علي مدي يومين كاملين تحولت ولاية ميسوري إلي مركز السياسة الأمريكية رغم أن الولاية بعيدة عن المجريات السياسية في العاصمة واشنطن. قبل أسبوع تسابق المرشحون الذين يتنافسون علي خلافة جورج دبليو بوش في البيت الأبيض إلي الولاية بينهم هيلاري كلينتون ومنافسها في الحزب الديمقراطي باراك أوباما. كما جاء إلي الولاية جون ماكاين من الحزب الجمهوري والممثل السابق فريد تومبسون. جميعهم أتوا لكي يشيدوا بالجنود القدامي الذين ينتمون إلي اتحادات ذات نفوذ في البلاد وتشكل قاعدة انتخابية. لذلك جاء المتنافسون علي منصب رئيس الولاياتالمتحدة لكسب ثقة الجنود القدامي كناخبين، وحضور الاجتماع السنوي لهذه الاتحادات. أشادت هيلاري كلينتون بالجنود الأمريكيين. لم يكن بوسعها فعل غير ذلك، لأنها تعرف بحكم خبرتها أنه مهم جدا الفوز بثقة الجنود السابقين الذين يبلغ عدد المسجلين منهم في الاتحادات 24 مليون جندي ممن شاركوا في الحرب العالمية الثانية وفي النزاع الكوري وفي حرب فيتنام وحربي العراق الأولي والثانية. وقد أدرك بيل كلينتون أهمية أصوات الجنود القدامي فسعي إلي كسب ثقتهم ورجحت أصواتهم كفة فوزه علي والد الرئيس الحالي. كما ساهمت اتحادات الجنود القدامي بفوز دبليو بوش بولاية ثانية عندما ركز في حملته الانتخابية علي حرب العراق وحربه ضد الإرهاب وحرص علي إلقاء معظم خطبه في لقاءات مع جنود سابقين. لم يتعرض أحد من المرشحين لمنصب بوش إلي السياسة الخارجية الأمريكية في الماضي، باستثناء الرئيس دبليو بوش الذي سوف يترك البيت الأبيض بعد نهاية ولايته الثانية لأن الدستور الأمريكي لا يسمح له بالترشح لولاية ثالثة. ففي اليوم الذي ورد فيه نبأ سقوط مروحية عسكرية أمريكية في العراق ومقتل 14 من رجال البحرية كانوا علي متنها، اختار بوش تذكير الجنود القدامي بآخر مروحية حلقت فوق سطح السفارة الأمريكية في سايجون حاملة علي متنها آخر حلفائها الذين استطاعت إنقاذهم قبل وقوع فيتنام بقبضة ثوار الفيتكونج واعتبر المؤرخون أن الولاياتالمتحدة خسرت الحرب بعد سنوات من القتال المرير ومقتل مئات الآلاف من الجنود والثوار والمدنيين. وكان انسحاب أمريكا من فيتنام بداية مجزرة كبيرة، إذ وقعت حرب أهلية طاحنة وسعي الذين تعاونوا مع الولاياتالمتحدة إلي تغيير مكانهم في الجبهة وأفشوا بأسرار الأمريكيين لكسب ثقة الحكام الجدد في سايجون. واستعان دبليو بوش بالمثال الفيتنامي ليحذر من تكرار الخطأ وانسحاب الولاياتالمتحدة من العراق لأن هذه الخطوة حسب قراءة بوش سوف تؤدي إلي مقتل ملايين الأبرياء. بعد سنوات من الجدال وبعد أن اهتزت ضمائرهم ثبت لغالبية الأمريكيين أنه كان من الخطأ أصلا إرسال جنودهم إلي جنوب شرق آسيا. وكثير من المثقفين في الولاياتالمتحدة يعتبرون حرب فيتنام اليوم عبارة عن عملية انتحار. وكثير من المراقبين الدوليين خاصة من العالمين العربي والإسلامي يعتبرون حرب العراق عام 2003 مغامرة انتحارية تماما كما حصل ذلك الوقت في فيتنام. واستغل دبليو بوش المناسبة