها من البنود، كل ذلك ورد في مقدمة الدستور. وقد يختار حلف 14 آذار عن حق إلزام الرئيس بما يتعلق بالسيادة والاستقلال ووحدة الدولة، ولكننا لا ندري حجم استعداده لكل ما يوحي به الدستور ويتعلق بقيام دولة موضوعية ومحايدة في مواجهة قوى الأمر الواقع. كل المناطيق (جمع منطق) جاهزة لتبرير تسلط فئة على الجمهورية، ومنها الانتقال من تبني مبدأ التوافق الطائفي المحض، ورديفه العيش المشترك، الى منطق انتخاب رئيس الجمهورية من الشعب، بناء على تقديرات تقول إن المزاج اللبناني الغالب 8 آذاري، خلافاً لتركيبة المجلس النيابي، الأمر الذي يتبدى للوهلة الأولى منطقاً مدنياً يساوي بين اللبنانيين في حق الانتخاب فلا يحصر أصواتهم في مناطقهم وفي «وجبات سياسية»، جاهزة، عتيقة أو مستجدة، لا يؤثر فيها التاريخ وتعززها العصبيات المتواجهة، والمصالح الموضعية، وترسخها التحالفات الدورية، الاقليمية والدولية. ومنزهاً من مآرب اصحاب الاقتراح الآنية، يعزز مبدأ انتخاب رئيس الجمهورية من الشعب مبدأ فصل السلطات، الرامي أساساً الى الحيلولة دون التعسف في استخدام السلطة، إذ يعتبر مبدأ فصل السلطات من دعائم النظام الديموقراطي، وهو مبدأ يجد أساسه في الفلسفة السياسية التي ظهرت في القرنين السابع عشر والثامن عشر، خصوصاً في كتاب الفيلسوف الانكليزي جان لوك «بحث في الحكومة المدنية» الصادر عام 1690، وقد أكمل مونتسكيو في كتابه «روح الشرائع» الصادر عام 1776 دراسة المبدأ الذي وجد فيه ضمانة لحرية المواطنين. والفكرة الأساسية في مؤلف مونتسكيو، هي أن المرء قد يسيء استعمال السلطة، وبناء عليه يجب أن تحد كل سلطة السلطة الأخرى، Le pouvoir qui arrête le pouvoir، شرط ألا يكون في استطاعة احداها شل عمل الأخرى، وهذه السلطات هي السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية. ستبقى أهمية هذا المبدأ قائمة، إذ أن لا حرية من دون فصل السلطات وتوزيعها على قوى مختلفة، وتظهر فائدة هذا المبدأ بردع كل عضو من أعضاء الدولة من أن يصبح القوة الوحيدة التي تستأثر بكامل السلطات، وهذا ما يتم في الأنظمة الشمولية إذ ينحصر الحكم بأقلية أوليغارشية تستأثر بالحكم والثروة، تشرّع وتنفذ ما يحلو لها، وتطوع القانون والعدالة بما يتسق ومصالحها (وهذا ما شهده لبنان عقب انتهاء الحرب) وفي بعض الديموقراطيات تتوزع السلطة على مجلس نواب ومجلس شيوخ إضافة الى الحكومة ورئاسة الجمهورية والقضاء. ويذهب الناخب مرات الى صناديق الاقتراع ولأهداف مختلفة، لا مرة واحدة يتيمة وناقصة كما في لبنان. لم تعد البشرية تكتفي بإعلان الحاكم نياته الحسنة، كما لم تعد تكتفي بسيرته الذاتية الأخلاقية والمعرفية لتمحضه ثقتها وتفوضه ادارة حياتها، صارت تحتاج الى ضمانة قانونية وقضائية، وإلا لما قامت ثورات وشرّعت قوانين وابتدعت مؤسسات، وتهيأت وسائل الإعلام وتربصت. عملياً، لا يفصل النظام اللبناني بين السلطات، فالسلطة التنفيذية غير منفصلة عن النيابية، ومعظم الوزراء جمعوا ويجمعون بين الصفتين، ومن لا يجمع بين الصفتين، يدور في فلك القوى السياسية المسيطرة على المجلس، والمجلس النيابي هو الذي يختار رئيس الجمهورية، ما يعني أن هذا الأخير سيكون منسجماً مع توجهات وقرارات المجلس النيابي والحكومة المنبثقة منها، وسيوفق بين التناقضات، التي لا يمكن التوفيق بينها، اذا كان توفيقياً، وهذه الصيغة تحتاج الى فقه خاص لم ينتشر بعد، إلا اذا «عصى» على من انتخبه، بالتفرد أو التوافق، وعصيانه سيظل مرذولاً طالما لا يتمتع بدعم شعبي حقيقي وعابر للطوائف. هذا لا يعني أن تناغم رئيس