في خطاب تليفزيوني ألقاه في الثالث عشر من شهر سبتمبر الجاري أعلن الرئيس الأمريكي «جورج بوش« أن الإنجازات والمكاسب العسكرية التي تحققت في العراق ستمكنه من البدء بعملية سحب تدريجي للقوات الأمريكية العاملة هناك.. والانتقال إلى مرحلة جديدة تقوم فيها هذه القوات بمهام المراقبة بينما ستضطلع القوات العراقية بمسؤوليات أكبر في مجال ضبط الوضع الأمني. ولقد بدا أول وهلة من هذا الخطاب وما جاء فيه من حديث عن الانسحاب التدريجي أنه يمثل تحولاً في موقف «بوش« من مسألة الانسحاب، خاصة أنه كان - ومازال - الأكثر تمسكًا بوجود هذه القوات لأجل غير مسمى، وبسبب موقفه هذا تعرض لانتقادات حادة داخل الكونجرس، وتحديدًا من جانب المعارضة الديمقراطية التي تطالب بسحب فوري للقوات الأمريكية من ذلك البلد وانتقدت بشدة أسلوب إدارته للحرب هناك، واتهمت سياساته واستراتيجياته المطبقة منذ بداية الحرب بالفشل. ولكن المتابع للتخفيضات المقترحة يكاد يجزم بحدوث التفاف من جانب «بوش« على رغبة معارضيه سحب القوات، ولاسيما أن التخفيضات المقترحة (25 ألف جندي تقريبًا) لا تعني سوى سحب ما يعادل الزيادة في عدد القوات وفق الاستراتيجية الجديدة، وبالتالي فإن ما يقرب من 130 ألف جندي سيبقون في العراق بعد خروج «بوش« من السلطة.. كأنه بذلك التخفيض يكون قد ذر الرماد في أعين معارضيه لإقناعهم بأنه يقوم بعمليات سحب للقوات. ومن وجهة نظر البعض، فإن «بوش« يبدو معتقدًا أن شهادتي «ديفيد بيترايوس« قائد القوات الأمريكية في العراق، وكذا سفيره هناك «رايان كروكر« أمام الكونجرس - بشأن تحقيق تقدم في السيطرة على الوضع ببعض المناطق العراقية كالأنبار - قد نجحتا في إكسابه المزيد من الوقت لتحقيق هدفه في تأجيل البدء بالانسحاب النهائي حتى يغادر منصبه في شهر يناير 2009، إلا أن اغتيال «عبدالستار أبوريشة« قائد «جبهة إنقاذ الأنبار« المتحالفة مع القوات الأمريكية جاء ليعكس هشاشة ذلك التقدم الذي من أجل تحقيقه أعلن «بوش« استراتيجية زيادة عدد القوات، وليثبت من جديد اتساع الفجوة التي تفصل بين التقييم المتفائل للأوضاع وبين الحقيقة على أرض الواقع. لقد اتضح عدم واقعية ما يعلنه وما يردده «بوش«، ولاسيما تحذيره من أن الانسحاب المبكر من العراق يمكن أن يكون سببًا في «كابوس إنساني«، كأنه لا يعلم أو لا يدري بوجود كارثة إنسانية فعلاً تتفاقم في هذا البلد يومًا بعد يوم، ويؤكدها وجود أكثر من أربعة ملايين عراقي خارج البلاد.. علاوة على مئات الآلاف هجروا قسريًا وأصبحوا لاجئين داخل وطنهم. واللافت للانتباه أن خطاب «بوش« عن سحب القوات هو الثالث في غضون ثلاثة أسابيع، إذ تحدث في اثنين منها عن مخاطر الانسحاب، إضافة إلى زيارته لمحافظة الأنبار؛ تلك الزيارة التي أخبر، خلالها الجنرال «بيترايوس« وكذا السفير «كروكر« أنه إذا استمر النجاح في الأنبار بالوتيرة نفسها فإنه من الممكن الإبقاء على مستوى الأمن نفسه