ليقنع الشعب الأمريكي بأهمية الوجود العسكري الأمريكي في بلاد الرافدين وقال أن القوات الأمريكية أقوي قوة أوجدت في العالم لتحرير البشر. مرة جديدة عاد بوش ليلعب دور مبشر الديمقراطية. حسب قراءة المحافظين في واشنطن لن تحصل الولاياتالمتحدة علي الأمن دون تحقق السلام في الشرق الأوسط ولن يتحقق الاستقرار دون انتشار الديمقراطيات في المنطقة وأن الطريق إلي القدس يجب أن يمر عبر بغداد. مع استلام دبليو بوش منصبه في البيت الأبيض عام 2000 جاء المحافظون الذين استطاعوا في فترة قصيرة الحصول علي نفوذ واسع خاصة وأن الرئيس الأمريكي يعبر تماما عن أفكارهم. ففي يناير ثاني عام 2000 عندما أدي اليمين الدستورية قال في خطابه: أن سياسة الولاياتالمتحدة تقوم علي البحث عن القوي والمؤسسات الديمقراطية في كل دولة وكل ثقافة ودعمها علي أن يكون الهدف النهائي وضع نهاية للحكام المستبدين. لكن عندما بدأت مغامرة العراق توقع كثيرون فشلها. إذ لم يستقبل الشعب العراقي جنود الولاياتالمتحدة كمحررين بالورود والأرز، بل يواجهون حتي اليوم مقاومة شرسة أدت إلي مقتل أكثر من 3600 جندي أمريكي وعشرات الآلاف من العراقيين ونشأ نتيجة التطور جدال حول حرب العراق. الديمقراطيون الذين يأملون أن يكون خليفة دبليو بوش من صفوفهم، يأملون بأن تساعد حرب العراق التي لم تعد تلقي تأييد غالبية الأمريكيين، بالعودة إلي البيت الأبيض. مشكلات دبليو بوش والجمهوريين لم تنته بعد. في التوقيت المناسب لذكري مرور ست سنوات علي هجمات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 من المنتظر أن ينفجر جدال جديد حول سياسات المحافظين في واشنطن. وقد تم اختيار هذا التاريخ بعناية ليقدم فيه الجنرال ديفيد بترايوس القائد العام للجيش الأمريكي في العراق، تقريره حول نتائج الحرب. لكن في هذا اليوم أيضا، سوف يجري نشر كتاب في الولاياتالمتحدة وفي ألمانيا أيضا من المنتظر أن يحدث ضجة كبيرة يحمل عنوان(اللوبي الإسرائيلي) ويكشف عن دور هذا اللوبي في التأثير علي السياسة الخارجية الأمريكية في عهد دبليو بوش. يحاول مؤلفا الكتاب تقديم أدلة علي أن مجموعة من المثقفين اليهود وأعضاء الإدارة الأمريكية استطاعوا جر الولاياتالمتحدة إلي حرب العراق لأن هذا يخدم مصالح إسرائيل بالدرجة الأولي، التي يشعرون بالولاء تجاهها أكثر من ولائهم للولايات المتحدة. هذه التهمة ليست جديدة. ذلك أن نظرة سريعة علي أسماء بعض أعضاء اللوبي يؤكد صحة التهمة. ذلك أن بعض المسئولين مثل باول ولفوفيتز النائب السابق لوزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد، ووكيل الوزارة دوجلاس فيت وخبير الدفاع ريتشارد بيرلي الذي عمل أيضا في إدارة رونالد ريجان، إضافة إلي عشرين من المتشددين في واشنطن، لا ينتمون لهذا اللوبي فحسب بل فعلوا كل ما بوسعهم لتشن الولاياتالمتحدة حملتها العسكرية علي العراق. لا يريد المؤلفان أكثر من وضع النقاط علي الحروف. جون ميرسهايمر خبير السياسة في جامعة شيكاجو وستيفان والت البروفسور