ليست منطقة الخليج استثناء من دعوات وانتفاضات الإصلاح والتغيير السياسي في المنطقة العربية للتخلص من النظم الاستبدادية وتقاليد الحكم الأبوي في الدول العربية، بالرغم من " شدة " المقاومة التي تبديها النظم العتيقة في مواجهة رياح التغيير التي تعصف بقواعد هذه الأنظمة، وتبدأ في خلخلة " الأسس " التي تقوم عليها . وفي سياق المواجهات الجارية بين دعوات الإصلاح ومعارضيها، فقد شهدت المملكة العربية السعودية حدثا نوعيا فارقا وله دلالاته وتأثيره علي مسار عملية الإصلاح المنشودة ، وطرق الالتفاف عليها من جانب السلطة .. حيث أصدر خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبدالعزيز " أمرا ملكيا " يقضي بتعديل بعض مواد نظام المطبوعات والنشر السعودي، بما يؤدي إلي تشديد القيود علي وسائل الإعلام، ومضاعفة الغرامات المالية، وإغلاق المطبوعات التي تهدد الاستقرار،أو تنشر ما يخالف أحكام الشريعة الإسلامية، أو تسئ إلي رجال الدين، وكان إصدار مثل هذا الأمر الملكي مدعاة لإطلاق النداءات مجددا في السعودية : متي تدق ساعة الإصلاح في المملكة؟ ومنذ أيام، تجمعت نحو عشرين سيدة سعودية أمام أحد مراكز الانتخابات البلدية، في مدينة جدة علي ساحل البحر الأحمر، للمطالبة باشراكهن في التصويت والترشح لانتخابات المجالس البلدية المزمع اجراؤها في جميع أنحاء السعودية في 22 سبتمبر القادم . ومن المعروف أن المرأة في السعودية، وفي دول خليجية أخري ، غير مسموح لها بالمشاركة في الشأن العام، أو المشاركة في الانتخابات بأي صورة من صور المشاركة، بحجة " عدم الجاهزية " . أيضا من دعوات ونداءات الإصلاح الفارقة في منطقة الخليج، مطالبة نحو عشر منظمات غير حكومية، وأكثر من 190 من مثقفي ومفكري المنطقة، في بيان أصدروه مؤخرا، لمطالبة دول مجلس التعاون الخليجي الست ، بالإفراج عن جميع المواطنين والناشطين في مجال حقوق الإنسان، والشخصيات السياسية، التي تم اعتقالها خلال التظاهرات السلمية التي شهدتها بعض دول المنطقة، خاصة في البحرين، وسلطنة عمان، والسعودية، ودولة الإمارات . مشاهد خليجية من المؤكد أن الأنظمة الوراثية في منطقة الخليج تفرض نطاقا محددا لعرض أي مطالب إصلاحية، أو إجراء أي تغييرات في صيغة الحكم القائمة، غير أن مسار الحركة السياسية في دول الخليج، يشهد علي مدي العقدين الماضيين تطورات فارقة، كان من شأنها فتح الباب للفكر الإصلاحي، وتهيئة المناخ لتيارات انفتاحية، بدأت تؤتي ثمارها في المرحلة الراهنة . وإذا كان من أهم بنود المطلب الإصلاحي هو ما يتعلق بحقوق المواطن السياسية، وحماية الحريات العامة، فإن حقوق المرأة تعد من أكثر الموضوعات تأزُما وجدلا بين جميع القوي السياسية الخليجية، حتي بين تلك القوي التي تطلق علي نفسها صفة " التيارات الليبرالية " . من هنا تبدو أهمية الحملة الجديدة التي دشنتها مجموعة من النساء السعوديات علي مواقع التواصل الاجتماعي " فيس بوك، وتويتر " تحت عنوان " ثورة النساء السعوديات " بهدف الدفاع عن قضية حقوق المرأة، والاعتراف