من المعروف تاريخياً أن المصريين ينحُّون اختلافاتهم وخلافاتهم جانباً حين تتعرض بلادهم لخطر داهم، ويسارعون إلى التكاتف والتلاحم والتعاون في سبيل مواجهة هذا الخطر. وهذا الأمر تشربته الشخصية القومية المصرية إلى درجة أنه صار يشكل جزءاً أساسياً من ملامحها، تتميز به عن أمم كثيرة، تزيدها الأخطار تشرذماً وتوزعاً على ولاءات عدة، ويبدأ كل طرف كان يتربص بالآخر يستغل الظرف الطارئ في تعزيز وضعه حيال الفرقاء، بل إن البعض يذهب في خصومته وغيه إلى حد التعاون مع العدو الخارجي ضد بني وطنه. وهناك مثالان بارزان في هذا الشأن، الأول قديم يتعلق بملوك الطوائف في الشام والأندلس الذين كان بعضهم يستعين بالعدو الخارجي ضد إخوانه. والثاني حديث يتجسد في تعاون بعض زعماء الحرب الأهلية اللبنانية (1975 1989) مع إسرائيل. ولكن للأسف صار لدينا بعد ثورة 30 يونيو بعض من يدعو الخارج إلى أن يرتب لنا شؤون الداخل، وينادي حلف "الناتو" ليضرب جيش مصر، ويتمنى لو انهدم البلد حتى يعود إلى الحكم. إلا أن هؤلاء قلة، ودعوتهم يواجهها عموم المصريين باشمئزاز، ويقبحون أصحابها، ويزَّاورُون عنهم، لافظين إياهم، وبالتالي لن تؤثر هذه الدعاوى على الروح العامة للمصريين، وعلى موقف التيار الرئيسي أو العريض منهم، الذي يميل إلى التماسك عند الشدة. وبخلاف الجنرال يعقوب الذي تعاون مع الاحتلال الفرنسي لمصر (1798 1801) وبعض زعماء الريف ووجهاء البلد الذين خانوا أحمد عرابي في معركة التل الكبير التي واجه فيها الجيش الإنجليزي الزاحف لاحتلال البلاد، لا توجد حالات بارزة على الخيانة طيلة تاريخ مصر المديد. بل كان المصريون يسارعون دوماً للالتفاف حول الحاكم حتى ولو كان مكروهاً حين يكون بصدد مواجهة العدوان الخارجي. فالبسطاء هم الذين شكلوا العصب الرئيسي لجيش قنصوه الغوري حين تخلى عنه عسكر المماليك، وزحفوا معه إلى مرج دابق لصد الجيش العثماني، فلما قتل وقفوا إلى جانب طومان باي حتى شنق. والفلاحون مثلوا الكتلة الأساسية الحية لجيش محمد علي باشا، فبنى به إمبراطورية صغيرة مرهوبة الجانب، تحالفت أوروبا عليها حتى أنهكتها، وساقت مصر لتكون قابلة للغزو فيما بعد. وكثير من الشهادات والدراسات الاجتماعية الميدانية تدلل دوماً على تلاحم المصريين وقت الحروب، حيث تنخفض السرقات إلى أدنى حد لها، وتتعزز أشكال التراحم إلى أقصى مستوى لها، ويلتف الناس حول أولي الأمر، للدفاع عن البلد، وصيانة أمنه القومي، مهما كان حجم الخلاف معهم قبل وقوع أزمة سياسية شاملة وحادة أو كارثة طبيعية كاسحة أو نشوب حرب. ولم يسجل التاريخ وقوع أعمال نهب وسلب كبيرة وواسعة في وقت الأزمات سوى مرتين الأولى أيام حكم "بيبي" الثاني الفرعوني والثانية خلال حكم المستنصر بالله الفاطمي، حيث جاع الناس حتى أكلوا أجساد الموتى، ولم يكن أمام الجوعى من خيار سوى مهاجمة قصور الأغنياء، والاستيلاء على ما فيها من مؤن. ومن العوامل التي ساعدت على احتفاظ مصر بهذه السمة التاريخية أنها أقدم دولة مركزية في تاريخ الإنسانية، اعتاد أهلها أن يروها هكذا، وأن يحافظوا عليها كما هي طيلة آلاف السنين، ومن ثم يتنادون جميعاً في لحظة الخطر للذود عنها، حتى تستمر على هيئتها في خريطة العالم مهما تقدم الزمن. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام هو: هل لا يزال المصريون جميعاً يحتفظون بهذه السمة الحميدة؟ أم طرأت ظروف مختلفة، وجرت مياه آسنة عكرت صفو هذا التلاحم التاريخي؟ إن الإجابة التي تأتي للوهلة الأولى هي أن الجسم الرئيسي في مصر لا يزال محتفظاً بهذه الصفة، وأن التغير طرأ على هوامش المجتمع، ويخص فئات بعينها، طفت على السطح في العقود الأخيرة، وانحازت إلى مصالحها الخاصة، وأهوائها الشخصية، ولم يعد يهمها الاحتفاظ بأي سمة للتماسك والتوحد. فلا أحد ينكر أن سمة التماسك تلك كانت قد تعرضت قبل ثورتي يناير ويونيو لتحديات جسام، نبتت في قلب الظروف التي طرأت وأدت إلى تفسخ اجتماعي متفاوت النسبة والدرجة، ولكن يبقى لدى المصريين الكثير من روحهم، التي لا تقتصر فقط على التلاحم وقت الشدة، بل أيضاً القدرة الفائقة على صهر الغريب والوافد وهضمه وإعادة إنتاجه أو إخراجه في صيغة مصرية خالصة، وذلك في تواصل تاريخي فريد، لم يخفِ على كل ذي بصيرة نيرة وعقل فهيم. وقد عبر المستشرق "نيو بري" عن هذا الموقف بقوله: "مصر وثيقة من جلد رقيق، الإنجيل مكتوب فيها فوق هيردوت، وفوق ذلك القرآن، وتحت الجميع لا تزال الكتابة القديمة تقرأ بوضوح وجلاء". وفي الختام فمن المعروف أن مصر تستعيد روحها في سرعة خاطفة ولديها من ركائز القوة الكامنة ما يجعلها تتجاوز محنها، وترمم شروخها، وترتق خروقها، وتعود إلى سماتها وخصائصها الحضارية، وهذه مسألة يدركها أعداؤها قبل أصدقائها. ولعل ما جرى في ثورة يناير من توحد في الأيام الأولى، قبل أن يدخل تيار "الإسلام السياسي" ويقسم الصف، ويحول الثورة إلى فرصة للقفز على السلطة، يقدم دليلاً ناصعاً على هذا. كما أن ما جرى في ثورة 30 يونيو، حيث نزلت الملايين في كل مكان على أرض مصر، حين شعروا بأن الدولة تتعرض لخطر داهم، وأن هناك من يسعى إلى أن يمزق الروح المصرية، أو يسخر منها، ويفكك الدولة لحساب تنظيم بائس، لم تختمر ولم تستقر في رأسه فكرة "الوطنية" حتى هذه اللحظة. ونتيجة هذا النزول كان استرداد الدولة من قبضة تنظيم "الإخوان"، لكن يبقى أمام المصريين أن يعملوا بجد واجتهاد على فعل كل ما من شأنه أن يحفظ لهم هذه الروح التي لم تتآكل مع الزمن. نقلا عن جريدة الاتحاد الإماراتية