لم يكن أكثر من ثلثي دول العالم في سبعينيات القرن العشرين تعتمد النظام الديمقراطي في حكمها، أما من ينظر إلى خريطة العالم اليوم فسيكتشف أن هذه النسبة شهدت هبوطاً كبيراً، فأقل من ثلث مجموع دول العالم غير ديمقراطية. وهذا يؤكد أن العالم أصبح ينظر لهذا النوع من نظام الحكم على أنه الأفضل، لكن في الوقت نفسه نلاحظ أن هناك تبايناً واضحاً في شكل الديمقراطية بين بلد وآخر. ونحن نتكلم عن ديمقراطية الخليج لا يمكن أن نقفز على تجربة الكويت الديمقراطية، فكلما تكلمنا أو كتبنا عن الديمقراطية يأتي من يسألنا مستنكراً: وهل تريدوننا أن نصبح مثل الكويت؟! هؤلاء وإن كانوا ممن لا يرون غير الجانب السلبي من تلك التجربة إلا أنهم يعتبرون جزءاً من المجتمع الخليجي الذي يؤثر في القرار عند التفكير في التوجه إلى الخيار الديمقراطي. وأعتقد أنه لو كان شكل التجربة الكويتية مختلفاً عما هو عليه اليوم لساعد كثيراً دول الخليج على الاتجاه إلى هذا الخيار وجعل مهمة من يطالبون بالديمقراطية أسهل وأقصر. وفي أغلب دول الخليج عاش الناس طوال حياتهم في حوار مفتوح بين القيادة والشعب، بين الحاكم والمحكوم، وكانت دائماً مجالس الشيوخ والأمراء مفتوحة لكل أبناء الشعب وأطيافه وكان الحاكم يستمع إلى الجميع، مهما كان رأيهم مخالفاً أو نقدهم حاداً، فقد كان الحاكم ولا يزال يستمع إلى مواطنيه بحكمة وصبر، وكانت أمور كثيرة تتغير بمجرد أن تصل إلى الحاكم وتعود إلى نصابها. واليوم مع موجات التغيير المتكررة والمتلاحقة أصبحت دول الخليج تشعر بحاجة إلى أن تطور من تركيبتها السياسية. وفي جزئية المطالبة بالديمقراطية في دول الخليج العربي هناك حاجة للتقدم خطوة نحو الإمام، فكل ما حدث خلال السنوات الماضية هو مجرد المطالبة بالديمقراطية دون تقديم أي تصور أو فكرة لشكل وتفاصيل الديمقراطية المطلوبة، فالجميع متفقون على أن الديمقراطية لا تستورد، وأنه لا الديمقراطية الغربية ولا الديمقراطية الشرقية تناسب هذه المجتمعات، لذلك فهي بحاجة لعمل من أجل الوصول إلى ديمقراطية محلية تناسبها. وطبقاً لمؤرخ الديمقراطية في القرن التاسع عشر «أليكسس توكفيل»، فإن للنظام الديمقراطي أنواعاً عديدة، يصح لكل شعب أن يختار منها النوع الذي يتفق مع تاريخه وتقاليده. واحدة من مشكلات البلدان الخليجية أنها لم تقدم إلى اليوم صورة للديمقراطية الخلاقة التي تناسب دول ومجتمعات المنطقة، وهذا ما يفترض أن يتم العمل عليه من قبل المهتمين، وما يجب أن تعمل عليه أيضاً مراكز الأبحاث والدراسات بحيث تقدم مقترحاتها ورؤاها التي تعكس واقع وتطلعات المجتمعات والأفراد البعض يتكلم عن الديمقراطية وكأنها الخطر الداهم الذي سيقضي على التنمية التي شهدتها هذه الدول طوال العقود الماضية، والبعض الآخر ينظر إلى الديمقراطية على أساس أنها الطريق الوحيد لتحقيق أهدافه الإيديولوجية وتطلعاته السياسية ووصوله إلى كرسي الحكم... وهؤلاء شطحوا في أحلامهم وأؤلئك بالغوا في تخوفاتهم. المحايدون متوجسون من الديمقراطية ولا يفتؤون يقارنون حالهم بحال "الديمقراطيات" العربية الأخرى، وفي