بأهليتها كمواطنة، ومسئولة، وقادرة علي التعامل مع المجتمع بدون وصاية الرجل، في جميع شئون حياتها، وفي جميع مراحل عمرها . ومن الأفكار الرئيسية في حملة " ثورة النساء السعوديات " المطالبة بتأسيس هيئة مستقلة، تعني بشئون المرأة، بصلاحيات واسعة، لتوسيع مشاركة المرأة في الشأن العام، والسعي لمنح المرأة جميع حقوقها المشروعة . ويلاحظ اختيار مؤسسة صفحة " ثورة المرأة السعودية " والتي أيدتها 3500 عضوة لكلمة " ثورة "، وفي الصفحة علي الفيس بوك كتبن عن أنفسهن " نحن نساء سعوديات، سنسترد حقوقنا الإنسانية، التي حُرمنا منها باسم الخصوصية السعودية " . ويبدو علي هذا النحو أن آليات التواصل الاجتماعي، أصبحت من أهم أدوات " النضال السياسي السلمي " لدعم الحقوق وفرض التغييرات السياسية والاجتماعية ، ولا مناص أمام سلطات الحكم في دول الخليج من التسليم بهذا التطور النوعي في ديناميكية الحركة السياسية . ولكن، هيهات أن تسلم نظم الحكم التقليدية، وأن تسمح لهذا التغيير بأن يمضي في طريقه، فهاهو أمير منطقة الرياض، الأمير سلمان بن عبد العزيز، يطالب شباب السعودية بأن يتعاملوا مع " الانترنت " وصور الإعلام الجديد، وشبكات التواصل الاجتماعي، تعاملا يضمن معه تجنب " الاستخدام السلبي " لهذه الوسائل علي حد تعبيره، لتجنب ما يسميها " المخاطر" التي يمكن أن تترتب علي المجتمع ، وعلي الشباب، في حالة التجاوزفي استخدام هذه الوسائل (علي حسب الرؤية الرسمية ) . وكان عشرات الآلاف من الشباب السعوديين قد أيدوا دعوة علي الفيس بوك للخروج إلي الشوارع، منذ حوالي شهرين، للمطالبة بالإصلاحات السياسية، ولكن في اليوم الموعود، وبينما حضرت الصحافة العالمية لتسجيل المشهد، لم يخرج أحد لأن المدن السعودية تحولت إلي ثكنات أمنية، واتخذت السلطات اجراءات احترازية لمنع تأثر الشارع السعودي بالانتقاضات التي تعم غالبية الدول العربية، وتحديدا، بعد نجاح ثورتي تونس ومصر في إسقاط رئيسيين عربيين هما زين العابدين بن علي وحسني مبارك . ووفقا لمعلومات منظمة هيومان رايتس ووتش، المعنية بحقوق الإنسان، اعتقلت السلطات السعودية اثنين من المدونين الشيعة من المنطقة الشرقية في أواخر مارس الماضي، علاوة علي اعتقال 160 مواطنا سعوديا من الناشطين، منذ شهر فبراير الماضي . وفي نطاق هذا السياق " الحذر "، والمتحسب للتغيير ، جاء تعديل نظام المطبوعات والنشر السعودي لينص مثلا في تعديل المادة التاسعة علي " أن يلتزم كل مسئول في المطبوعة بالنقد الموضوعي والبناء الهادف إلي المصلحة العامة، والمستند إلي وقائع وشواهد صحيحة، ويحظر أن ينشر بأي وسيلة كانت أي مما يأتي : ما يخالف أحكام الشريعة الإسلامية أو الأنظمة النافذة، وما يدعو إلي الإخلال بأمن البلاد أو نظامها العام، أو ما يخدم مصالح أجنبية تتعارض مع المصلحة الوطنية . كما يحظر التعرض أو المساس بالسمعة أو الكرامة أو التجريح أو الإساءة الشخصية إلي مفتي عام المملكة أو أعضاء هيئة كبار العلماء أو رجال الدولة أو أي من موظفيها أو أي شخص