بقوات أمريكية أقل، وهو التقييم الذي استند إليه «بوش« في القول: إن الأوضاع في العراق آخذة في التحسن، خصوصًا أن القوات الأمريكية تمتلك تفوقا نوعيا على المتمردين.. وهو ما يعني - من وجهة نظره - إمكانية البدء بسحب عدد من القوات يبدأ ب 5700 جندي بنهاية عام 2007 و20 ألفًا بحلول شهر يوليو .2008 ولقد وصف البعض خطوة سحب القوات، بأنها لم تكن سوى تسوية سياسية لاسترضاء الكثير من معارضي استراتيجيته الخاصة بزيادة عدد القوات، وحاول من خلالها توجيه رسالة بأن إدارته قد حققت نصرًا تكتيكيًا على خصومه السياسيين بالتعهد بالحفاظ على العدد المتبقي من القوات البالغ 130.000 جندي طوال الفترة المتبقية من رئاسته. ومثل ذلك الإبقاء الطويل الأمد على هذا العدد الضخم من القوات يذكّر بخطة الرئيس «ايزنهاور« الخاصة بكوريا عام .1952 ولعل «بوش« حين لجأ لمقارنة العراق بكوريا أكثر من مرة كان يبحث عن طريقة لتسويق خطته للاستمرار في مغامرته العسكرية للفترة المتبقية من رئاسته داخل البيت الأبيض. ولكن من الواضح أن الديمقراطيين يرفضون ذلك تمامًا.. فالوجود العسكري الطويل الأمد ترفضه «نانسي بيلوسي« رئيسة مجلس النواب، وتصفه بأنه تعهد عسكري غير محدد المعالم، ويعني أن هناك عشر سنوات قادمة من الحرب لاتزال تنتظر الأمريكيين.. وأيضًا يرى الديمقراطيون أن خطاب «بوش« بشأن سحب القوات لا يحتوي على توجهات استراتيجية جديدة يمكن أن تنهي العنف في العراق، وعبروا عن مخاوفهم من محاولته إلزام خليفته بإدارة استراتيجية فاشلة ويتركه في مواجهة مهمة تبدو في غاية الصعوبة.. وهي محاولة الخروج من العراق.. وذلك ما ألمح إليه السيناتور «هاري ريد« الذي اتهم «بوش« بمحاولة التهرب من المسؤولية تاركًا الأمر على حاله للرئيس القادم لاتخاذ القرار المناسب. وإذا كان «بوش« قد أرجع في خطابه خطوة سحب بعض القوات تدريجيًا إلى حدوث تقدم على المستويين العسكري والسياسي في ذلك البلد، إلا أن بعض المراقبين يرون أن السبب الحقيقي يتمثل في أن الحروب الطويلة الأمد التي تقودها الولاياتالمتحدة في العراق وأفغانستان قد أجهدت القدرات العسكرية الأمريكية لدرجة أنها لا تستطيع تحمل دعم 30 ألف جندي إضافي بعد عام 2008 من دون حدوث ضرر خطر في قدراتها العسكرية المقاتلة.. وهذا بالفعل ما يخشاه قادة عسكريون كبار ومحللون، ولاسيما مع الخسائر التي تتكبدها واشنطن بالفعل في صفوف قواتها، والتي تثير الكثير من الشكوك حول جدوى استمرار العمليات العسكرية على نطاق واسع داخل العراق حتى إن الجنرال «جورج كيسي« رئيس هيئة الأركان والجنرال «ديفيد بيترايوس« قد تساءلا عما إذا كانت زيادة عدد القوات قد أحدثت تقدمًا مقبولاً غير ذلك التأثير المؤقت في الوضع الأمني. ولم يختلف الأدميرال «ويليام فالون« - قائد القيادة المركزية في الشرق الأوسط - عن «كيسي« و«بيترايوس«، بل تقاسم معهما الشعور عينه بالقلق والشك بشأن جدوى عملية