الجمهورية مع المجلس النيابي غير مرغوب فيه بالمطلق، خصوصاً اذا تطابقت توجهات الغالبية النيابية مع مضامين الدستور، كالحرص على السيادة والاستقلال ووحدة الدولة، فرئيس الجمهورية هو حامي الاستقلال والسيادة والوحدة ولكن، يخشى ألا يضطر الى مماشاة المجلس النيابي مع قرارات وسياسات لا تنسجم مع مصالح المحكومين الاقتصادية والاجتماعية وتصب في مصلحة قلة اوليغارشية حاكمة في العلن وفي الكواليس. كيف لرئيس منبثق من المجلس النيابي أن يقف موقف القاضي والحكم وألا يتوانى عن مواجهة غيّ وتعسّف هذا المجلس إن تعسّف؟ خوفاً من هذا التماهي الذي قد يجلب مفاسد عدة، يتبدى مبدأ فصل سلطات حقيقي، ضرورة وطنية وشعبية، كما مبدأ تخصيص رئيس الجمهورية بثقة ودعم اضافيين بإتيانه من خارج المجلس النيابي، كي لا يظل مديناً لهذا الأخير بموقعه وبالتالي راضخاً له. قد يقال إن الرئيس اللبناني لا يتمتع بصلاحيات واسعة كتلك التي يتمتع بها رئيس فرنسا، لكن الوقائع أثبتت ان هذه الصلاحيات المتقلصة بفعل اتفاق الطائف ليست من دون أثر كبير، فالسيف أصدق إنباء من الكتب، وأي قراءة متأنية للدستور اللبناني بصورته الجديدة، ميثاق الطائف، تظهر حجم المسؤوليات التي يجب أن يأخذها رئيس الجمهورية على عاتقه. إلا أن هذه الأفكار التي تناقش جدوى مبدأ انتخاب رئيس الجمهورية من الشعب تبقى ناقصة ما لم تنظر في التكوين السياسي التاريخي للناخب اللبناني الذي لم يعتد أن ينتخب مستقلاً برأيه، لم يعتد أن يختار من ينوب عنه وعن كل اللبنانيين. اعتاد وسيطاً بينه وبين دولته، زعيماً يستمد منه «قوته»، اعتاد وجبة سياسية مخصوصة بمنطقته، عرف معدّوها كيف يغرون زبائنهم بها، سواء بتأمين بعض مصالحهم، وبادعاء حمايتهم، أو بايهامهم بذلك، وبتخويفهم من الآخرين، الخ... بمعنى آخر سينتخب اللبنانيون الحاليون رئيسهم كما ينتخبون نواب مناطقهم، سيحملون عصبياتهم المحلية الى سدة الرئاسة، ستجمع عصبياتهم وتطرح للاتيان برئيس يعبر عن اكثرها انتشاراً ديموغرافياً. سوف تعكس هوية هذا الرئيس المحتمل والمتخيل كماً من الأصوات الجاهزة منذ دهور، ولن يحتاج حينئذ الى حملات انتخابية وإعلامية وإعلانية، سيكون مجرد مرآة لواقع قائم، مجرد جردة احصائية، سيكون انتخابه صورة مكبّرة للانتخابات النيابية الموزعة على الزعامات والتشكيلات السياسية القائمة، العتيقة، أو المستجدة، التي انتجتها العقود الثلاثة الأخيرة. لن يكون جديد تحت شمس الديموقراطية اللبنانية. لو تمّ ذلك نكون أمام مزيد من الشيء نفسه، أمام خطوة جديدة الى الخلف، فإذا كان الحريصون على النظام، الخائفون من غلبة طائفة كبرى (وهذا جائز) يشهرون مبدأ «النظام التوافقي»، ما ان يتناهى لاسماعهم اقتراح انتخاب رئيس الجمهورية من الشعب، فهواة النظام المدني لن يروا في هذا الاقتراح، سوى رواية جديدة معدلة من النظام نفسه. ناقشنا احتمالاً، ولكن ما يتبقى هو الجوهر، وهو امكانية وضرورة أن تحد كل سلطة من سلطة الأخرى تفادياً للتعسف والغيّ والجموح. وتتوجه انظارنا الى السلطات القضائية، الى مؤسسات المراقبة والمحاسبة، الى القضاء، والى وسائل الاعلام، وهذه الأخيرة نجحت بمعظمها، في تمويه الحقائق، والى هيئات المجتمع المدني وغيرها لأن شمس الديموقراطية اللبنانية يحجبها الغيم. بمعنى آخر الناخب اللبناني لا يفصل بين السلطات، واعتاد التطابق، ويحتاج الى تأهيل انتخابي طويل ينطلق من قانون انتخابات نيابية عصرية يجعله يفكر كمواطن شامل لا كجزء من منظومة طائفية. يبقى ان هذا الأمر الواقع لا يُفقد المبدأ اهميته، وان ذهب الشكل يبقى المضمون.