من ذوي الصفة الطبيعية أو الاعتبارية الخاصة . ويحظر إثارة النعرات وبث الفرقة بين المواطنين . ويحظر تشجيع الإجرام أو الحث عليه . ويحظر ما يضر بالشأن العام في البلاد، ويحظر نشر التحقيقات أو المحاكمات دون الحصول علي إذن من الجهة المخولة نظاما " . وهكذا، شددت المملكة القيود علي وسائل الإعلام، واتسع نطاق المحظورات، وحظر توجيه أي انتقادات لموظفي الدولة أو رجال الدين، وفرض غرامات مشددة في حالة المخالفة، وإغلاق المطبوعات التي ستعتبر مهددة للاستقرار أو تُتهم بالإساءة إلي رجال الدين . وقد أثارت تعديلات نظام المطبوعات هذا جدلا حول مدي السماح بحرية الصحافة في السعودية، ورد عليها وزير الثقافة والإعلام الدكتور عبد العزيز خوجة بأن الجميع يجب أن يحترموا هذا " الأمر الملكي "، وأن التعديلات جاءت لاحترام حرية المواطن الصغير، وأكبر مسئول في البلد ( علي حد تعبيره ) . وفي السياق أيضا، بدأت المملكة مشروعا خاصا للتسجيل المرئي لجلسات المحاكم، في إطار ما يطلق عليه " بداية مشروع الترافع الإلكتروني " ضمن خطوات نص عليها مشروع الملك عبد الله لتطوير مرفق القضاء . وأكد رئيس ديوان المظالم السعودي أن التسجيل المرئي لجلسات المحاكم لايهدف إلي "مراقبة العمل القضائي، "ولكن" يؤسس لخطوات مهمة في الترافع الإلكتروني" . وعلي وجه العموم، تبدو منطقة الخليج علي أعتاب مرحلة ترقب وانتظار لمزيد من رياح التغيير، والتغيير المضاد، وليست بالضرورة كلها إيجابية . فهناك انتخابات بلدية في السعودية في سبتمبر القادم، وهناك أيضا دعوة من مفكرين ومثقفين سعوديين لمقاطعة هذه الانتخابات، وفي دولة الإمارات يجري التحضير لثاني انتخابات في تاريخها لانتخاب نصف أعضاء المجلس الوطني الاتحادي، في سبتمبر القادم أيضا، وهناك المزيد من المطالبات من المحتجين والناشطين للمطالبة بسلطات برلمانية حقيقية، وهناك مطالب في البحرين للتخلص من النظام الملكي، وفي سلطنة عمان، سارت احتجاجات الشوارع من أجل التغيير السياسي، ومكافحة الفساد، والمزيد من حريات التعبير، وفي قطر، هناك حملة علي الفيس بوك تحت اسم " ثورة الحرية " ومطالبات بتغيير نظام الحكم . ومعروف أن الكويت والبحرين هما البلدان الوحيدان في مجلس التعاون الخليجي اللذان لديهما برلمان منتخب، لكن الوزراء غير المنتخبين في الكويت يصبحون تلقائيا أعضاء في مجلس الأمة، أما في البحرين، فيتمتع المجلس الاستشاري بالصلاحيات نفسها المعطاة للمجلس المنتخب . الخليج .. تساؤلات التغيير في إطار الانتفاضات والثورات في الدول العربية للمطالبة بالديمقراطية والإصلاح السياسي، تُطرح في منطقة الخليج تساؤلات من قبيل : هل تستوعب دول الخليج دروس الثورات الشعبية بالمنطقة ؟ وهل يمكن أن تبادر النظم الخليجية بمنح أبنائها ما يستحقون من حقوق سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية ؟ أم تفضل هذه النظم الاحتفاظ بالاستقرار مع التضحية بالمطالب الديمقراطية ؟ وهل يمكن معالجة الخلل بين المطالب السياسية لشعوب منطقة الخليج وعملية التنمية الاقتصادية ؟ وهل تعد منطقة الخليج جاهزة لثورات شعبية بمطالب سياسية ؟ وللرد بصورة اجتهادية علي هذه التساؤلات، يمكن إثارة الملاحظات التالية : أولا: ليست منطقة الخليج استثناء من رياح التغيير والانتفاضات التي تؤسس لمرحلة عربية جديدة للتحولات الديمقراطية، وإنهاء عقود اليأس والإحباط والاستسلام للواقع العربي الاستبدادي . ومنذ عام 1990، وحتي اليوم، تُطرح في المنطقة عرائض " الإصلاح الدستوري "، والمطالبة بملكيات دستورية، وتغيير أسس التعايش في المنطقة علي أساس مبادئ العدل والمساواة والمواطنة ، وتقديم مطالبات تحمل توقيع الآلاف من المواطنين لاستصدار دساتير جديدة، فضلا عن مطالبات بإجراء انتخابات حرة وحقيقية لانتخاب أعضاء المجالس النيابية والبلدية، ومنحها صلاحيات حقيقية، وتوسيع مشاركة المرأة تصويتا وترشيحا ومشاركة في المجالس والشأن العام، وإعطاء المجالس الاستشارية صلاحيات تشريعية ورقابية حقيقية وليست شكلية، وقد شملت هذه المطالبات جميع دول الخليج دون استثناء . ثانيا: تنظر النظم السياسية، والعائلات الحاكمة في منطقة الخليج إلي مطالب " التغيير " السياسي بحذر بالغ، ورغبة قوية في التصدي لدعوات التغيير، وذلك علي اعتبار أن أي تغيير في معادلات الحكم في المنطقة سيعني مباشرة إضعاف وتقليل سلطات وصلاحيات النظم القائمة، والبدء ربما في التخلص منها، واستبعادها عن الحكم، والأهم من ذلك، تقليص آليات تحكُمها في الثروة النفطية، وطرق توزيعها الراهنة، والتي تقوم علي منح العائلات الحاكمة ومناصريها امتيازات هائلة، بما في ذلك الأجانب الذين يستفيدون من هذه الثروة، علي حساب اقتصاد البلد ومصالح مواطنيه . وبالطبع، فإن مسألة توزيع الثروة وإعادة توزيعها هي قضية حيوية في المنطقة حاليا، وتشغل فئات شعبية تشعر بأنها محرومة مثل الشيعيين وغيرهم . وقد جري توزيع الثروة النفطية منذ البدايات لصالح العائلات الحاكمة، وتبين دراسة تعود إلي عام 1974 نسب مخصصات العائلات الحاكمة من عائدات النفط( 1970 ) كالتالي: 7 . 64 % في قطر، 7 . 42 % في أبو ظبي، 42 % في البحرين،5 . 5 % في الكويت . وهناك نسبة كبيرة من مداخيل النفط والغاز تتحول مباشرة إلي حسابات البنوك الأجنبية، قبل أن يتم توزيع بعضها علي القطاعات الحكومية، ويعتقد الكثير من المواطنين الخليجيين أن توزيع الثروة لا يتم لمصلحتهم، وأن الفساد يتسبب في ضياع الكثير من حقوقهم في هذه الثروة، التي تفيد جهات أجنبية أكثر من أبناء الوطن. ثالثا: تنظر النظم السياسية، والعائلات الفوقية الحاكمة في منطقة الخليج إلي الاحتجاجات الشعبية، والانتفاضات التي شهدتها بعض الدول الخليجية مؤخرا، علي أنها ذات طبيعة اقتصادية بحتة، وأنها تأتي بهدف تحسين مستويات المعيشة، وبالتالي، فإنها تقرأ هذه الظواهر قراءة مشوهة، تجعلها تستجيب لها استجابات مادية قاصرة . ففي السعودية وسلطنة عمان والبحرين، بادرت السلطات بالإغداق علي المواطنين بالمكافآت، والمنح المادية، وتوزيع الوظائف، ووحدات السكن، بمليارات