إذا كان الطلاق هو أبغض الحلال في حياتنا الاجتماعية، فأنا أعتقد أن إضراب الأطباء أو القضاة عن العمل هو أبغض الحلال في حياتنا السياسية، سواء في هذه المرحلة العصيبة التي تعيشها مصر، أو في غيرها.. هذا إذا أخذنا في الاعتبار أن الإضراب عن العمل أو عن الإنتاج أمر حلال، أو مشروع، من حيث المبدأ، فقد أدلى رجال الدين بدلوهم في هذه القضية، مستنكرين هذا السلوك، على اعتبار أنه يضر بالمجتمع، كل المجتمع، فما بالنا إذا كان الأمر يتعلق بحياة البشر، في الحالة الأولى، وبأمن البلاد، ومصائر العباد في الثانية؟! بالتأكيد لهؤلاء مطالب، كما لهؤلاء مبررات، إلا أن هؤلاء وأولئك قد أدوا قسم الإخلاص للعمل وللوطن وللمهنة، وهو القسم الذي يتحتم معه عدم الامتناع عن العمل أو عن أداء هذه الرسالة السامية بأي شكل من الأشكال، وتحت أي ذرائع أو مبررات، فما بالنا إذا كانت المبررات هنا قابلة للأخذ والرد، والتفاوض والنقاش؟.. خاصة أن الأطراف الأصيلة فيها هم من النخبة التي حصلت على قسط وافر، بل متميز، من التعليم والثقافة، وإلا فمن دونهم من أنصاف المتعلمين، أو الأميين، قد يرون من حقهم التصعيد أكثر وأكثر، بالعبث بمواقع العمل والإنتاج، وهو ما رأيناه قد حدث بالفعل. ولأن الأمر كذلك، فلم نعهد في الأعراف الدولية ما يكفل حق الإضراب لهاتين الفئتين تحديدا، وذلك صونا لحياة البشر من جهة، ولحقوقهم من جهة أخرى، وهو الأمر الذي كان يتحتم النص عليه في الدستور الجديد بالمنع والتجريم، خاصة إذا علمنا أن أكثر من 88% من شعبنا يعانون أمراضا متفاوتة، هي في معظمها مزمنة، وفي معظمها تحتاج إلى متابعة دقيقة ويومية، كما أن هناك أكثر من عشرة ملايين قضية منظورة أمام المحاكم، تجاوز نظر البعض منها السنوات العشر نتيجة بطء عملية التقاضي المتوارثة في مجتمعنا منذ زمن بعيد، ناهيك عن أن أمن المجتمع، في هذه المرحلة، هو حالة استثنائية كانت تتطلب المزيد من الجهد في هذا الصدد. وقد يكون مقبولا توقف العمل في مهن أخرى غير هذه وتلك، لسبب أو لآخر، إلا أن حالة الأطباء والقضاة هي النموذج الصارخ لما آلت إليه حال البلاد في هذه المرحلة، وليس أدل على ذلك من حالات وفاة عديدة شهدتها المستشفيات في طول البلاد وعرضها جراء هذا السلوك خلال الشهور الأخيرة، كما أن ملايين المتقاضين قد تضرروا ضررا بالغا أيضا في شتى المحاكم والنيابات خلال تلك الشهور، وهو الأمر الذي يؤكد أن الهدف من الإضراب قد تجاوز عقاب السلطة الحاكمة إلى عقاب الشعب، كل الشعب، وخاصة الكادحين منهم في الحالة الأولى الذين لم تسعفهم ظروفهم المادية للجوء إلى المستشفيات الخاصة، التي كانت دائما بمنأى عن الإضراب، لأسباب تتعلق بأصحاب رأس المال وتطبيق مبدأ الثواب والعقاب، كما أنه في الحالة الثانية، وهي حالات التقاضي، سوف نجد أن المضارين أيضا هم أصحاب الحقوق، أو بمعنى آخر، المجني عليهم، وذلك لأن الجاني هنا قد استفاد من توقف العدالة في مجتمع، هو في أمس الحاجة إليها. - نحن إذن أمام قضية خطيرة تتطلب تصحيحا سريعا للموقف، وذلك بتشكيل لجنة حكماء في هذه وتلك، تكون مهمتها التفاوض والحوار مع السلطة