منذ البداية كانت هناك تساؤلات حول مغزى وأسباب الإصرار على عقد قمة في بغداد، وخاصة أن العراق رشح لاستضافة القمة العربية منذ قمة سرت في عام 2010، ولم تعقد قمة عربية في عام الثورات، 2011. ورُحلت القمة التي استضافتها أخيراً بغداد وسط انقسام وحضور عربي فاتر ذي دلالات كبيرة في خضم الحراك الثوري العربي، وارتفاع سقف المطالبات من الشباب ومكونات عديدة داخل الشعوب العربية. وكانت هذه القمة هي الأكثر تكلفة والأكثر إثارة للجدل لمكانها وزمانها ورمزيتها. من كان يتوقع أن يلتئم نصف قادة العرب في قصر سابق لصدام حسين في قلب عاصمة الرشيد وسط بغداد، ويحضرها أمير دولة الكويت، ويستقبل القادة العرب الذين حضروا منشقون ومعارضون ومنفيون سابقون محكومون بالإعدام من قبل نظام صدّام! وللتذكير فإن آخر قمة استضافها العراق كانت قبل احتلال دولة الكويت واستخدمها صدام ليشن حرباً كلامية ضد الكويت والإمارات. منذ البداية ساد التشكيك حول مغزى وإمكانية نجاح أول قمة عربية تعقد في بغداد بعد اندلاع موجات التغيير الثوري في دول الحراك العربي لأسباب عديدة. وقد كانت هناك خمسة تحديات أمام قمة العرب في بغداد. الأول، المكان: الأسباب الأمنية وتصاعد أعمال العنف التي بقيت هي المانع الرئيسي لعدم إعادة فتح سفارات بعض الدول العربية. والثاني، الدور الإيراني في العراق الذي أصبح حليفاً أقرب لإيران منه للطرف العربي. والجميع يعلم ثقل ودور إيران في شتى المجالات في الشأن العراقي. ويكفي أن نعلم أبعاد ذلك الدور بالطريقة التي تم بها تنصيب رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، والاتفاق الذي عقد بين أميركا وإيران حول ذلك. والتحدي الثالث، الموقف العراقي من الثورة السورية ومما يجري في البحرين. ففي الشأن السوري، يبدو واضحاً التغير الكلي في الموقف العراقي من سوريا منذ اندلاع الثورة فيها. فبعد أن وجه المالكي اتهامات واضحة لسوريا بتصدير الإرهاب والإرهابيين والسيارات المفخخة وكرر الشكوى منها، تحول العراق إلى موقف ينحاز ويقف مع النظام السوري، وهو ربما يتماثل في ذلك مع الموقف الإيراني ويبتعد عن الموقف الخليجي خاصة، وكذلك مواقف كثير من الدول العربية وفي مقدمتها دول الحراك العربي. ثم هناك الموقف العراقي الذي ترفضه البحرين ودول مجلس التعاون الخليجي المتمثل في غياب الموضوعية في تعاطي العراق معها لأسباب جلية وواضحة، وهو موقف يقترب مرة أخرى أكثر من الموقف الإيراني تجاه البحرين. والتحدي الرابع، الطريقة التي تتعامل بها حكومة المالكي مع المكون السني في العراق، واستياء دول عربية وخاصة خليجية من ذلك. لذلك كان التمثيل المنخفض، وخاصة من دول مجلس التعاون الخليجي، باستثناء الكويت حيث حضر القمة العربية سمو أمير دولة الكويت وذلك لأسباب مرتبطة أكثر بالتاريخ المضطرب وإرث صدَّام، والغزو والاحتلال العراقي وتداعياته، وأيضاً لإرسال رسائل طمأنة حول العلاقة الثنائية بين الكويت والعراق أكثر من كونها رسائل حول القمة والدور العراقي. فكان حضور أمير الكويت مرتبطاً أكثر بمستقبل العلاقة الثنائية بين الكويت والعراق، أكثر منه بسبب الشأن العربي، والتحفظات الكويتية حول الأسباب السابقة التي أشرنا إليها. وقد عبر رئيس الوزراء القطري الشيخ حمد بن جاسم بن جبر عن سبب الحضور العربي وخاصة الخليجي المتدني في القمة التي لم يحضرها سوى تسعة رؤساء