الدولارات، مما أطلق عليه (رشوة اجتماعية) غير أن ذلك لم يسكت مطالب التغيير السياسي الظاهرة والكامنة في هذه الدول. وبالطبع، هناك درجة كبيرة من الاستياء المتعلق باسترداد الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، غير أن هذا لا يخفي الدوافع السياسية الحقيقية للخليجيين المطالبين بدور سياسي أكبر في إدارة شئون بلادهم . ومن المعروف أن مستويات المعيشة في الدول الخليجية (دول اليسر) هي أكبر وأفضل من مثيلاتها في الدول العربية الأخري ( دول العسر )، فمثلا، تعتبر السعودية أغني بحوالي 6 مرات من مصر، وعلي حسب بيانات صندوق النقد الدولي، فإن نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في السعودية يصل إلي 16641 دولار ( 2010 )، وبينما يبلغ عدد السكان في قطر 350 ألف شخص، فإنهم يتمتعون بأعلي نصيب للفرد من الدخل القومي في العالم، وفي الكويت وسلطنة عمان والإمارات، يتمتع السكان بمستويات تعتبر عالية في مجالات الرعاية الصحية، والتعليم . وفي السعودية، أعلن وزير الاقتصاد والتخطيط خالد القصيبي منذ أيام أن السعودية تمكنت من القضاء علي " الفقر المدقع " أو ما يسمي " فقر الجوع " وذلك عبر البرنامج الحكومي الذي تتبناه وزارة الشئون الاجتماعية، ويؤمن الغذاء للأسر المحتاجة، ويبدو ذلك في إطار التحركات التي تتم من جانب السلطات، لاحتواء أي تحركات شعبية، ينظر لها علي أنها ذات دوافع مادية واقتصادية تماما . رابعا: هناك علاقة قوية بين مدي قوة وفاعلية مطالب الإصلاح السياسي في منطقة الخليج من ناحية، وطبيعة التركيب السكاني في دول المنطقة . ويقول الدكتور كريستوفر دايفيدسون الباحث المتخصص في شئون الخليج " عندما يكون 90 % من مجموع السكان في دولة مثل الإمارات من الأجانب، فإن ذلك يعني أن العائلات الحاكمة تستطيع الاحتفاظ بالسلطة والحكم إلي الأبد، بدون الحاجة إلي أي إصلاح سياسي، فالأجانب لا يهتمون إلا بجمع الأموال المعفاة من الضرائب، وليست لديهم أي اهتمامات بالنقاش السياسي، طالما أن البلد ليست بلدهم " . وبالتالي، كما يؤكد الباحث أنه عندما يكون السكان يمثلون حوالي 5 % 10 % فقط من المجموع السكاني في هذه المنطقة، فإن الضغط من أجل الإصلاح السياسي يبقي ضعيفا، وهشا، ويمكن إسكاته بسهولة. مستقبل الإصلاح الخليجي هناك إجماع علي ضرورة البدء في مرحلة الإصلاح السياسي في منطقة الخليج في الوقت الحالي ، حيث لم يعد ممكنا تأخير هذا الإصلاح إلي مراحل لاحقة كما يقول البعض، ذلك أن تأخير الإصلاحات السياسية والتشريعية، والإقرار بمبدأ المواطنة والمساواة، والسماح بالتعددية السياسية، واحترام حقوق الإنسان، وإعمال مبادئ المساءلة والمحاسبة، واحترام سيادة القانون، هذا التأخير، أو التأجيل يمكن أن يؤدي إلي نتائج كارثية تهز بعمق استقرار منطقة الخليج برمتها . ويعني البدء في الإصلاح السياسي بوجه عام، وفقا للمطالب التي تضمنتها بيانات المثقفين، والفئات الشعبية الأخري، أن يتم إطلاق سراح المعتقلين السياسيين، ووقف الممارسات التي تقوم بها