ثمة خطابان متناقضان في روسيا حيال قضايا الشرق الأوسط، أحدهما رسمي يصدر عن مؤسسات الدولة ورجالاتها، والآخر تمثله مراكز دراسات ومنظمات جماهيرية ومؤسسات إعلامية. ويلمس المراقب ثقافة جديدة تشق طريقها في ما يتعلق بالصراع العربي – الإسرائيلي والشؤون العربية عموماً. الحكومة الروسية تتمسك بخطاب متوازن حفاظاً على مصالحها في العالمين العربي والإسلامي، إلا أن المؤسسات التي تدور في فلكها، وكذلك المؤسسات غير الرسمية، خصوصاً الإعلامية وبعض مراكز الأبحاث، لا تجد حرجاً في شق طريق مختلف، ونشر ثقافة غير معهودة في روسيا، وذلك ليس انطلاقاً من حرية الرأي والتعبير شأن التجربة الأوروبية، بل مراعاة لأولويات مختلفة عن أولويات الحكومة، ويمكن لها أن تلقي بظلال على المواقف الحكومية في بعض المحطات. موقف روسيا من الصراع العربي – الإسرائيلي منذ عهد الرئيس الراحل بوريس يلتسين، يمسك بالعصا من الوسط، على رغم التأرجح أحياناً، وإذ يظل اعتراضياً على السياسة المنحازة التي تقودها واشنطن ويقدم نظرة مختلفة للمستقبل لا بد من الإقرار بأن تطوراً ملحوظاً طرأ على العلاقات الروسية – الإسرائيلية، فمنذ عهد يلتسين بدأت علاقات موسكو مع تل أبيب تنمو وتتطور، أعيد تبادل السفراء، وشهدت العلاقات تحسناً منذ فتحت موسكو باب الهجرة لليهود السوفيات، وذهبت العلاقات نحو تفعيل الحوار المشترك وتطوير العلاقات التجارية، وتعزيز التعاون حتى في الفضاء، ففي 8 كانون الأول (ديسمبر) 2002، أطلقت روسيا صاروخها «سيوز» حاملاً قمر الاتصالات الاصطناعي الإسرائيلي «عاموس 2»، وشكل التعاون الأمني بين البلدين واحداً من محاور التقارب الكبير، ويقول الصحافي الروسي بفراغ ستيفني: روسيا وإسرائيل تواجهان التهديدات من حركات إسلامية وهذا الأمير يستدعي تقارباً معيناً بينهما. أضف إلى ذلك توقيع البلدين اتفاقاً مهماً يختص بتطوير طرازات الأسلحة الروسية القديمة. في المقابل بدأت روسيا مع وصول فلاديمير بوتين إلى السلطة استعادة مواقعها في العالم، وإقامة اتصالات لم تقتصر على البلدان التي كانت توصف بأنها «حليفة تقليدية لروسيا» بل تجاوزتها لبناء علاقات وثيقة مع دول عربية وإسلامية أخرى بينها دول الخليج العربي. وعلى رغم ان روسيا ما زالت تدعم في شكل صريح القضايا العربية إلا أنها لا تبذل جهداً لتحويل مواقفها إلى ثقافة ونمط تفكير، على صعيد المؤسسات ولا عند الجمهور المتروك لمن في إمكانه أن يملأ الفراغ، بوسائل شتّى، كالاستثمار المباشر وغير المباشر في المؤسسات الإعلامية ودور النشر ومراكز الأبحاث المختلفة، بهدف ترويج ثقافة جديدة، ان لم تكن معادية للعرب والمسلمين والشعوب العربية، وهذا يشكل خطراً في المدى البعيد بل ان بعض مخاطره بدأ يظهر، ويكفي كمثال ان بعض المنظرين ذهبوا إلى اعتبار إسرائيل دولة ناطقة بالروسية. وتسير الأمور على النحو التالي: في البداية يتم نفي المعرفة القديمة، ثم تأتي مرحلة اللامعرفة بوصفها مقدمة لمعرفة جديدة ومغايرة. ومشكلتنا نحن العرب اننا نركن إلى أن الصداقة معطى دائم وثابت، لنكتشف ان هذه الحقيقة آخذة بالتراجع، فبحكم التحولات الكبرى التي عاشتها وتعيشها روسيا، إضافة إلى واقع هجرة نحو مليون روسي إلى إسرائيل، نشأت وتوسعت حالة من الفراغ حيال التعرف بالشؤون العربية والإسلامية، وهناك من عمل في شكل مبكر على ملء هذا الفراغ، ولكن بالتأكيد ليس من العرب وليس في مصلحة العرب وقضاياهم، ففي السابق على سبيل المثال كانت هناك حركة واسعة لترجمة دراسات من العربية إلى الروسية وبالعكس، أما اليوم فتكاد هذه الظاهرة تختفي في روسيا، إلا ما ندر من مبادرات فردية قام أصحابها بإقناع الناشر بأن ذلك قابل للتسويق. في المقابل ما كتب وترجم ونقل عن إسرائيل والتعريف بها في السنوات القليلة الماضية تجاوز كل ما كتب أو ترجم عن العالمين العربي والإسلامي خلال السنوات الخمس والعشرين المنصرمة، بحسب دار نشر كبرى في روسيا. ويذهلك ان قلة في روسيا تعرف على سبيل المثال محمود درويش، وادوارد سعيد، أو محمد حسنين هيكل، أو