في جامعة هارفارد التي تتمتع بشهرة عالمية، يرغبان من خلال الكتاب القول أن اللوبي الإسرائيلي في واشنطن وكذلك المسيحيين المتطرفين، استطاعوا التأثير علي السياسة الخارجية الأمريكية وأن بعض القرارات السياسية التي وضعوها وتخدم مصالح إسرائيل لكنها تلحق أشد خطر بالأمن القومي لأمريكا. ويستنتج المؤلفان أن لوبي إسرائيل أثر بشكل كبير علي سياسات واشنطن واستطاع أن يحدد معالمها ويرسم خطوطها العريضة وأكثر من ذلك أن هذا اللوبي استطاع أن يقنع الأمريكيين بأن مصالح إسرائيل مطابقة تماما لمصالح أمريكا. وحين قدم المؤلفان نتيجةبحوثهما في مدينة لندن في العام الماضي بصيغة موجزة، قامت ثائرة ممثلي الجماعات اليهودية في الولاياتالمتحدة التي سارعت لاتهام المؤلفين بمعاداة السامية والعنصرية. وجرت مناقشات صاخبة عبر وسائل الإعلام وفي الجامعات. إلا أن مجلة Foreign Affairs المعتبرة رأت أنه من الممكن جدا أن يكون المؤلفان علي حق وأن السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط خضعت إلي تأثيرات. منذ الآن يتعرض المؤلفان إلي مقاطعة من كل صوب. بعد أن وجهت جامعة نيويورك ومجلس شيكاجو للشئون الدولية دعوة للمؤلفين لطرح أفكارهما ومناقشتها، تم التراجع عن الدعوتين. وتتجنب جمعيات السياسة الدولية والجامعات دعوتهما خوفا من تعرضها للعقاب وشطب أموال التمويل عن مؤسساتها التي تحتاجها لمواصلة عملها. وقد دفعت المقاطعة المؤلفي0ن إلي الإشارة لصعوبة قيام مناقشة علنية لأن نفس القوي التي يفضح الكتاب دورها تعتبر أن الهجوم عليها هو هجوم علي إسرائيل، تعمل في إسكات أصوات الناقدين. لكن لا يشعر المؤلفان أنه عملهما سوف يذهب هدرا. إذ يتفق الكثير من المراقبين مع ما جاء في الكتاب خاصة وأن الإطاحة بنظام صدام حسين عاد بالنفع علي الوضع الاستراتيجي لإسرائيل في نفس الوقت ساءت سمعة الولاياتالمتحدة في العالمين العربي والإسلامي بصورة خاصة حيث تواجه فيها عزلة بسبب دعمها غير المشروط لإسرائيل. كما توصل المؤلفان إلي حقيقة أن صدام حسين لم يشكل أي تهديد للولايات المتحدة وهو ما اعترف به أعضاء في إدارة دبليو بوش وراء أبواب مغلقة، لكنه كان يشكل خطرا علي أمن إسرائيل. ولا يزال لوبي إسرائيل ينشط في التأثير علي الإدارة الضعيفة في واشنطن. فقد صنع اللوبي قرار تزويد واشنطن دول شرق أوسطية بالسلاح لبناء جبهة معارضة لإيران. ومع قرب ذكري هجمات الحادي عشر من سبتمبر يستنتج المؤلفان أن هذه الهجمات وقعت بسبب تحيز السياسة الأمريكية لإسرائيل ويكتبان بوضوح أن النفوذ الكبير للوبي إسرائيل علي السياسة الأمريكية زاد خطر تعرض الولاياتالمتحدة لاعتداءات إرهابية لأنها كما يوضح الكاتبان منحازة تماما لإسرائيل. ويخشي اللوبي اليهودي علي الأكثر أن يبدأ الرأي العام الأمريكي بعد قراءة الكتاب التفكير بمسئولية إسرائيل عن الضرر الكبير الذي لحق بأمن الولاياتالمتحدة. لذلك قرر اليهود محاربة الكتاب واتهام من ينسب كلمة منه بمعاداة السامية وهو السلاح التقليدي لليهود.