الوقت نفسه يرون أنهم يعيشون في مستوى من الرفاه والعيش الرغيد الذي لا يريدونه أن يتغير عليهم.. ولكل رأيه وحلمه وتخوفاته وتحفظاته، لكن للواقع ولمتطلبات المرحلة كلمتها الأخيرة في هذا الأمر. دول الخليج لا تزال في مرحلة "المحاولة" من أجل تحويل أفكار النخبة حول الديمقراطية إلى قناعات في المجتمع، يقتنع بها الأفراد ويتبنوها، وعندما تستطيع أن تجعل من أفكارها قناعات يؤمن بها المجتمع ربما تكون مسألة التحول الديمقراطي أسهل بكثير. ولضمان نجاح التحول الديمقراطي في دول الخليج العربي لابد أن تتلاقى الإرادة الشعبية بإرادة النخبة الحاكمة في هذا التحول. وبعد هذا لنتخيل ماذا سيكون عليه حال دول الخليج العربي إذا أصبحت ديمقراطيات حقيقية: برلمان فاعل وقوي وذو صلاحيات واضحة ومحددة، وصناديق اقتراع شفافة ونزيهة وحكومات تراقبها البرلمانات، أي دول متميزة تتمتع باقتصادات قوية، وموقع استراتيجي متميز وعلاقات خارجية قوية؟ كانت الديمقراطية وستبقى تمثل إشكالية في المجتمعات التقليدية التي تستورد قالب الديمقراطية السياسية وتفرضه دون أن تمارس الديمقراطية في الحياة الاجتماعية والثقافية. وهذا ما جعل النماذج العربية مجرد "ديمقراطيات شكلية" لا تتجاوز مرحلة التصويت عبر صناديق الاقتراع والمشاركة في الانتخابات. وقد حولتها بعض الأنظمة العربية إلى "لعبة" تواصل من خلالها -وبأصوات الشعب- ممارسة الاستبداد، وتستمر في تطبيق الأساليب الفاشلة في الحكم. ولا يخفى على أحد أن هذا الوضع كان من أسباب فشل بعض الأنظمة العربية واندلاع الثورات في تلك الدول التي أعلنت الديمقراطية ولم تمارسها ودعت إلى الانتخابات وزورت نتائجها! وحتى تنجح الديمقراطية وتكون عاملاً مؤثراً في سلوك المجتمع يتعين إزالة كثير من العقبات وكذلك التخفيف من التعارض بينها وبين قيم المجتمع وأخلاقياته وثوابته وحاجاته. كما يتحتم تثبيت قيم الديمقراطية في ثقافة المجتمع أولاً.. وقبل ذلك الابتعاد عن فكرة استخدام الديمقراطية لإلغاء ثوابت المجتمع وثقافته وقيمه واستبدالها بقيم غربية وغريبة عن المجتمع. كما أنه من المهم الإدراك بأن الديمقراطية لا تعني بالضرورة التحزب الإيديولوجي أو المذهبي أو الطائفي أو غيره... وهذه واحدة من تحديات تطبيق الديمقراطية في العالم العربي، فبعض من يطالبون بالديمقراطية يسعون إلى ترسيخ الفئوية بشكل أكبر! وينسى هؤلاء أن الديمقراطية كانت وستبقى عملية سياسية ونظام حكم وليست "عقيدة" يؤمن بها الناس، بل هي عملية تتأثر بعقائد المجتمعات وتقاليدها كما أنها تراعي ثوابت تلك المجتمعات. وتبقى هناك تحديات أمام التحول الديمقراطي في دول الخليج العربي، ويبقى من المهم أن يكون شكل الديمقراطية التي تستخدمها هذه الدول قادراً على تحقيق أهدافها الوطنية الكبرى، ومنها مواصلة التنمية البشرية والاقتصادية واستمرار رفاه الفرد والمجتمع، وكذلك حفظ الأمن والاستقرار والسلم الاجتماعي، وتوفير الحريات التي يحتاجها الفرد والمجتمع. وبذلك تكون المجتمعات الخليجية قد اقتربت من الديمقراطية الخلاقة. نقلا عن صحيفة الاتحاد