الرسمية، مع كل طارئ من شأنه أن يعكر من صفو العلاقة، ومع كل أزمة من شأنها أن تكدر السلم العام، وما أكثر الحكماء على هذا الجانب أو ذاك، بل من المفترض أن يكونوا جميعا حكماء، فهم صفوة المجتمع، وهم خيرة أبنائه، ولم نكن نأمل أبدا أن يكون الشأن الداخلي للقضاة أو لأعضاء النيابة، مشاعا للعامة يتداولونه، أو لوسائل الإعلام تشعله، أو حتى للتنفيذيين يزايدون عليه، كما لم يكن طبيعيا أن نعتاد سماع أنباء من هذا الإقليم أو ذاك تتضمن احتكاكات مع الأطباء وصلت إلى حد الاعتداء عليهم، لأنهم امتنعوا عن العمل أو قصروا فيه، وجميعها أمور أسهمت في إيجاد أجواء الفوضى والبلطجة، سواء في ساحات المحاكم، أو في أروقة المستشفيات، وبذلك امتد الضرر هنا من المرضى والمتقاضين إلى خصم كبير من رصيد الأطباء والقضاة. فقد أصبح العامة يشاركون رجال القضاء وقفاتهم الاحتجاجية سلبا كانت أو إيجابا، كما أصبحت وسائل الإعلام طرفا أصيلا في قضاياهم، تصنع نجوما من البعض، وتلقي بالاتهامات على البعض الآخر، وسط تبادل للاتهامات بين القضاة أنفسهم، وهو الأمر الذي أساء كثيرا لسمعة القضاء ورجاله على السواء، وهي أمور لم يألفها مجتمعنا من قبل، ويجب ألا يألفها، بأي حال، حتى يظل القضاء في بلادنا شامخا كما عهدناه، ورجال القضاء مهابين، كما اعتدنا منهم، فقد ألقت هذه الأمور، وغيرها، بظلال سلبية على سمعة القضاء والقضاة، ليس في الداخل فقط، بل حتى خارج القطر، وهو أمر بالغ السوء، وخاصة إذا علمنا أن بلدانا كثيرة من حولنا استعانت عبر تاريخ طويل، ومازالت تستعين، بخبرات قضائية مصرية، ليس في محاكمها ونياباتها فقط، وإنما في وضع دساتيرها، وقوانينها، ومناهجها التعليمية ذات الصلة، ولن نستطيع حصر هذه الخبرات في البلد الواحد لكثرة أعدادها. كما أن أطباء مصر، أيضا، كانوا هم النواة لإنشاء الكيانات الصحية بهذه البلدان، وكانوا ركيزة أساسية في بلدان أخرى متطورة في هذا المجال، وليس مقبولا أبدا أن تتدهور سمعتهم لدرجة الامتناع عن العمل، وعدم إنقاذ مريض هنا، أو التسبب في موت آخر هناك، ويكفينا ما يتردد عن ضعف مهني، أو تدهور تعليمي في هذا المجال، نتيجة إنشاء أكاديميات خاصة دون ضوابط، أو التوسع في إنشائها دون دراسات، وهو الأمر الذي يحتم إعادة النظر في هذه المنظومة ككل، حتى تستمر على المستوى الذي يليق بسمعة وحجم مصر، وهو المستوى الذي تم تشييده على مدى عقود طويلة، وأسهمت فيه عقول وخبرات حفرت أسماءها بحروف من نور في كتب الطب، وموسوعات عالمية عديدة، وليس مقبولا أبدا أن تنهار هذه المنظومة بفعل تأثير سياسي، أو بمعنى أصح تحريضي، لم يراع أبدا عواقب هذه الممارسات التي تسفر عن عواقب وخيمة هي أقرب إلى فعل القتل العمد. - ومن هذا وذاك.. أرى أن القضاة أو الأطباء إذا عبروا عن موقفهم من أمر ما، من خلال بيان أو رسالة إلى رئيس الدولة أو رئيس الحكومة، فهي رسالة قوية يجب عدم تأجيل بحثها أو البت فيها إلى اليوم التالي، وإذا عبروا عن غضبهم في هذا البيان، فهو رسالة جسيمة يجب أن تستحق كل التقدير والاحترام، وإذا كانت لهم مطالب خاصة، فيجب أن تجد آذانا صاغية