بعد أحد عشر عاماً على اعتقاله، بل كل يوم، أفتقد الغالي مروان البرغوثي، الأسير في سجنه. فلا هو بقادر على زيارتنا، ولا نحن بقادرين على زيارته رغم المحاولات المتكررة عبر المناضلة زوجته ومحاميه. نفتقد الغالي مروان، الذي فرّق المحتل الإسرائيلي، جسدياً، بينه وبين شعبه، لكنه لم يستطع فصم رباط الإعجاب والمحبة بينهما. ولأن مروان يمثل "الشجاعة المجسدة"، نجده يزأر: "أقطع يدي ولا أكتب اعترافاً، وإني اعتبرت نفسي في مهمة نضالية استشهادية. وإذا كان الجلاد يملك من أدوات القتل والتعذيب والقهر الكثير، وأنا أسير مقيد لا أملك سوى إرادة المقاومة والإيمان المطلق بعدالة قضية شعبي، وإذا كان ثمن حرية شعبي فقدان حريتي، فسأدفع هذا الثمن". هكذا لخص مروان فترة تحقيق كبار المحققين الإسرائيليين معه وهم الذين كانوا ينتظرون أية معلومات تدين الرئيس الراحل عرفات، معتبرين ذلك -حسب أقوالهم- جوهر التحقيق، خاصة علاقة عرفات بكتائب "شهداء الأقصى". وقد استخدمت إسرائيل أساليب تعذيب، جسدية ونفسية، قاسية بحق البرغوثي طوال مائة يوم من التحقيق المحموم. ويقول مروان بهذا الصدد: "يبدو جلياً أن هذه الأساليب الإحباطية والنفسية، المصحوبة بالنزعة العنصرية والغرور وتشويه الحقائق والتاريخ، كانت تستهدف مني اعترافاً على ياسر عرفات، الرأس المطلوب، وإقراراً مني بفشل الانتفاضة والمقاومة وعدم جدواهما". اليوم، تمر الذكرى الحادية عشرة لاعتقال المناضل البرغوثي، المحكوم بالسجن المؤبد خمس مرات بتهم القتل والشروع في القتل، وهو الناشط في انتفاضة الأقصى، تماماً كما كان ناشطاً في الانتفاضة الأولى التي صنعت شعبية هذا الرجل في الأوساط الفلسطينية. ومنذ اللحظة الأولى لاعتقاله، ظهر مروان في قاعة المحكمة، محاطاً بالحشد الإعلامي الهائل، رافعاً يديه المقيدتين ملوحاً ومعلناً: "الاحتلال إلى زوال... الانتفاضة ستنتصر". ومنذئذ، رفض التعامل مع المحققين، ناهيك عن التجاوب معهم والتعاطي مع اتهاماتهم التي اعتبرها باطلةً، كما اعتبر أن اعتقاله غير شرعي وغير قانوني. ومنذئذ، أيضاً، تحوّل البرغوثي إلى رمز وطني وإنساني، ورقم سياسي هام في الدفاع عن حقوق شعبه المشروعة. قال فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، آرييل شارون، لحظة اعتقاله: "يؤسفني إلقاء القبض عليه حياً، كنت أفضل أن يكون رماداً في جرة". أما "الياكيم روبنشتاين"، المستشار القانوني للحكومة الإسرائيلية في ذلك الوقت، فقد أفرغ حقده قائلاً: "البرغوثي مهندس إرهابي من الدرجة الأولى، وقد راجعت ملفاته طوال ثلاثين عاماً، ووجدت أنه من النوع الذي لا يتراجع، لذلك يجب أن يحاكم بلا رحمة، وأن يبقى في السجن حتى موته". أما وزير الحرب الأسبق، شاؤول موفاز، فقد تبجح باستعلائية مريضة: "إن اعتقال البرغوثي هو هدية جيش الدفاع للشعب الإسرائيلي في عيد الاستقلال". ولطالما اعتبرت الأوساط الأمنية الإسرائيلية البرغوثي الذراع المساند لعرفات، ودينامو الانتفاضة وصوتها العالي، محاولةً -من خلاله- إيجاد أي إدانة للقائد الراحل، كمبرر لتنفيذ المخطط الإسرائيلي بتدمير السلطة وإعادة الاجتياحات العسكرية وتدمير اتفاقات