عزمي بشارة... الخ بينما عامة الناس تعرف قضايا هامشية عن إسرائيل، وتعرف غالبية الروس جلعاد شالوط بينما لا تعرف مسؤولة عن نشرة الأخبار في محطة تلفزيونية روسية ناطقة بالعربية من هو عمرو موسى. أليس أمراً مأسوياً ان نترك أمر التعريف بنا لغيرنا، وأن يعرف بنا كما يشتهي خصومنا. والطريقة الغربية في التعرف على العرب من خلال التعريف الأميركي الجديد بينهم آخذة في الانتشار في الدول التي نعتبرها صديقة لنا، فالولاياتالمتحدة يحلو لها أن تعرفنا من خلال مجموعات صغيرة متطرفة وهامشية، لا يمكن القول فيها سوى أنها «صنعت في اميركا»، لتحاربها وتحاربنا، وأصبحت رموزها أكثر شهرة ومعرفة من صناع الفكر والحضارة في العالم العربي. ولوضع الأمور في نصابها لا يمكن أن نلوم الحكومة الروسية، أو دور النشر الروسية، تماماً كما لا يمكن أن نلوم نظيراتها الغربيات، وليس من الحصانة أن نلقي بالمسؤولية على عاتق المؤسسات الصهيونية التي تستثمر في مجال التعريف بإسرائيل أو فتح ثغرات في جدران الصداقة العربية – الروسية، بل الاحرى ان نلوم أنفسنا، على عدم الاستثمار في هذا المجال، فبينما يستثمر أنصار إسرائيل في دور النشر والصحف ومراكز الأبحاث في روسيا، يستثمر العرب في قطاع المطاعم والرقص الشرقي! ونحن نهدر الكثير في صراعاتنا الداخلية من دون أن نقدم شيئاً لكسب الأصدقاء، والبعض طبعاً يعتبر ذلك شيئاً من الترف. في روسيا اليوم مراكز أبحاث ومعاهد ودور نشر وصحف لا تملكها إسرائيل، لكن يمكن القول إنها تروج لسياستها، ونلاحظ ان أنصار إسرائيل يريدون مؤسسات مثل مركز البحوث الشرق أوسطية أو مركز الدراسات الإسلامية ومعهد الاستشراق الذي كان حتى الأمس القريب أبرز المؤسسات الأكاديمية التي خرّجت أجيالاً من المستشرقين، والأدهى ان متعصباً لإسرائيل مثل يفغيني سوتونوفسكي الذي يصف ليل نهار الفلسطينيين والعرب بأنهم قبائل وعصابات إجرامية، غدا نجم البرامج التلفزيونية التي تقدمه كخبير أوحد في شؤون العرب، ويجرى تقديمه بوصفه رئيساً لمعهد دراسات الشرق الأوسط ويتجاهل مقدموه (بخبث أو بحسن نية) صفته الأصلية، فهو نائب رئيس المؤتمر اليهودي في روسيا ورئيس هذه المنظمة السابق. في المقابل لا توجد في روسيا مراكز دراسات عربية أو على الأقل محايدة بمعنى انها تقدم دراساتها بشكل أكاديمي صرف. كل ذلك يلقي بظلاله على العلاقات العربية – الروسية وعلى طريقة تعرف الروس على الشؤون العربية، فهذه المراكز تقدم توصيات إلى صناع القرار في كل صغيرة وكبيرة. كنا نلقي باللوم على اللوبي الصهيوني لسيطرته على التعبئة داخل الولاياتالمتحدة والعالم الغربي عموماً، من دون أن نتوقف للحظة عند حدود مسؤوليتنا. وفي روسيا اليوم مع الأسف تنشأ حال شبيهة ولو بدرجة أقل مما هو سائد في الغرب، إلا أنه بات من الواجب دق ناقوس الخطر حفاظاً على ما نسميه صداقاتنا التاريخية، فالأمور يمكن ان تصل في روسيا وغيرها إلى مستوى الذي وصلت إليه في الغرب إذا ظل العرب في كسلهم واعتمادهم على ما يسمونه المسلمات التاريخية. في عهد الاتحاد السوفياتي كان بين العرب من يعتقد بأن موسكو تحارب مع العرب أو عنهم. اليوم هناك من يعتقد بأن الصداقة مع الشعوب حالة أزلية تحكمها الأواصر التاريخية، أو المواقف الحكومية، إلا ان الحقيقة عكس ذلك، فكل شيء قابل للاختراق، والصداقة بين الشعوب لا يمكن ان تستمر بموجب قرار حكومي مثل حظر التجول، فعلى سبيل المثال نجد ان غالبية جمهوريات آسيا الوسطى (السوفياتية سابقاً) والتي يغلب عليها الطابع الإسلامي، بنت علاقات ديبلوماسية مع إسرائيل قبل ان تبنيها مع العرب، لأن إسرائيل قدمت مشاريع واستثمارات لهذه الدول، وتشير التقارير إلى أن هذه الدول بدأت تحديث منشآتها العسكرية بما يلبي متطلبات حلف شمال الأطلسي، في حين تقدم إسرائيل خبراتها في إعداد الكوادر الأمنية خصوصاً في اذربيجان وطاجيكستان وأوزبكستان. العلاقات بين الشعوب والدول بالإضافة إلى كونها تواصلاً معرفياً هي أيضاً محكومة بحجم المصالح التجارية والاقتصادية وكذلك الأمنية.