الأجهزة الأمنية ضد مظاهر التعبير الشعبية للمطالبة بالحقوق، وإطلاق حرية الصحافة ، والسماح بتشكيل الأحزاب السياسية، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة، وتطبيق قواعد التداول السلمي للسلطة . هذه الصورة العامة للإصلاح السياسي في منطقة الخليج تتضمن عددا من الشروط والضرورات والمخاطر الاحترازية، والتي يمكن تصورها علي الوجه التالي : أولا: من الصعب الحديث عن الإصلاح السياسي في الدول الخليجية، بدون الإشارة إلي أهمية تغيير " ثقافة التشدد " التي لاتزال تدافع باستماتة عن روح الفكر الوهابي المنتشر في مفاصل مجتمعات المنطقة . وفي الآونة الأخيرة، حينما بدأت رياح التغيير تهب علي الخليج، فإن هذا الفكر، والمؤسسات المعبرة عنه أخذت موقف الدفاع عن النفس، وضاعفت من تشددها، في مواجهة ما تسمية " الدعوة إلي التغريب " . فرجال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يطوفون دوما في شوارع المملكة السعودية، لضمان الفصل بين الجنسين، وإرغام النساء علي الزي الشرعي، وتعنيف أي حديث في الطريق بين رجل وامرأة بدعوي أنه " دعارة "، وتحذر الجامعات طالباتها من ارتداء ملابس قصيرة أو ضيقة . غير أن هذا الفكر المتشدد بدأ يجد مقاومة ومعارضة يتوقع لها أن تقلص من نفوذه إلي حد كبير . وهناك علي سبيل المثال وقائع النزاع العلني بين الداعية المتشدد يوسف الأحمد ووزير التربية والتعليم السعودي الأمير فيصل بن عبدالله حول اتهامات الداعية للوزير بأنه " يدخل علي الطالبات، ويتصور معهن، ويصافحهن، باسم النشاط أو الكشافة، ويدعو الطالبات إلي الملاعب، لحضور مسابقات الفروسية، ويعقد ندوة للحوار بين الطلبة والطالبات في مهرجان الجنادرية " ويقول الداعية الإسلامي إن وزير التربية والتعليم بهذه الممارسات " يتبني مشروعا لإفساد الطالبات " و " يخالف الشرع والنظام "، ويهدد الداعية بمقاضاة الوزير، ولكن الوزير يرد بدوره مدافعا عن موقفه بأنه " من حق الطالبات أن يستمع إليهن، وأن الإسلام سمح وواسع، وعلي الجميع تغيير مواقفه من المرأة طالما هي تلتزم بمعايير الشريعة الإسلامية السمحة " . يذكر أن الداعية المتشدد يوسف الأحمد هو صاحب فتوي هدم المسجد الحرام، وإعادة بنائه، لمنع الاختلاط . هنا نذكر أنه في هذا المناخ الملتبس ، سيفيد كثيرا عملية التغيير والإصلاح أن تتوصل المؤسسة الدينية إلي درجة مناسبة من التوافق مع القيم الديمقراطية، وقبول الآخر، والتسامح، وأن تطرح اجتهادات عصرية حول قضية المرأة، والحريات العامة، والسياسة، والحكم، والديمقراطية بما يتوافق مع القيم الإسلامية السمحة، وبدون تشدد، ذلك أن هذه الطروحات التي تدخل في باب التجديد، وتغيير لغة الخطاب الديني، سوف تساهم في تعزيز وتقوية دوافع الإصلاح السياسي . ثانيا: هناك من يرون أن عمليات الإصلاح السياسي في الدول الخليجية ستبقي مرهونة بانبثاق " تيارات أو أجنحة إصلاحية " من داخل تركيبة السلطة، ومؤسسات الحكم، وفروع العائلات الحاكمة في منطقة الخليج ، ويعول أصحاب هذا الرأي علي