أوسلو وتنفيذ مخطط الفصل العنصري. وهذا ما يجري حالياً. بدأ البرغوثي حياته النضالية منذ اعتقلته السلطات الإسرائيلية إثر مشاركته في تظاهرات مناهضة للاحتلال في بيرزيت ورام الله ولمّا يبلغ الخامسة عشرة. ومنذئذ، اتسمت رحلته النضالية بمثابرة استثنائية لم تثبطها سنوات الاعتقال المتواصلة ولا المنفى. ومعروف أن مروان قد عمل في رحلة نضاله المبكر على تأسيس منظمة الشبيبة الفتحاوية في الأراضي الفلسطينية، المنظمة الجماهيرية التي تشكلت في مطلع الثمانينيات، واعتبرت أكبر وأوسع وأهم منظمة جماهيرية تقام في الأراضي المحتلة، وهي التي شكلت القاعدة الشعبية الأكثر تنظيماً وقوة ولعبت دوراً رئيساً في الانتفاضة الشعبية الكبرى التي انطلقت في 1987. وفي ابريل 1994، تم انتخاب البرغوثي لموقع "أمين سر حركة فتح في الضفة الغربية"، ليبدأ مرحلة جديدة من العمل التنظيمي والنضالي. فعقب ذلك بادر على الفور إلى إعادة تنظيم حركة "فتح" التي كانت قد تعرضت لضربات شديدة من قبل الاحتلال في الضفة، وشهدت حالة من التشتت والانقسام، ونجح في إعادة بناء الحركة من جديد في فلسطين، وخلال زمن قياسي رغم المعارضة الشديدة التي جوبه بها من قبل الكثيرين. وانشغل البرغوثي لعدة سنوات في هذا الأمر، حيث عقد أكثر من 150 مؤتمراً في الضفة، شارك فيها عشرات الآلاف من الأعضاء، وانتخبوا هيئات قيادية جديدة. وقد كان في ذهنه أن هذه المؤتمرات يجب أن تكون مقدمة لعقد المؤتمر العام السادس للحركة الذي كان يرى فيه ضرورةً لتعزيز وتكريس الديمقراطية في الحركة. بل لعب، من داخل سجنه، دوراً بارزاً في نجاح "اتفاق القاهرة" بين الفصائل الفلسطينية، والذي قاد إلى مشاركة معظم الفصائل (بما في ذلك "حماس") في انتخابات المجالس البلدية وانتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني الثانية 1/2006، والاتفاق على تفعيل منظمة التحرير الفلسطينية وترتيب البيت الداخلي الفلسطيني. ولطالما، دعا مروان من سجنه، وبشكل مثابر، إلى إصلاح حركة "فتح" ودمقرطتها ونبذ سياسة الإقصاء والتغييب، دافعاً باتجاه عقد المؤتمر السادس للحركة بغية انتخاب قيادة جديدة جديرة للحركة. واليوم، في ذكرى سنة صمودك الحادية عشرة، أستعيد ما كتبتُه في أواخر ابريل من عام 2004: نفتقدك يا مروان! نفتقد وجهك إذ لم تعد تسكب نور التفاؤل من على شاشات التلفزيون مثلما فعلت طوال أشهر الانتفاضة! تفاؤلك كان -وسيبقى- النور الذي لن يبدد فقط حلكة الليلة الظلماء، بل سيطلق سراحنا من أحشاء ظلم صهيوني مقيم، ومن أسار زمن "عربي" و"إسلامي" وعالمي ظالم! نحن قطعاً لن نذهب في غياهب "الحفرة السوداء"، بل هم الذين ستذهب ريحهم، ريح الاحتلال الإسرائيلي القائم على الفصل العنصري والتطهير العرقي. وأكرر: ثبت الآن أن "لكل امرئ من اسمه نصيب"، فإن نحن عدنا إلى جذر اسمك يا مروان، فإن المعنى المحدد واضح: إنه اللين في الصلابة! ولطالما كنت، يا أخي الحبيب، صلباً دون أن تكسر، وليناً دون أن تعصر! ولك المجد إذا سالمت حين يجنحوا للسلم! ولك المجد إذ حاربت حين جنحوا للحرب! واليوم: في سجنك، في أسرك، لك المجد! نقلا عن جريدة الاتحاد الإماراتية