نقلا عن / جريدة الوفد فى 23/8/07 ليس بيتاً عادياً.. ليست مجرد حوائط وأسقف وحجرات.. لكنه ذاكرة أمة.. ورائحة نضال وكفاح وطن.. سطرت كل زاوية فيه جزءاً من تاريخ مصر.. وشهدت جدرانه انطلاق ثورة غيرت مجري الحياة السياسية في الشرق الأوسط عام 1919. والحديث عن منزل سعد زغلول، الذي أطلق عليه المصريون بيت الأمة، لن يكون سهلاً، فهو ليس وصفاً لأثاث منزلي، بقدر ما هو نقل لأحداث شهدتها هذه القطعة من الوطن، وهذا المكان الغالي الذي عاش فيه سعد، وزوجته أم المصريين.. وكما لم تؤثر الأحداث في ذكري صاحبه لم تؤثر الأيام في حال الأثاث والفراش والأخشاب والأقمشة التي مازالت علي حالها دون إصابة أو علل أو مرض.. لقد واجه البيت أمراض الزمن ليبقي شامخاً شاهداً علي أن داخله كان يقطن رجل عظيم وامرأة مخلصة. ولكن.. لماذا سمي بيت الأمة بهذا الاسم.. القصة بدأت عندما شرع سعد زغلول في تكوين الوفد المصري الذي سيتحدث باسم مصر في مفاوضات الاستقلال، فقد تم إعداد صيغة لتوكيل الشعب المصري لأعضاء الوفد، وقد أبدي أعضاء الحزب الوطني في ذلك الوقت اعتراضهم علي صيغة التوكيل، فذهب مصطفي الشوربجي ومحمد زكي علي بك عضوا الحزب الوطني إلي سعد باشا وناقشاه في صيغة التوكيل، واحتدت المناقشات لدرجة شعر معها سعد بشيء من الضيق، فقال لهما: كيف تسمحان لنفسيكما بهذه الحدة؟ وكيف تقومان بإهانتي في منزلي؟ فقالا له هذا ليس منزلك ولكنه بيت الأمة، فانطفأت حدة سعد باشا وابتسم قائلاً: وأنا متنازل عن الاعتذار لي.. ومنذ هذا التاريخ أطلق علي بيت سعد باشا.. بيت الأمة. وبيت الأمة الذي عاش فيه سعد باشا ربع قرن بالتمام والكمال، قام ببنائه بنفسه وتحت إشرافه، فقد كان سعد زغلول يقيم في حي الظاهر حتي عام 1901 عندما قرر الانتقال إلي حي الإنشاء منطقة ضريح سعد الآن والذي فيه بيت الأمة في الوقت الحاضر، وكان معلوماً أنه حي الأرستقراطية التركية، فقد اشتري قطعة أرض من حرم طلبة باشا بحوالي ألفي جنيه عام 1900 وبدأ في البناء منتصف عام 1901 واستكمله في أوائل العام التالي، وانتقل إليه يوم الخميس 24 أبريل عام ،1902 وتكشف تفاصيل الحسابات الخاصة بالبيت أنه قد تم توصيل المياه النقية مع إنشاء البيت، الأمر الذي كلفه 9 جنيهات و750 مليماً وجهزه بالرخام الذي بلغت تكاليفه 75 جنيهاً وأمده بالغاز والكهرباء، وكان جملة ما أنفقه عليه 4296 جنيهاً و460 مليماً، وإذا علمنا أن سعر الفدان في ذلك الوقت من الأراضي الزراعية الجيدة كان يصل إلي 200 جنيه، فإن هذا يعني أن تكاليف بيت الأمة زادت علي ثمن 20 فداناً والمساحة الكلية للبيت تصل إلي 3 آلاف و80 متراً مربعاً، أما مساحة المباني فتصل إلي 600 متر مربع. وبيت الأمة هو ذاكرة تاريخ الحركة الوطنية في عهد الثورة الشعبية عام ،1919 لأنه كان ببساطة مسرحاً للحركة الوطنية منذ عام 1918 وحتي نهاية عام 1937 وهي المشاهد التي نرصدها من سطور