نظريا من المفترض أن يأتي أول برلمان ينتخب بعد ثورة شعبية شارك فيها الجميع، ممثلا لكل القوى التي شاركت في هذه الثورة، فإذا كان هذا البرلمان سيقوم بدور رئيسي في وضع دستور جديد للبلاد، فإن تمثيله لكل تيارات المجتمع والقوى المشاركة في الثورة يصبح حتمية لا مفر منها، وإلا فإنه لن تكون هناك ضمانة للتحول الديمقراطي، والاستقرار السياسي، واطراد النمو الاقتصادي. هذا ماينبغي أن يكون، ولكن الشعور السائد بين غالبية المصريين هو أن البرلمان القادم لن يأتي على هذا النحو المتوازن لأسباب كثيرة، منها أن ثورة 25 يناير لم تكن لها، وليس لها حتى الآن قيادة، ولم تعبر عن نفسها من خلال تنظيمات قوية، أو على الاقل من خلال تنظيم رئيسي يتبنى ويطبق الهدف الأصلي للثورة وهو إقامة دولة مدنية ديمقراطية حديثة في مصر، وبغض النظر عن السبب في عدم القدرة على بناء هذا التنظيم في الوقت المناسب قبل الانتخابات، فإن هذا هو الواقع الذي أصبح على الجميع التعامل معه الآن. من حقائق هذا الأمر الواقع أن القوى التي كانت منظمة قبل ثورة يناير هي التي تتمتع الآن بالميزات المتعارف عليها للتنظيمات السياسية الحزبية، من قدرة على الاتصال، والحشد، والتمويل، وكلها أدوات فعالة في التأثير على الناخب في كل مكان في العالم، وليس في مصر وحدها، وبالطبع نقصد هنا القوى المنتمية لتيار الاسلام السياسي بمستوياته المختلفة، من أول جماعة الإخوان المسلمين وحزبها الحرية والعدالة، حتى الأحزاب السلفية، والجماعة الإسلامية. صحيح أن غالبية المتحدثين باسم هذه التيارات والتنظيمات (الإسلامية)، وكثيرا من الشخصيات السياسية المستقلة المنتمية فكريا وليس تنظيميا لتيار الاسلام السياسي، صرحوا أكثر من مرة بأنهم لا يتوقعون الحصول إلا على نسبة تتراوح بين 30% و45% من مقاعد البرلمان المقبل، ومثال ذلك ما صرح به للأهرام أمس المهندس أبوالعلا ماضي زعيم حزب الوسط، ومن قبل ما صرح به أكثر من مرة الدكتور محمد سليم العوا، وصحيح أيضا أن المتحدثين بإسم حزب العدالة والحرية (الذراع السياسية للإخوان المسلمين) يتفقون علنا مع هذه التوقعات، أو على الأقل لايتحدثون عن احتمال حصول الإسلاميين جميعا على أغلبية المقاعد في البرلمان المقبل. ولكن تبقى كل هذه مجرد توقعات لا تسندها استطلاعات رأي موثقة وموسعة ومتكررة، ومن ثم تصبح أقرب الى التخمينات منها إلى المعطيات السياسية التي يعول عليها. لهذا السبب انبعثت فكرة البحث عن توافق مبدئي خارج البرلمان يوفر ضمانات لمشاركة الجميع في صياغة الدستور الجديد، بما يحقق الهدف الأصلي لثورة 25 يناير، أي اقامة الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة، واتخذت هذه الفكرة اشكالا وتعبيرات عديدة من مؤتمرات للحوار، إلى تحالفات حزبية، ومن توصيات إلى وثائق فكرية. وأخيرا طرحت فكرة المبادئ فوق الدستورية، ثم حلت محلها فكرة ميثاق الشرف الملزم أدبيا لكل الموقعين عليه، وهذه هي المرحلة التي تمر بها الآن الوثيقة المعروفة بإسم وثيقة السلمي نسبة إلى الدكتور علي السلمي نائب رئيس الوزراء للتنمية السياسية والتحول الديمقراطي. وعلى الرغم من العواصف التي هبت حول هذه الوثيقة المستخلصة من عشرات الوثائق السابقة عليها، فإن استمرار التفاوض عليها بين الحكومة ممثلة في اللجنة الوزارية السياسية برئاسة السلمي، وبين ممثلي القوى الرافضة لها، يعني أن روح البحث عن التوافق على أسس الدستور الجديد لا تزال باقية، كما أن ما بدا من استعداد الحكومة لإدخال تعديلات متفق عليها على الوثيقة يعزز الأمل في بقاء روح التوافق، من خلال مؤتمر وطني شامل لكل القوى السياسية لتوقيع الوثيقة في حالة الاتفاق عليها في صيغتها الجديدة. ولا جدال في أننا مثل جميع المصريين نتمنى النجاح لهذه الجهود وغيرها، لكن تبقى هناك جبهة أخرى لا تقل اهمية إن لم تزد ينبغي العمل فيها بكل قوة لضمان نجاح جهود التوافق بين النخبة، واستمرار هذا التوافق بعد الانتخابات، التي قد تؤدي نتائجها الى ما يغري بالعكس أي بالتراجع عن التوافق، إذا ما فاز تحالف واحد، أو تيار بعينه بأغلبية كاسحة من مقاعد البرلمان، هذه الجبهة هي بالطبع جبهة جمهور الناخبين أنفسهم، وهذا الجمهور هو نفسه الملايين التي خرجت طوال أيام الثورة وما بعدها في مدن وقرى مصر تطالب بإسقاط النظام السابق، والحقيقة التي لاشك فيها هنا هي أن تلك الملايين لم تكن، وليست حتى