الترهل الإداري والاجتماعي يعني التكاسل, والتخاذل, والركون إلي الحجج والذرائع الفارغة التي تبرر عدم الحركة والإنجاز, فضلا عن هندستها واختراعها, وتعليق كل شيء علي شماعة شروط مستحيلة, أو صعبة, أو بعيدة المنال, والانخراط في معزوفة هائلة تتغني بإنجاز هنا أو هناك, والمطالبة بأن يشارك كل من يقطن الوطن, أو يسكن ربوعه, أو ينتمي إليه في الإنشاد, وإلا عد ذلك لونا من ألوان الخروج علي الخط الثوري في مرحلة من المراحل, أو مجافاة الارتباط الوطني في مرحلة أخري. وهكذا نحن بإزاء عملية خلط واسعة النطاق للدلالات والمعاني, والأفكار القصد منها سحب غطاء أخلاقي علي فقه وثقافة الترهل الإداري والاجتماعي وهي- بطبيعتها تجسيد لموقف غير أخلاقي, لا بل وترويع أي قائم بالقراءة النقدية لسلوك الإدارة ومنهجها وأدائها, أو أعراف المجتمع وطرائقه وما وقر في أذهان أفراده من أفكار عبروا عنها بمروحة واسعة من السلوكيات, وإلا وجد ذلك الناقد نفسه قابعا في مربع إدانة موسوما موصوما بالخروج علي الخط الثوري, او ضعف و هزال وربما انعدام الارتباط الوطني. الترهل الاداري والاجتماعي يمكن المغالطة بشأنه والتستر والمداراة ولف لفة الأمور علي نحو أو آخر حين يكون الأمر ذا صلة بكوم من الملفات الجدلية التي تتباين أو تتقاطع فيها وجهات النظر والرؤي والمواقف. ولكنني- اليوم- بصدد الحديث عن فكرة وقضية لا تنفع فيها النسبية, ولا تحتمل اجتهادات معقدة من أجل صناعة أو صياغة( نظرية) تفضي بنا إلي القبول بمنطق عدم الجدوي أو عدم الإمكان. أنا- بكل بساطة- أسطر القادم من كلمات عن ملف( النظافة في مصر). ثم إنني- بكل بساطة كذلك- لا أحمل في ذلك الملف علي الإدارة وحدها, وإنما علي المجتمع كذلك الذي يبدو أن وشيجة قوية جدا أصبحت تشده إلي عشق الترهل, وانعدام الهمة وإلي ما لا يجب الاستسلام له, والإلقاء بتبعة أي شيء علي الحكومة, ثم الاندماج في ترديد نصوص التأزم المعتمة العنكبوتية التي يلقنها له كتبة جرائد آخر الزمان, ومقدمو برامج فضائيات آخر الليل, والتي تتحدث عن مؤسسات الوطن وكأنها تنتمي إلي بلد آخر, وان الاحتراب معها بالحق وبالباطل هو بمثابة وثيقة إعفاء من الخدمة الوطنية, تبرر عدم أداء كل واحد فينا لواجبه أو ابتعاده جفلا عما يربطه بمواطن زميل آخر من مصلحة مشتركة تفترض بل وتوجب عملهما المشترك. كل واحد لوحده!. كل واحد دولة مستقلة لها علم وجيش, وهو يتسلح في موقفه المتسم بالتمنع والإحجام بترسانة من الأسباب التي تجعل من ترهله وانعزاله عملا منطقيا! الفقراء يقولون: فليذهب الأغنياء إلي الجحيم, وليقوموا- هم بالنظافة, إنها بلدهم لا شريك لهم! والأغنياء يرددون, هل ننفق أموالنا التي راكمناها من أجل تنظيف مخلفات أولئك الفقراء المقرفين وإسعادهم, والذين يتيه كل واحد منهم بحمله لقب( محدود الدخل), ويبلطج علي الحكومة وعلينا في كل لحظة مطالبا أن نفتدي الاستقرار والسلامة الاجتماعية والأمان, بتدليله وممالأته, والانحناء أمامه والانصياع لرغباته؟!! ومنظمات المجتمع المدني مشغولة في معظمها عن التعرض لمثل تلك الملفات التي تتعلق بمصالح الناس, فأولوياتها في معظمها كذلك تتحدد وفقا لأجندات المنظمات الأم والجهات المانحة وراء البحار ويقع علي قمة تلك الأولويات بالقطع الجعير في الشوارع وافتعال الأزمات حول خرم في ستارة احدي