"المؤرخون الجدد" هم مجموعة من المؤرخين الإسرائيليين الذين قدّموا قراءة علمية، لما حدث في السنوات التي رافقت قيام "دولة إسرائيل"، مختلفةً عن الرواية الرسمية الإسرائيلية. وقد ظهروا في عام 1988، بعد كشف إسرائيل عن أرشيفها الوطني بموجب القوانين، فتوفرت أمام جيل جديد من الباحثين الإسرائيليين إمكانية الإطلاع على وثائق رسمية قديمة خاصة حول مسألة تهجير وطرد الفلسطينيين في عام 1948، الأمر الذي أدى إلى ظهور مفاهيم جديدة على رأسها مفهوم "ما بعد الصهيونية"، حيث طالب كثيرون بإعادة فحص المصطلحات الأساسية للمجتمع الإسرائيلي. ومن بين هؤلاء المطالبين ظهر، مثلاً، الأديب الإسرائيلي "يورام كانيوك" الذي أصر على شطب صفة "يهودي" من سجله في وزارة الداخلية وتسجيله على أنه "لا يتبع ديناً"، وأنه لا يريد أن يكون جزءاً من إسرائيل التي وصفها بأنها "إيران يهودية". وتفسر "هآرتس" طلب "كانيوك" بالقول: "الطلب غير المألوف لكانيوك الذي يعتبر أحد أهم الأدباء الإسرائيليين، يعبر عن استيائه المتواصل من الشكل الذي تكفر الديانة اليهودية من خلاله بقيم وثيقة الاستقلال الإسرائيلية". غير أن الأبرز اليوم ضمن هؤلاء المعترضين الناقدين، والذي بات يغرد بعيداً عن سرب المثقفين الإسرائيليين، هو الشاعر "نتان زاخ" –الألماني الأصل- الذي فتح النار على سياسات دولته، وقال إنه هرب من "دولة نازية ليجد نفسه مواطناً في دولة فاشية". ولا يرى "زاخ" أن الصهيونية هي منبع التطرف الأول، ويقول في مقابلة صحفية نشرت مؤخراً: "انحدار إسرائيل نحو الفاشية يعود لقدوم المهاجرين من الاتحاد السوفييتي سابقاً، إضافة إلى الشرقيين والقوميين اليهود الكارهين للعرب، الذين يبثون الرعب في نفوس الناس... إن عملية عبرنة تسميات الأمكنة تندرج ضمن عمليات التهويد، وتحمل فكرة الترحيل مستقبلاً لكل من هو ليس يهودياً". وعن رأيه في تسوية الدولة الواحدة، يقول زاخ: "إنها غير ممكنة إلا حينما يكون الأسد والقطة شقيقين"! وبخلاف موقف الرأي العام الإسرائيلي يؤكد زاخ أن "غزة ما زالت محتلة لأنها مغلقة من جميع الجهات من قبل إسرائيل" بل يبدي تفهمه لإطلاق الصواريخ من القطاع نحو إسرائيل باعتبار أن ذلك "جزءاً من الحرب والمقاومة". "زاخ" الحاصل على "جائزة إسرائيل" في الأدب، والذي ترجمت أعماله إلى عدة لغات، يرى أن ثمة "مصيبة تلاحق الأخرى في إسرائيل: مصيبة تبدأ من إيران، ثم الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ثم انتصار الإسلاميين في البلاد العربية، ولا تنتهي في داخل إسرائيل بشوارع مشتعلة بالأزمات الاجتماعية... إن هذا الشيء الذي يدعى إسرائيل، شعب تجمع من دول مختلفة، أصحاب لغات مختلفة، وثقافات وقيم وتقاليد مختلفة، لا يمكن توحيدها تحت ضغط عدو خارجي، أكان ذلك أحمدي نجاد أو العالم العربي الذاهب باتجاه الإسلام. لا أعتقد أن إسرائيل ستصمد طويلاً، فالشعب منقسم إلى مجموعات ملوثة بالحقد والكراهية، والمجتمع يتحطم إلى شظايا، يطلب منها التوحد أمام عدو خارجي، لكن كيف يمكن توحيد الشظايا؟!". إسرائيل تفتتت إلى شظايا تسودها الكراهية. وتشرح التقارير