التاريخ.. أول مشهد يطفو يه بيت الأمة علي سطح الأحداث حين قرر الوفد أن يعقد اجتماعاً فيه يوم 31 يناير عام ،1919 الأمر الذي دفع الجنرال واطسون قائد القوات البريطانية في مصر وبعد التشاور مع المندوب السامي البريطاني في القاهرة أن يبعث إلي سعد زغلول رسالة نصها.. »ياصاحب السعادة: علمت أن سعادتكم تعدون اجتماعاً في منزلكم بمصر في 31 الجاري يحضره نحو 600 أو 700 شخص، وإني أري أن مثل هذا الاجتماع قد يحدث منه إقلاق للأمن، فبناء علي هذا الإعلان الصادر تحت الأحكام العرفية أرجو أن تتكرموا بالعدول عن إقامة هذا الاجتماع. فجاء رد سعد بأن طلب من واطسون أن ينشر إعلاناً بأن دعوته منعت بالقوة بناء علي أمر السلطة العسكرية الإنجليزية.. والغريب أن واطسون وافق علي النشر.. لأنه اعتبر أن إلغاء الاجتماع مكسب كبير حتي لو كان الثمن نشر إعلان من سعد إلي الأمة. * بعد 36 يوماً وفي يوم 8 مارس علي وجه التحديد، في الساعة الخامسة بعد الظهر، وصل إلي بيت الأمة أربع سيارات عسكرية بريطانية، وخرج منها ضابطان إنجليزيان دخلا الدار وطلب أحدهما من سعد زغلول مصاحبة القوة، ونزل سعد درجات السلالم يتوكأ علي عصاه، وكان قد بلغ الستين من العمر، حيث تم نقله إلي ثكنات قصر النيل، وكانت المقر الرئيسي لقوة الحماية في العاصمة.. ونقل سعد بعد ذلك إلي بورسعيد ليركب علي متن السفينة التي نقلته إلي مالطا في البحر المتوسط. * في اليوم التالي مارس تفجرت الثورة وبدأت بمظاهرة طلاب مدرسة الحقوق والتي تبعها مظاهرات طلاب بقية المدارس العليا والثانوية، وكانت هذه المظاهرات تخرج متجهة إلي بيت الأمة وهي تنادي بحياة سعد باشا وكانت تنتظر من السيدة صفية زغلول ملوحة لهم بمنديلها. * في يوم 16 مارس أي بعد قيام مظاهرة طلاب الحقوق بأسبوع فقط، انطلقت من أمام بيت الأمة أول مظاهرة نسائية في تاريخ مصر الحديث، حيث خرجت سيدات العائلات يهتفن باسم الحرية والاستقلال مناديات بسقوط الحماية، ومررن بدور القنصليات ومعتمدي الدول الأجنبية والناس حولهن يصفقون ويهتفون والنساء من بيوتهن يهتفن. * تحولت شرفات بيت الأمة مقراً لخطباء الثورة، حيث كان يتجمع حولهن مئات المصريين، وقد شاعت من علي هذه الشرفات أسماء عديدة ممن أصبحوا نجوماً في عالم الوطنية بعد ذلك منهم مكرم عبيد وعبدالمجيد بدر والقمص سرجيوس والدكتور محجوب ثابت. * حضر وفد من نساء طنطا إلي بيت الأمة لمقابلة السيدة صفية زغلول ومعهن قطعة من قماش حريري طرزت عليه جملة »دخلت التاريخ عائشة أم المؤمنين وصفية أم المصريين«، وهذه اللوحة هي التي جعلت صفية زغلول أماً للمصريين. * بعد إطلاق سراح سعد ورفاقه من المنفي والتصريح لهم بالسفر إلي مؤتمر الصلح في باريس عام 1919 امتلأت مصر بمظاهرات الابتهاج، وكانت الجموع التي تقوم بمظاهراتها في القاهرة أو التي تفد من الأقاليم ينتهي بها المطاف إلي بيت الأمة وهي تهتف بحياة سعد والثورة.