اللجان الانتخابية يؤثر علي شفافية الممارسة التصويتية!!. والأحزاب يتخندق كل منها في مواجهة الاخر, ثم تصطف المعارضة في مواجهة الحزب الحاكم, وهي تريد إخضاع ملف مثل( النظافة) لنفس أنموذج تضاغطي مع الحكومة, فما تتحرك فيه الأخيرة وتحبظه وتستميت المعارضة في مواجهته, وما تحجم عنه الحكومة تتهتك السخيفة التي سئمنا منها, وبلغ بنا الضجر مبلغا عظيما إزاء فصولها المتكررة ونصها المهلهل الكرية. ثم إن كل طرف يريد احتكار أي جهد وحده( الحكومة مستقوية في إثارة الجلبة, وادعائها عدم معرفة البيانات ومن ثم تمتعها بالإعفاء السياسي الذي يقيلها من ربط مواقفها بحقائق واقعية, ويطلق لها العنان في التحليق وراء الشعار النظري والمواقف الصوتية ما حلا لها التحليق)!. وجماعة التطرف والتخلف المحظورة التي تنساب بنعومة الحية الرفظاء في تلافيف مجتمعنا محاولة استغلال احباط بعض المعوزين او تقديم خدمات مشروطة بمقابل سياسي وتصويتي لا تضع في أولوياتها قضية كالنظافة لأن تأثيرها علي اتجاهات المجتمع التصويتي غير مؤكد كما أنها تفهم أن الوساخة مقدمة لنتيجة هي تضرر صحة المواطن وتمكن الامراض من بدنه وتوطنها حوله علي نحو يستنسخ وجودها في كل مكان, ويستولد سلالات جديدة من الميكروبات والفيروسات المسببة لها وهو ما يتيح في التحليل الاخير ادانة الحكومة حين تعجز امكاناتها عن علاج كل المواطنين, ومواجهة التحدي الصحي الذي يسببه في كثير من الحالات انهيار مستوي الوقاية وغياب ثقافتها عن تشكيل سلوك الناس او وعيهم الجماعي والاجتماعي!!. مازال المشهد حولنا مروعا ومخيفا, ومازالت النظافة قيمة بعيدة وإماما غائبا!! دجاجات رثة تعيش في حواري المناطق الفقيرة وتعبر الطريق فزعة لتنضم علي الضفة الاخري للحارة الي ديك طال انتظاره فيما وقف الي جوار الحائط طفل فقد طفولته ربما من لحظة ميلاده مرتديا بنطلون بيجامة مرصعا بالخروق, وفوقه فانلة داخلية لا لون لها يتوسطها خرق كبير عند سرة الولد وخرق آخر اصغر منه يبدو كقمر يدور في فلكه والولد بموهبة هي بالقطع مدربة سلت البنطلون بسرعة ليبول في سعادة غامرة وارتياح بليد, وهو يسلط رشاش البول علي الدجاجات والديك ليمنعهم من التواصل او المعاشرة بينما كان ولد آخر يرتدي ملابس شبيهة ويخوض مسرعا بقدميه الحافيتين في طين الشارع وبعض روب عفنة ساحبا وراءه كلبا أجرب ذاهل العينين وقد ربطه بمزق بالية من قماش ضاحكا في نشوة خشنة مفصحا عن فم أهتم وبقايا أسنان يتراوح لونها بين الأصفر الداكن والبني وسيدة تقوم بالقاء محتويات طشت نحاسي من الماء العكر والريش الاسود والاخضر في دفقة نصف دائرية أشاعت في الجو رائحة نتنة, وقط ميت يتمدد منتفخا علي قارعة الطريق, وأكوام القمامة تستقبل بحبور وتحنان بعض أسراب الذباب الرذيل ذي الطنين وجهاز تسجيل ينساب منه لحن شعبي لأغنية تقول: يا دنيا عيب اختشي! ولكن الدنيا لا تستحيي كما لا يخجل المسئولون عن نظافة تلك الأحياء أو من يسكنونها فحتي النظافة الشخصية ملابس وأبدان لم تعد موضوعا يحتفل, به علي حين تبدو حبال الغسيل علي الشرفات خالية وكأن نظافة الملابس قد تراجعت كأولوية صحية واجتماعية في غير نظام الي ابعد بعيد. وفي أحياء الأغنياء والمدن الجديدة تسود ثقافة اللمعان والنظافة داخل القصور والفيلات فيما تعتبر الشوارع المحيطة أمرا يخرج عن نطاق