في ضوء إمكانات الدولة، ومطالب الفئات الأخرى التي سوف تترقب وتطالب بالمساواة، أما إذا وصل الأمر إلى تعطيل العمل أو الإضراب، فأعتقد أن الدولة سوف تتعامل مع الحدث بالطريقة ذاتها، بمعنى أنها أصبحت أمام حركة تمرد غير حضارية لا تستند إلى قانون، ولا إلى أعراف أو تقاليد، وبالتالي سوف تختلط الأوراق، وتدب الفوضى، ولا حياة لمن تنادي، في ظل دخول قوى أخرى على الساحة تغذي روح العداء، وتزيد من فجوة الشقاق، وسوف أجدها فرصة للإشادة بقرار تأجيل التعليق الكلي للعمل بالنيابات كبادرة حسن نوايا في هذا الشأن. ولن أكون مبالغا إذا قلت إن خبرا يتحدث عن إغلاق محكمة ما، نتيجة إضراب القضاة، أو توقف العمل في مصحة ما، نتيجة إضراب الأطباء، هو الخبر الأسوأ على الإطلاق في حياة المصريين جميعا، فما بالنا ونحن نشاهد مواطنا يتحدث عن معاناته مع المحاكم أو التقاضي بصفة عامة في ظل هذه المواقف، أو مريضا أو أحد ذويه يتحدث عن المعاناة مع المرض، في وجود طبيب لا يريد أن يعمل؟!، هي إذن مأساة ما بعدها مأساة تؤرخ لمرحلة مظلمة في تاريخ الأمة المصرية، التي كان يجب أن تنطلق إلى آفاق جديدة في مرحلة ما بعد ثورة 25 يناير، حيث كان يجب أن تكون دافعا نحو مزيد من العمل والإنتاج وليس العكس، حتى يمكن أن نتخلص من قيود المعونات والمنح والصدقات والهبات، التي أصبحت ألسنة المسئولين تتداولها، دون حياء، ومانشيتات الصحف ونشرات الأخبار تتناقلها على أنها حالة مصرية طبيعية تتوارثها الأجيال القادمة، على الرغم من أنها حالة تسول واستجداء بكل ما تحمله الكلمتين من معان. أما وقد هانت علينا أنفسنا إلى هذا الحد، فسوف نناشد قضاة مصر وأطباءها العودة إلى الرشد، بإعمال العقل، وتحكيم المنطق، في هذه المرحلة بالغة الدقة والتعقيد، من أجل وطن كان يجب أن يكون في طليعة الأمم، بخيراته الواسعة، وثرواته البشرية المشهود لها، وسوف يكون هؤلاء وأولئك في الريادة والصدارة بشهادة شعبية، هي الأهم بين شهادات التقدير، إن هم استوعبوا المرحلة بحلوها ومرها، أملا في الخروج من عنق الزجاجة، وتفويت الفرصة على المتآمرين على مصر واستقرارها، فلا المواطن صاحب الحق يستحق منا تكديرا أو قهرا في المحاكم على يد قضاة هم في الأصل مكلفون بإنصافه، ولا المريض الذي لا حول له ولا قوة يستحق منا زيادة آلامه على يد أطباء، هم في الأصل جعلهم الله سببا لإنقاذه وعلاجه، وفي النهاية لا هذا ولا ذاك طرف في خلاف القضاة أو الأطباء مع السلطة الرسمية، اللهم إلا إذا كان الهدف هو عقاب المجتمع، كل المجتمع. - على أي حال.. وبحكم خبرتنا بالشخصية المصرية، وبحكم طبيعة المصريين، يمكننا أن نؤكد أن ما حدث، ويحدث، إنما هو هفوات طارئة على المجتمع في مرحلة تحول كبيرة وواسعة، ولا يمكن بأي حال أن تستمر هذه الهفوات أكثر من ذلك، ونحن على يقين من أن الخبرات المتراكمة، السياسية منها والاجتماعية، سواء في صفوف الأطباء أو القضاة، سوف تحسم الموقف في النهاية لما فيه مصلحة شعب مصر، بمنأى عن الحسابات السياسية، أو حتى المطالب الفئوية، ولأن الأمر كذلك، فسوف ننتظر موقفا على مستوى المسئولية من هؤلاء وأولئك