زيادة القوات، فمن وجهة نظره لابد من جعل الحكومة العراقية تشعر، بل تدرك جيدًا أن التزام القوات الأمريكية ودورها في العراق محدود وليس من دون سقف واضح، وأن على الفرقاء العراقيين أن يأخذوا الخطوات اللازمة نحو تحقيق المصالحة السياسية، والنهوض بشؤونهم من دون الاعتماد على الولاياتالمتحدة. وأيضًا أعرب الجنرال «جون أبي زيد« - قائد القيادة المركزية السابق عن مخاوفه من أن الاستراتيجية الحالية أخفقت في تحقيق أهدافها السياسية، وخصوصًا المصالحة السياسية المرجوة؛ إذ يرى أن المكاسب الأمنية مؤقتة وتساءل عن الخطوات التي قامت بها واشنطن على الأصعدة الدبلوماسية والاقتصادية والسياسية وعلى صعيد إعادة الإعمار للتأكد من أنها تحقق فعلاً تحركًا إلى الأمام بصورة دائمة ومستمرة وليست مؤقتة. وعلاوة على ما سبق؛ فإن أغلبية المحللين المعنيين بالشرق الأوسط في واشنطن تساورهم الشكوك بشأن ما أعلنه «بوش« من تحقيق تقدم ملموس ومتواصل في العراق؛ حيث يرى «فيليب جوردون« - المسؤول السابق بمجلس الأمن القومي - أنه كانت لدى الأمريكيين العديد من نقاط التحول التي يزعمها الرئيس «بوش« وأركان إدارته في العراق.. والخطوة الأخيرة الخاصة بقرار سحب بعض القوات على مرحلتين لا تختلف عن سابقاتها مما اعتبره «بوش« نقاط تحول؛ لأنها مثلها غير ذات قيمة. وعلى المستوى السياسي فلا شك أن عملية اغتيال الشيخ «عبدالستار أبوريشة« قد وجهت ضربة موجعة لمصداقية «بوش«، وخصوصًا فيما زعمه بشأن «البداية التصاعدية لعملية المصالحة«، كما أوضح ضعف جهود الإدارة الأمريكية في مجال بناء تحالفات ثابتة مع شيوخ القبائل السنية في محافظة الأنبار في الوقت الذي جعلت فيه مثل هذا التحالف بمثابة حجر زاوية لحملتها العسكرية، وذلك لإثبات أن الزيادة في عدد القوات قد حققت نجاحًا ملموسًا في تلك المحافظة العراقية التي تعاني التمرد. فقتل الشيخ «أبوريشة«، الرجل الذي أثنى عليه «بوش« ووصفه بأنه «رمز لآمال أمريكا في العراق«، يعيد إلى ذاكرة «بوش« عقدة الأنبار الموجعة، وكيف أن هذه المحافظة كانت ومازالت منطقة محفوفة بالمخاطر، على الرغم من الانخفاض النسبي للعنف فيها منذ أن بدأت «جبهة إنقاذ الأنبار« التي يقودها «أبوريشة« مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية في بلاد العراق الذي يسير على خطى تنظيم القاعدة. وكذلك لفت حادث اغتيال «أبوريشة« الانتباه إلى حقيقة مهمة، هي أن تنظيم القاعدة يمثل فصيلاً محدودًا مقارنة بتنظيمات التمرد الأخرى المسؤولة عن أغلب عمليات التمرد المناهضة للاحتلال، وأن الشيخ السني قد صنع الكثير من الأعداء له بين جماعات المقاومة الوطنية، التي بدورها تقوم بالجزء الأكبر من عمليات المقاومة ضد الاحتلال والمتعاونين معه، حيث اعتبرت سلوك وتحالف «أبوريشة« مع الاحتلال بمثابة خيانة للمقاومة الوطنية. جدير بالذكر، أن الشيخ «أبوريشة« هو الزعيم القبلي السُني السادس الذي