الصادرة في إسرائيل حقيقة ما يقوله "زاخ" والآخرون. فبحسب تقرير الرصد السياسي الخامس عشر الذي صدر عن مدى الكرمل (المركز العربي للدراسات الاجتماعية التطبيقية)، والمتمحور حول ظاهرة اتساع نزعة تقييد الحريات السياسية وحرية التعبير عن الرأي والمعتقدات في إسرائيل، فإن "هناك تحولاً كبيراً في مضامين هذه النزعات وأهدافها. فبعد أن كانت معظم القيود موجهة لتقليص هامش العمل السياسي للأحزاب العربية والمواطنين العرب، نجد أن الوجهة في الأشهر الأخيرة تتجه صوب توسيع دائرة تقييد الحريات وهامش العمل السياسي، كي تشمل كافة المواقف السياسية والآراء التي لا تنضوي تحت الإجماع الإسرائيلي المهيمن، بواسطة سن قوانين في الكنيست، أي قوننة كم الأفواه لكافة المواقف التي لا تنسجم تماماً مع الإجماع الصهيوني اليميني المحافظ". ويرى التقرير أن من بين تلك المحاولات: "إسكات الأصوات الداعية إلى فرض عقوبات سياسية على إسرائيل، ودعوات مقاطعة الدولة الإسرائيلية، أو مقاطعة المستوطنات في الضفة الغربية ومنتجاتها، والمقاطعة الثقافية والأكاديمية بواسطة سن قانون منع المساس بدولة إسرائيل بواسطة المقاطعة لعام 2011". كذلك، يخلص التقرير، إلى أن ثمة محاولات تصدر من جمعيات ومؤسسات إسرائيلية غير حكومية لإسكات ما تبقى من أصوات ديمقراطية يسارية تحترم حقوق الإنسان عن طريق اقتراح إقامة لجان تحقيق مع الجمعيات الأهلية اليسارية الإسرائيلية. يضاف إلى هذا، التأثيرات اليمينية المتطرفة (خاصة من قبل المستوطنين) على الجهاز القضائي، لاسيما المحكمة العليا، بهدف تسييس عملية تعيين القضاة وإخضاعهم لمعايير سياسية واختبار مواقف ومبادئ في لجنة القانون والدستور في البرلمان الإسرائيلي. ويعبر "يارون لندن" عن كل ما سبق في مقال حمل عنوان "الرجوع إلى العصور الوسطى"، تحدث فيه عن تحقيق إسرائيل "إنجازاتها الكبرى" حينما ابتعد مثقفوها عن تراثهم وتمسكوا بالتراث التنويري الغربي، معتبراً أن الرجوع إلى التراث والإيمان اليهوديين رجوعاً عن الاستنارة إلى التخلف، وأن تحطيم الماضي فقط هو الذي مكّن اليهود من التميز، حيث كتب يقول: "رغم أن أكثرنا خاضعون لسلطة السخافة فإننا لا نزال نعتقد أنفسنا شعباً مختاراً. حتى أن من يشكون بأن الله اختارنا لقيادة العالم ولنَهَبَه الأخلاقَ الحسنةَ، يتمسكون بفكرة عن حمولة ثقافية موروثة ومتميزة وهبتنا إنجازات فكرية لا مثيل لها، كالتمثيل غير التناسبي في قائمة الفائزين بجائزة نوبل. والحقيقة هي أنه، بين مظاهر الاعتقاد بالتميز وبين العصر الحديث، أسهمت الدراسات اليهودية التقليدية بالقليل جداً في الحكمة الإنسانية. فكل اليهود تقريباً الذين فازوا بجائزة نوبل ابتعدوا عن الثقافة اليهودية وكان أغلبهم وما يزالون ملحدين تماماً". الفاشية في إسرائيل تسكن كل زواياها، وعلى حد تعبير "دوف لاوتمان"، أحد أكبر المنتجين الصناعيين الإسرائيليين وأكثرهم تقديراً في الوسط الإسرائيلي، كما جاء في مجلة "جلوبس السنوية لعام 2011"، فإنه "إذا استمر الوضع هكذا... فخلال 30 سنة لن يكون هنالك وجود لإسرائيل". نقلا عن جريدة الاتحاد الاماراتية