دول عربية، بالإضافة للرئيس العراقي جلال طالباني، من أصل اثنين وعشرين رئيس دولة عربية، مؤكداً أنه يهدف لإرسال رسالة احتجاج للنظام العراقي على تهميش المكون السني في العراق. والسبب أو التحدي الخامس، يمكن التعبير عنه بسؤال: هل كان عقد القمة العربية، وهي الثالثة في العراق منذ عام 1978، سينجح في انتزاعه من الدوران في الفلك والمشروع الإيراني في المنطقة، ومن ثم إعادة العراق، الدولة المركزية العربية إلى الحضن العربي بعد طول غياب وتهميش، كخطوة استراتيجية تساهم في إطلاق وتمكين مشروع عربي كبير يقف في وجه المشاريع الدولية والإقليمية الأخرى التي تعمل عليها بعض الدول غير العربية؟ والراهن أن نجاح القمة العربية بدا واضحاً منذ البداية أنه يعتمد على القدرة على التعامل مع تلك التحديات المعقدة، ولم يكن من الممكن تحقيق ذلك في ظل الظروف العراقية والإقليمية والدولية الصعبة. بل إن الحاضر الغائب في القمة العربية كان النظام العربي نفسه الذي عجز عن التعامل بشكل فعال مع تلك التحديات، وخاصة مع مأزق الثورة السورية. ولهذا نقلت القمة العربية الشأن السوري إلى مجلس الأمن، ودعت إلى تداول سلمي للسلطة في سوريا، وأكدت رفضها التدخل الخارجي لحل الأزمة، ورفض تسلح الأطراف يشكل أفضل الممكن للجميع، وإن كان يحول دون حلحلة المعضلة السورية. ولم يطلب أي من الزعماء العرب، الذين حضر 10 منهم القمة، من الأسد أن يتنحى باستثناء الرئيس التونسي المؤقت المنصف المرزوقي. ودعمت القمة خطة المبعوث الدولي- العربي كوفي عنان التي يؤكد الرئيس السوري قبولها والجميع ينتظر التطبيق! وقد رد السوريون بتهكم على الموقف العربي والدولي في جمعة "خذلنا المسلمون والعرب"! وكما كان متوقعاً رحبت القمة العربية ب"التطورات الديمقراطية في دول الربيع العربي"، وشددت على ضرورة " اقتلاع جذور الإرهاب وتجفيف منابعه الفكرية والمالية ونبذ التطرف والابتعاد عن الفتاوى المحرضة على الفتنة. ودعم الإصلاحات السياسية والاقتصادية في الدول العربية". فهل حقاً توقع العرب من قمة بغداد تحقيق الاختراقات المطلوبة في تلك الملفات الشائكة والمعقدة، وهي قمة لم يحضرها سوى 40 في المئة من القادة العرب؟ هل حقاً توقع العرب أن ينزعوا العراق من الحضن والفلك الإيراني ويعيدوه للحضن العربي بعد طول غياب وتراجع الحضور والدور العربي في العراق لأكثر من عقدين؟ هل حقاً توقع العرب أن تنجح القمة في عاصمة هي أقرب للنظام السوري من الشعب السوري، في أن توقف مأساة وشلالات الدم السوري؟ والأهم من ذلك كله، لماذا توقعنا أصلاً منذ البداية نجاحات واختراقات لقمة بغداد، وجميعنا يعلم سجل وتواضع دور منظمة الجامعة العربية، وما تعانيه من ترهل وعجز وخواء وبهرجة! ومع ذلك فهي قمة أفصل الممكن... كل حقق ما يريد... وخاصة العراق الذي نجح في عقد قمة حضرها "جميع العرب" كما فاخر وزير الخارجية هوشيار زيباري! ومن المفارقات أنها المرة الأولى التي يرأس فيها رئيس غير عربي القمة العربية لمدة عام. والجميع أرسل رسائل سواء بحضوره أو بغيابه! طويت أقصر قمة عربيه وأكثرها جدلًا، وأقلها تمثيلاً وأكثرها تكلفة ورمزية في عصر الاستثناء والحراك العربي وانتفاضة الإنسان العربي... رسائل أرسلت... ورسائل وصلت. وتحولت القمة إلى صندوق بريد عربي وإقليمي ودولي لمن يعنيهم الأمر، وكل قمة وأنتم بخير! نقلا عن صحيفة الاتحاد