مما لا شك فيه أنه لا يوجد بيت في مصر به أبناء أو أحفاد لا ينفك عن الحديث في مسألة أو مشكلة التعليم ، فهذا هو الحديث الرئيسي للأسرة المصرية خاصة مع حلول العام الدراسي الجديد أو قدوم موسم الامتحانات الذي تصاب الأهالي والأولاد فيه باكتئاب، وكأن العملية التعليمية كلها تتوقف عند الإجابات والنجاح أو الرسوب في الامتحانات.. لكن ماذا يحقق لنا التعليم في مصر سوى الشهادات! سؤال بالتأكيد كلنا يسأله لنفسه! مع الأسف، تغيير الأنظمة لا يغير كثيرا مفهوم التعليم، فمفهوم التعليم في مصر منذ أن فتحنا أعيننا على العملية التعليمية فيه وهو مرتبط ارتباط وثيق بمفهوم الحفظ و"الدش" في ورقة الامتحان دون الوصول للبحث وراء المعلومة.. فمثلا إذا قمنا بسؤال الطالب بعد أن أنهى امتحاناته عن شيء تعلمه في أعوام مضت لا تجده يتذكر منه شيئا، وهذا ببساطة شديدة لأنه تعلم بطريقة الحفظ وليس الفهم أو البحث. سأشارككم تجربتي الشخصية عن تعليم إبني والتي من المؤكد أن كثير من المصريين ربما يكون قد صادف مثلها أو مر بها .. منذ حوالي عشرة أعوام اضطررت للاغتراب مع زوجي في أحد الدول وكان إبني في أول مراحله التعليمية، وأتذكر تماما عندما كنا نذاكر سويا ونحن هنا، كان اعتماده في الأول والأخر على الحفظ، إلى أن انتقلنا مع الوالد في الخارج للعيش لبضعة سنوات، وحظي إبني بفرصة التعليم الدولي هناك، وهناك لم أكن أذاكر معه بل فقط كنت أراقبه من بعيد، إلى أن عدنا في منتصف المرحلة الابتدائية وبدأت ألحظ الفرق وقتها بين شغفه بالدراسة وحبه للبحث عن المعلومات وبين ما يعانيه من عدم الاهتمام في مصر بالمحتوى التعليمي، وبدأت أراه يواجه مشاكل في الدراسة، فقد نشأ في هذه النوعية من المدارس على استخدام العقل ومنهج البحث الشخصي للوصول إلى النتائج، وبدأ يطبق ما تعلمه في الخارج في مصر، إلا أنه اصطدم بالواقع، وبدأت درجاته تختلف للأسوأ وهو لا يعرف السبب، فهو يذاكر جيدا ويجيب على الأسئلة جيدا (من وجهة نظره ونظري) وكلما سأل المعلم أو المعلمة، تنحصر إجاباتها أو إجاباته في: "التزم بالكتاب المدرسي، أنت خارج على النص".. وكان يبكي ويقول: "إجاباتي صحيحة لكن بمفهوم مختلف، لماذا يعتبرونها خاطئة؟" وكنت أبكي معه على حال الطلاب المصريين جميعا.. فذهبت إلى مدرسيه وتناقشت معهم، وكانت نصيحتهم لي أن أكمل تعليم إبني في النظام الدولي (وما أدراك بالنظام الدولي وتكلفته في مصر) لأنه "سيعقد" وسيعاني لا محالة، فالنظام المصري يعتمد على حفظ الطالب والتزامه بالكتاب المدرسي ولن يتم الاعتراف بأي إجابة حتى لو كانت صحيحة ما دامت خارج النص الدراسي. إذن، مربط الفرس هو "الكتاب المدرسي"، فإذا لم يحفظ الطالب ما بداخل الكتاب الدراسي، ربما يرسب وقد يكون هو أكفأ من طالب آخر لم يعرف سوى الحفظ، والسبب أنه يستخدم نعمة العقل التي لا يعترف بها نظام التعليم في مصر، فالطالب المصري ملتزم بالحشو الموجود داخل الكتاب دون فهم وإدراك ولا يحاول البحث بمفرده عن المعلومة، وينتهي به الحال ليصبح كماله عدد لباقي المتعلمين في مصر من حملة الشهادات.. أما من يدرسون بطريقة البحث الذاتي، فربما يجدون الفرصة في الخارج، لأن مصر لا تستطيع استيعابهم.. وبذلك تصبح الكفاءات مهاجرة وغير نافعة لبلدنا الحبيبة.. لكننا علينا ألا نغفل أننا من فعل بهم ذلك وليس أحدا أخرا. نداء أتوجه به ومعي كثيرين من المصريين لوزير التربية والتعليم، أن ينظر في عمق العملية التعليمية، فنحن "الأهالي" لا نهتم كثيرا إذا ألغيت الابتدائية أم أبقيتها، فهذا ليس لب العملية التعليمية، وهذه ليست المشكلة الكبرى في التعليم، لتكون الشغل الشاغل لأي وزير جديد. والسؤال هنا هل سيظل مصير التعليم في مصر متوقف على أداء الطلاب في الامتحانات أم يرتقي لما هو أبعد من ذلك! يا سيادة الوزير عليك الاستعانة بتجارب الآخرين: ماليزيا والصين وتركيا والدول المتقدمة.. وسأضرب مثلا ففي اليابان، إذا أعطى المعلم معلومة خاطئة للطفل يعاقب بعقوبة قد تصل للإعدام.. فإلى هذا الحد التعليم مقدس في اليابان وإلى هذا الحد هم حريصون على أبنائهم للنهوض بأمتهم.. والغرض من الاستعانة بتجارب الآخرين أن تجد لنا يا سيادة الوزير نظاما تعليميا مختلفا تماما يفيدنا وأولادنا في المستقبل حتى تحقق مصر النهضة التي وعدنا بها الرئيس مرسي.. فالتعليم هو أساس النهوض بالأمم.. وما خاب من استشار، والاعتراف بالحق فضيلة.. فلن تنهض مصر دون البحث العلمي والارتقاء بالمستوى التعليمي والاهتمام بالتعليم الحكومي في مصر.. فالأمل في نهضة مصر في التعليم أولا. أما إذا سرت يا معالي الوزير على نفس منهج من سبقوك.. فعليه العوض ومنه العوض في أي نهضة نحلم بها.. رفقا بنا وبأولادنا!!! * نقلا عن صحيفة الاهرام