اختصاص السكان الذين ربما يكتفون بإظهار قدر ملائم من التبرم ضد تلك الحكومة التي تعجز إمكانياتها عن تنظيف محيط سكناهم علي نحو يرضيهم وأنها تصرف الضرائب التي يدفعونها علي رعاية ودلع الفقراء فيما يملأ اولئك الفراغ المساحي بفضلاتهم وقاذوراتهم فيما كلب يوركشير مدلل يوشك علي اعتلاء المقعد الخلفي لسيارة صاحبه, مادا بصره بقرف الي كلب بلدي يعبث في محتويات كيس زبالة في الشارع المجاور. وفي ملف النظافة التي اراها قضية قومية من الطراز الاول يعين لي تسجيل النقاط التالية: * ان التذرع بالامكانيات من اجل رفع القمامة ونظافة المدن والقري هو امر يدخل في نطاق حجة البليد لأن النظافة قضية تحتاج الي ارادة سياسية وادارية المجتمع والحكومة في مصر كأنهما عاجزان عن ادراك احد مكامن القوة التي يمكن الاعتماد عليها في ذلك السياق وهي القوة البشرية والعمالة اليدوية, نحن نريد ان ننظف البلد ولا يجب أن ننتظر معدات معقدة او وسائل حديثة, فإذا كنا لا نطيق شراءها فلنعتمد الوسائل اليدوية وعلي نطاق واسع جدا كما فعلت الصين الشعبية. * اخطر ما في الموضوع هو سيادة فكر التعايش مع الوساخة والائتناس بها الذي يجعل الناس في مصر الآن غير مستهولين لمظاهر انهيار النظافة حولهم وهو الذي يطرح من جديد دور التعليم ومؤسسات التنشئة في هذا البلد, والتي ينبغي ان تعود الي تعليم الناس فضيلة النظافة كما كنا نقرأ علي كراساتنا زمان( النظافة من الايمان) ونريد ان تبذل تلك المؤسسات جهدا في نشر فكرة اننا قد نكون شعبا فقيرا ولكن مهذب ونظيف في ذلك الاطار وحتي يحدث التفاف الناس حول فكرة النظافة فإن العدالة هي الضامن, والتمييز في نظافة الأحياء والمدن لصالح القادرين يؤدي الي مخاصمة الناس لأي مجهود يطلب منهم أو تطنطن به اجهزة الادارة. ثم أن الدعوة للنظافة حتي النظافة الشخصية( استحماما وحلاقة للذقون, وقصا للأظافر وغسيلا للملابس) ليست مطلبا نحرص عليه لنبدو في صورة طيبة أمام السياح ولكنه طريق لجعل المعيشة في هذا المجتمع أكثر احتمالا, والهبوط ولو قليلا بمستوي العصبية الجماعية!! وأخيرا وربما يبدو ما أطرحه الآن طريفا فإن عدم النظافة المادية يفضي الي عدم النظافة الرمزية او المعنوية, يعني شيوع القمامة والاتساخ يؤدي الي النظرة التشاؤمية للحياة بكل ما يتصل بها من خلاق انعدام المحبة او التواصل والميل الي قبول واعتناق فكر عنكبوتيات جرائد آخر الزمان او فضائيات آخر الليل. نهايته.. الحكومة لا يجب ان تحتكر جهد النظافة وتستأسد منفردة ثم لا تقوم به تحت ضغط عجز الإمكانات أو مقاومة أصحاب الثقافة المضادة للنظافة. والمعارضة ينبغي أن تفهم أن هناك ما يسمي بالمجهود القومي الذي يجب أن تتشاركه مع الحكومة في هكذا ملفات. ومعظم منظمات المجتمع المدني لابد ان تضع مصر في اعتبارها قليلا وان توجه بعض اهتمامها لهذه القضايا! والأغنياء يجب ان يدركوا انهم مطالبون بأشياء كثيرة وان مواطني البلد ليسوا ضيوفا ثقلاء عليهم ولكنهم شركاء بالمعني الحرفي للكلمة وعلي قدم المساواة أيا كانت الفوارق المالية والاجتماعية. والفقراء لابد ان يعودوا الي الاعتصام بقيم النظافة التي تعني درء غائلة الأمراض والوقاية منها, وألا تتحول معاداة النظافة الي سلوك احتجاجي او انتقامي عندهم فذلك سيزيد معاناتهم, ويضعف منطقهم ومنطقنا في المطالبة بحقوقهم!