يتم اغتياله منذ شهر مايو 2007، كما أنه انضم إلى القائمة التي تتزايد يومًا بعد يوم للقادة العراقيين البارزين الذين يتم اغتيالهم بسبب مواقفهم المؤيدة للولايات المتحدة. وإذا كان حادث اغتياله - بحسب ما سبق - يوضح المخاطر الشديدة التي تنتج عن التحالف والالتصاق الشديد بقوات الاحتلال ويقوض إلى حد بعيد مزاعم التقدم السياسي التي تجهر بها الإدارة الأمريكية.. فإنه يلقي الضوء مرة أخرى على الفجوة الهائلة بين الواقع الدامي الذي يعيشه العراق.. وبين الطريقة أو الأسلوب الذي تقدم به الإدارة الأمريكية تلك الحقيقة للأمريكيين.. وهو ما بدا واضحًا في خطاب «بوش« الأخير، حيث عارض تقييم وزارة الخارجية الأمريكية بشأن الأوضاع في محافظة «ديالى«، وزعم أن الأوضاع قد تحسنت هناك، بل إنه ناقض نفسه وأخطأ غير مرة.. حيث أقر - بعكس ما يعلن حاليًا - في خطابه يوم 18/8/2007 أن الحكومة العراقية قد أخفقت في تحقيق أي نوع من المصالحة السياسية. والأكثر من ذلك أنه أشار إلى تقرير الكونجرس الأخير الذي وضعته لجنة برئاسة الجنرال المتقاعد «جيمس جونز« كبرهان على أن الجيش العراقي أصبح أكثر قدرة على تحمل المسؤولية، في حين أن التقرير يشير إلى عكس ذلك تمامًا؛ حيث يتوقع ألا يكون الجيش العراقي قادرًا على الاضطلاع بمهام الأمن الداخلي بدلاً من القوات الأمريكية قبل عام أو عام ونصف عام، كما أنه لا يستطيع الآن المشاركة بفاعلية في جهود ملاحقة الإرهابيين وحرمانهم من معاقلهم الآمنة.. وأيضًا يصف التقرير قوات الشرطة الوطنية البالغ عددها 25 ألف عنصر بأنها تسيطر عليها الطائفية، وتعاني الفساد، ولذلك أوصى بتسريح هذه القوات. لقد أدى كل ما سبق إلى تراجع مصداقية الرئيس «بوش« ووصولها إلى مستوى من التدني الواضح.. فهو يبدي إصرارًا على المضي في طريق الفشل ويناقض رؤى ورغبات كبار القادة العسكريين والغالبية العظمى من أعضاء الكونجرس والرأي العام الأمريكي بل الدولي أيضًا.. ومن الواضح أن خطوة سحب بعض القوات تدريجيًا، التي لا تعني - بحسب ما سبقت الإشارة - سوى عودة القوات الأمريكية إلى العدد الذي كانت عليه قبل زيادتها في فبراير 2007، يؤكد أنه استمر في السعي لحل عسكري للوضع المتدهور في العراق. وتبدو مشكلة الرئيس «بوش« أنه يحاول إقناع الأمريكيين بما يقتنع به هو فقط، رغم أنهم يرون أن ما يحدث على أرض الواقع عكس ما يقول تمامًا.. فهم وتحديدًا رجال الكونجرس يرون أن سياساته في العراق فاشلة والاستراتيجية التي يطبقها حاليًا مبنية على تقييم خاطئ ومحرف للأوضاع والظروف السياسية والعسكرية بهذا البلد.. كما أن «بوش« لا يريد أن يدرك ويعي أن العامل الرئيسي لفقد الاستقرار في العراق هو استمرار الوجود الأمريكي به، وحتى يقتنع بأن الحل العسكري لا يمكن أن يحقق النتيجة المرجوة وأن قواته في هذا البلد هي أساس المعضلة وليست الحل.. فإنه سيكون من الصعب أن تكون هناك نهاية قريبة لمغامرته هناك.