وجود أطراف من أصحاب الفكر المستنير في مؤسسات الحكم، واستعدادهم للتجاوب مع بعض المطالب الشعبية، والسماح بتغييرات نسبية في صيغة الحكم، غير أن هذا الاحتمال يبقي بدوره رهناً بمدي استعداد أصحاب السلطة، والسمو، والجلالة، للتخلي عن سلطاتهم، وامتيازاتهم، ومراكزهم في الحكم والثروة . لذلك لابد من حشد وتجميع جهود المطالبين بالديمقراطية، من المفكرين والمثقفين والجمعيات والمجتمع المدني، والجهود الفردية، بما يتجاوز التقسيمات والاستقطابات بين التكوينات الاجتماعية، والاستقطاب الطائفي، والتنسيق فيما بين الجميع لتشكيل قوة "الضغط " المطلوبة والمناسبة علي السلطات، لدفعها للتجاوب مع المطالب الديمقراطية . غير أن هناك الجانب الآخر المتعلق بطبيعة " دولة الرفاه " في المنطقة، حيث يتعين الولوج إلي مرحلة جديدة في ترشيد الإنفاق، وعقلنة توجيه موارد الدولة، بطريقة عادلة، ودون إسراف، حفاظا علي الثروة، وإنهاء احتكار القلة لهذه الثروة وأساليب التحكم فيها . ثالثا: من أهم المخاطر التي تواجه عملية الإصلاح السياسي في منطقة الخليج النظر إلي جميع المطالبات الشعبية، والتظاهرات الشعبية السابقة، واللاحقة، علي أنها " مؤامرة طائفية " وتكييف كل المطالب الشعبية بمنظور طائفي بحت ، الأمر الذي يشوه الحركة السياسية في الخليج، ويضيع علي المنطقة فرصة التغيير السياسي السلمي، ويشوه العلاقة بين الشعب والنظام الحاكم . وهذا هو ما وقع تحديدا في حالة تظاهرات والاعتصامات في دولة البحرين، والتي كانت تعبر في بدايتها عن " ثورة سلمية من أجل الحقوق والحريات والإصلاح السياسي "، وقد جري تشويه الثورة من ناحية، واختطافها من قبل البعض في الداخل والخارج من ناحية أخري، وبالتالي فشلت هذه الثورة السلمية الوليدة في منطقة الخليج . وبناء عليه، فإنه يتعين الحذر في النظر إلي المطالبات السياسية للشعوب في منطقة الخليج، فهي مطالب سياسية حقيقة، وطموحات للحكم الديمقراطي وتداول السلطة والمشاركة في الحكم، وإسماع صوت الشعوب للحكام، وتقاسم الثروة والسلطة . رابعا: هناك بوادر إيجابية تبشر بتغيير ملحوظ في إدراك السلطة لطبيعة اللحظة التاريخية في المنطقة . فقد أعلن وزير الاقتصاد والتخطيط السعودي البدء في إعداد " الاستراتيجية الوطنية للشباب " والتي ستشمل محاور رياضية وثقافية وقيم المواطنة والمعلومات ومكافحة البطالة . وتأتي هذه الاستراتيجية علي غرار ما تقوم به 50 دولة أخري في هذا الصدد . يذكر أن عدد الشباب في السعودية بلغ 9 . 3 مليون نسمة في 2010 يمثلون 21 % من عدد السكان، ويؤكد الوزير أن التركيبة السكانية للمملكة تعكس وجود واحد من بين كل خمس سعوديين في الفئة العمرية ( 15 24 سنة) ونحو 34 % من السكان في سن العمل . من ناحية أخري، لفت الانتباه تصريح وزير الثقافة والإعلام السعودي اعتقاده بأن عالم اليوم لا يمكن فيه إخفاء أو حجب المعلومات، فالإعلام الآن هو إعلام الشباب الإلكتروني، وقد مضي إلي الأبد عصر احتكار الدولة أو أي جهاز آخر للمعلومات التي توجه الرأي العام .