الآن، ولن تكون في المستقبل تابعة لتنظيم بعينه، أو حتى عدة تنظيمات، ولكنها الأغلبية الحقيقية المنتمية الى الوطنية المصرية والتواقة إلى حكم رشيد يقود مصر الى التقدم والديمقراطية. وباختصار فإن غالبية الشعب تتبنى تلقائيا المطلب الرئيسي لثورة 25 يناير، وهو كما قلنا في مناسبات سابقة المطلب والبرنامج السياسي لكتلة "الوسط" في كل المجتمعات الحديثة بما فيها المجتمع المصري. إذن السؤال هو كيف يمكن استعادة ملايين المصريين الذين صنعوا بتجاوبهم مع الطليعة الشابة ثورة 25 يناير الى العمل من أجل تحقيق أهداف الثورة عن طريق صندوق الانتخابات ؟. نقطة البدء هي شعور الناخب نفسه بأن الانتخابات هذه المرة هي في حقيقتها انتخابات من أجل الدستور، وليس من أجل التمثيل النيابي التقليدي، ومعنى ذلك أنها إنتخابات تأسيسية حتى، وإن كانت لاتحمل هذا الوصف رسميا، ومادامت أغلبية الناخبين، وهي التي شاركت في الثورة، تنتمي كما سبق القول الى تيار الوسط السياسي بمعناه العريض، فمن المفترض تلقائيا أنها ستختار برلمانا متوازنا. يؤدي دوره في التأسيس للدستور الجديد بما يضمن الديمقراطية والتقدم والحكم الرشيد. لكن هل هذا الشعور قوي حقا بين أغلبية الناخبين؟ لا مفر هنا من الرجوع إلى السوابق التاريخية للسلوك الانتخابي للمواطن المصري في غيبة استطلاعات الرأي الموثقة والموسعة والمتكررة؟ من هذه السوابق في عهد ما قبل ثورة يوليو 1952 أنه ما من مرة شعر فيها المواطن المصري بأن الانتخابات سوف تجري بحرية، وبأن صوته هو الذي سيكون الفيصل إلا وأقبل على التصويت بحماس، واختار أفضل من يمثلونه من وجهة نظره، وعلى العكس من ذلك تماما كان يقاطع كل انتخابات يعرف أن نتيجتها محسومة سلفا بإرادة القصر الملكي. وقد تكرر هذا السلوك في عهد ثورة يوليو، إذ عندما كان الأمل يقوي في التغيير من أجل مستقبل أفضل، كانت معدلات الإقبال على التصويت عالية، ويذكر التاريخ أن ذلك حدث عام 1956 وتكرر في انتخابات عام 1976 بعد التحول من نظام الحزب الواحد إلى التعددية الحزبية. وعندما بدا في انتخابات عام 2005 أن هناك أملا في أن يكون للصوت الانتخابي قيمة شهدت الانتخابات منافسة قوية. أما في انتخابات عام 2010 التي سبقت ثورة يناير، وكانت من أسبابها، فإن معدلات الإقبال تدنت إلى مستوى لم يسبق له مثيل في تاريخ الانتخابات المصرية وبعد ثورة يناير، وبدافع من الآمال الكبيرة التي أطلقها نجاح الثورة كان الإقبال كبيرا على المشاركة في استفتاء 19 مارس على التعديلات الدستورية، ولم يكن تصويت الأغلبية إيجابيا لمصلحة هذه التعديلات في حقيقته إلا رغبة في عدم تعويق عملية بناء النظام الجديد أكثر منها اتفاقا مع كل ما ورد في تلك التعديلات. بناء على هذه السوابق، يمكن أن نتوقع أن الانتخابات التي توشك مرحلتها الأولى أن تبدأ، سوف تشهد إقبالا كبيرا من الناخبين، وما دمنا نراهن على أن أغلبية هؤلاء الناخبين تنتمي إلى تيار الوسط بمعناه العريض كما أسلفنا وما دمنا نراهن على أن هذه الأغلبية تدرك أنها انتخابات من أجل الدستور الجديد، وليست مجرد انتخابات برلمانية تقليدية، فمن المفترض أن النتيجة ستكون اختيار برلمان متوازن في تمثيله للقوى التي شاركت في صنع ثورة يناير. لكن الافتراض يبقى افتراضا، لذلك فالجهد مطلوب إلى أقصى حد ممكن من جميع القوى الحريصة على إقامة دولة مدنية ديمقراطية للتفاعل مع الناخب حوارا وتوعية، حتى وإن كانت الفترة المتبقية على بدء المرحلة الأولى من الانتخابات قصيرة. إن هذا الجهد مطلوب من منظمات المجتمع المدني ومن الرموز السياسية المؤثرة، ومن المنظمات المهنية، وبالطبع مطلوب من وسائل الإعلام والصحف مثلما هو مطلوب من الأحزاب ومرشحيها، كما أنه مطلوب من سلطات الدولة ممثلة في اللجنة العليا للانتخابات في تطبيق ما تقرر من قواعد للدعاية، وحدود للانفاق وتجريم للرشاوي الانتخابية، وغيرها من الأعمال التي تهدد أمن ونزاهة عملية التصويت والفرز. وبذلك يبقى الأمل كبيرا في اختيار برلمان لا تحتكره كتلة بعينها تفرض اختياراتها على اللجنة التأسيسية للدستور، وبذلك أيضا لا تكون جهود التوافق التي تبذلها كل الأطراف في الحوار حول هذا التوافق عرضة للانتكاس، ولا تبقى عشرات الوثائق التي عبرت عن ضمير وآمال الأمة مجرد حبر على ورق، ولا يدخل الوطن في دوامة جديدة من الصراع السياسي تهدد كل شئ بالضياع. نقلا عن جريدة الأهرام