جاء رحيل رجل أثيوبيا القوى ميلس زيناوى فى وقت بالغ الحساسية فى علاقات أثيوبيا الداخلية والخارجية , بعد أن هيأ لها مكانة كبيرة فى التأثير على الأحداث داخل القارة الأفريقية وخارجها منذ أن قاد البلاد بعد إنهاء النظام الشيوعى هناك والإطاحة بنظام منجستو هيلاماريام عام 1991. ورغم اختفاء زيناوى عن الحياة العامة منذ فترة ليست بالقصيرة مع توارد أنباء عن إصابته بمرض شديد الخطورة , إلا أن إعلان وفاته , أعاد إلى الواجهة الحديث عن مستقبل العلاقات الأثيوبية مع دول القارة , خاصة مصر بعد أن نجحت الدبلوماسية الشعبية فى تحقيق تقارب إيجابى فى مسار العلاقات التى شهدت سلسلة من الأزمات بعد محاولة الاغتيال الفاشلة التى تعرض لها الرئيس السابق حسنى مبارك . وفيما تتعدد الإشكاليات المطروحة على الساحة الأثيوبية الداخلية ذاتها بشأن خلافة زيناوى خاصة صلاحية نائبه هايلي ماريام ديساليجن كونه من الجنوب بينما الحزب الأكثر نفوذا في البلاد هو الجبهة الشعبية لتحرير (تيجراي) , مما يجعله غير ملائم تماما للزعامة لأن سكان (تيجراي) لا يرغبون بالتفريط بها. كما يطرح رحيل زيناوى إشكالية تراجع الدور الإثيوبي بالمنطقة , وهو ما يعنى إضمحلال الاهتمام بقضية مياه النيل واتفاقية عنتيبي , إلا أنه مع هذا الوضع الجديد ثمة فرصة الوصول إلى مواقف تفاوضية جديدة بشأن مياه النيل واتفاقية عنتيبي خاصة أن أثيوبيا كان تضغط على دول الحوض للتوقيع على الاتفاقية. ولعل نظرة سريعة على تاريخ زيناوى يمكنها أن تؤشر إلى تاريخ الرجل داخليا وخارجيا وتجعل من أمر خلافته محفوفا بالمخاطر على كافة الأصعدة , فيما يؤشر رد الفعل الرسمى المصرى بإرسال وفد رفيع المستوى للمشاركة فى العزاء أن هناك خطوطا باتت مفتوحة لتحسين العلاقات المصرية الأثيوبية بشكل كبير والدفع بها لصالح البلدين. فقد ولد زيناوي عام 1955 لعائلة من الطبقة المتوسطة في مدينة (أداوا) في المرتفعات الشمالية لإثيوبيا , وقد ترك دراسته الجامعية للانضمام إلى المتمردين على الحكم الشيوعي في بلاده . وحين أطلق منجستو هيلا ماريام رئيس المجلس العسكري الشيوعي الذي حكم البلاد منذ عام 1974 حتى 1987 حملة تطهير عرفت بحملة (الرعب الأحمر) عام 1977 تخلى زيناوى عن دراسته الجامعية في كلية الطب وبدأ محاربة النظام من الأحراش. وبرز زيناوى في جبهة تحرير شعب (تيجراي) التي ساعد على تأسيسها عندما كان عمره 20 عاما والتي تحالفت مع جماعات أخرى لتشكيل الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الإثيوبية , حيث دخلت الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الإثيوبية أديس أبابا عام 1991 مما أثار اندهاش السكان المحليين. فيما قاد البلاد أولا باعتباره رئيسا في فترة انتقالية ثم لاحقا رئيسا للوزراء بعد انتخابات جرت عام 1995 ولم يكن بها منافسة تذكر , حيث أعلن قيام جمهورية أثيوبيا الاتحادية الديمقراطية وفاز في انتخابات عامي 2005 و2010. وكان زيناوى أصغر زعماء أفريقيا عندما نجح فى الإطاحة بالنظام الشيوعي , كما كان له دور محوري في الأمن بالمنطقة وبالقارة الأفريقية حيث تمتلك أثيوبيا أحد أكبر جيوش القارة. وفي الداخل , سعت الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الإثيوبية إلى انتشال أثيوبيا من الفقر ووعدت بتحقيق نمو وبتحسين حياة المزارعين..وطبقت الجبهة نظاما اتحاديا عرقيا فتحت فيه برلمانات الأقاليم ومنحت الجماعات العرقية الرئيسية فرصة حكم المناطق التي تمثل أغلبية فيها. وخلال قيادة زيناوى عكفت أثيوبيا أيضا على مشاريع ضخمة للطاقة والبنية الأساسية كما زادت أعداد المستشفيات والمدارس في أنحاء البلاد لعشرة أمثالها , كما أسهم زيناوى فى توثيق العلاقات التجارية مع الهند وتركيا وكذلك مع الصين التي دفعت تكلفة المقر الجديد الضخم للاتحاد الافريقي والتي بلغت 200 مليون دولار. وواجه زيناوى بعض التحديات والمعارضة خاصة بعد انفصال أريتريا واتهامه بالتهاون في هذا الموضوع , وخاصة بعد اندلاع الحرب الحدودية التي اعقبت الانفصال, والتي انتصرت فيها أثيوبيا ولكن بعد أن تكبدت ثمنا فادحا , لكن زيناوي استطاع تحجيم معارضيه داخل الحزب وخرج منتصرا. وحقق زيناوى فى أثيوبيا وضعا اقتصاديا مريح بأساليب خاصة يجب أن يتم طرحها في مصر على مستوي قومي لمحاوله إدراكها وتطبيقها على الصعيدين الرسمي والشعبي. ورغم أن اسم زيناوى ارتبط فى ذاكرة المصريين بمنازعة مصر في حصتها التاريخية بمياه النيل وعدم اعترافه باتفاقية نهر النيل الموقعة عام 1959 التى تحدد حصص كل دولة من دول حوض النيل في مياه النهر , إلا أن قيام الثورة المصرية فى 25 يناير 2011 أعاد بعض الدفء إلى العلاقات بين البلدين. واستطاع زيناوى أن يؤثر على دول حوض النيل , وقام بإقناع بوروندي وأوغندا وكينيا وتنزانيا ورواندا بتوقيع الاتفاقية الإطارية الجديدة لتقاسم مياه النيل عام 2011 الأمر الذي يهدد أمن مصر المائي بشكل كبير إلا أن جهود حكومات الثورة المتعاقبة وزوال نظام مبارك أدى إلى نشوء نهج جديد فى تلك العلاقات قائم على المصالح المشتركة وإحترام التاريخ الريادى المصرى فى القارة السمراء. وقد تبلورت ملامح الموقف الإثيوبي الإيجابي تجاه مصر في تجميد التصديق على اتفاقية عنتيبي بين دول منابع نهر النيل, وتجميد إنشاء سد الألفية لحين استكمال هياكل الدولة المصرية بعد الثورة, والأهم هو بداية تعاون مصري إثيوبي على المستوى الفني في مسألة السدود. ويبدو أن هذا التطور الإيجابي في الموقف الإثيوبي تجاه مصر هو مجرد خطوة صغيرة على طريق طويل يتطلب الكثير من العمل والجهد من الجانب المصري حتي يمكن إعادة تأسيس العلاقات المصرية الأثيوبية على نحو يضمن عناصر الاستقرار والاستمرار, وعلى قاعدة أن تكون المنافع للجميع.