يستبعد خيار الإضراب من قاموس العمل في هذين المجالين، ليس في هذه المرحلة فقط، بل في المستقبل أيضا، وذلك من خلال النص في قوانين العمل المنظمة لهما على التجريم والتحريم، وحبذا لو جاء هذا المطلب من نادي القضاة، ونقابة الأطباء، وليس من خلال مشروع تقدمه الحكومة، أو أعضاء البرلمان. مشايخنا يرحمهم الله تفتحت عيوننا على الدنيا ونحن نرى مشايخنا الافاضل يجوبون الدنيا طولا وعرضا في مساجدها ومراكزها الدينية، من خلال بعثات رسمية تارة، ومهمات محددة تارة آخرى، سواء من خلال الأزهر الشريف، أو وزارة الأوقاف، فحملوا مشاعل نشر الإسلام في إفريقيا، والتنوير والوسطية في دول الخليج، ووصلوا إلى دول عديدة في آسيا، والمساجد والمراكز الدينية في الولاياتالمتحدة وأوروبا، حتى بلغت شهرتهم الآفاق في هذه الدول، ناهيك عن البعثات الرمضانية سواء من الوعاظ أو المقرئين الذين ذاع صيتهم أيضا هنا وهناك. إلا أن الأحوال يبدو أنها قد تبدلت كثيرا الآن، والشاهد على ذلك وجود عالمين جليلين خليجيين في مصر خلال هذا الأسبوع في آن واحد يترقبهما الناس بشغف، وهما الشيخ محمد العريفي، صاحب الخطبة الشهيرة عن مصر والمصريين، والشيخ عائض القرني، وهما من العلماء الأفاضل، وبالإضافة إلى وجود الشيخين فقد انتشرت في مصر خلال السنوات الأخيرة شرائط "الكاسيت والسيديهات" لعلماء آخرين من خارج مصر في دلالة واضحة على تراجع مكانة علمائنا في قلوب وعقول العامة والخاصة لأسباب عديدة، أهمها انشغالهم بأمور أخرى غير أمور الدين أحيانا، وحصر الدين في سجالات عقيمة أحيانا أخرى، بدءا من إرضاع الكبير وليس انتهاء بإحدى الفنانات التي حصلت على نصيب وافر من البرامج الدينية والحوارية، بل تعدى الأمر إلى ساحات القضاء، مما أفقد رجل الدين هيبته وشموخه في آن واحد. رحم الله مشايخنا الأعزاء: محمد الغزالي وصلاح أبوإسماعيل ومحمد متولي الشعراوي وعبدالحميد كشك، وكان الله في عون مشايخنا الأجلاء أحمد الطيب، وعلي جمعة، ومحمود عاشور، وأحمد عمر هاشم، في ظل هذه الأوضاع التي اختلط فيها الحابل بالنابل، وأصبح معتلو المنابر لا يحفظون القرآن، وأئمة المساجد يخطئون فيه، وضيوف البرامج الدينية غير مؤهلين للفتوى، وكأنه كان هدفا متعمدا لحكومات وأنظمة سابقة، وكانت النتيجة ما نحن فيه الآن. بالفعل.. الأمر جد خطير ويحتاج إلى إعادة نظر، بدءا من الكتاتيب التي اختفت من حياتنا، والتي كانت النواة لإنتاج العلماء والمقرئين على السواء، ومرورا بالمعاهد الأزهرية، التي تدهور حالها إلى أبعد مدى، وانتهاء بالكليات المتخصصة، التي لا أدري إلى أي مدى وصل أمر جديتها في تعليم الدين وحفظ القرآن؟ إلا أن ما بدا واضحا، هو أن المؤسسات الدينية في مصر تحتاج في أمرها وأمر القائمين عليها إلى إعادة نظر بمنحها دون غيرها صلاحية الخطابة والإمامة والإفتاء والظهور في الفضائيات، بعد أن أصبح الأمر مشاعا لمجرد إطلاق لحية، أو ارتداء سروال قصير، حتى يستعيد عالم الدين وقاره وسمعته، وتعود لمصر ريادتها، ولن يتأتى ذلك إلا بوقف عملية تصفية الحسابات القائمة الآن في هذا المجال. نقلا عن جريدة الأهرام