انتهت قمة قادة دول الاتحاد الاوروبي في لشبونة الاسبوع الماضي بالتوصل الى اتفاق على معاهدة جديدة للإصلاح ستكون بديلة لمشروع الدستور الاوروبي، الذي فشلت الدول الاعضاء في تمريره، في خطوة لتأكيد المسار الوحدوي الذي ساور البعض الشكوك في امكانية استمراره. وتسبب مشروع الدستور الاوروبي الموحد، في انقسامات بين الدول الاعضاء وكان السبب وراء توجيه لطمة قوية للمشروع الاوروبي الوحدوي، تمثلت في رفضه من جانب الناخبين في فرنساوهولندا منتصف العام 2005 في استفتاءين منفصلين. وقداحتفظت المعاهدة بأفكار جديدة عديدة، كانت واردة في الدستور، لكنها تفادت كلمة دستور وحذفت كل ما كان يوحي بإعطاء الاتحاد الاوروبي شكل دولة كبرى (خصوصا ما يتعلق بنشيد وعلم اوروبيين). واصبحت هناك معاهدة تضم بنودا لتسيير أمور المجموعة الاوروبية الموحدة في المجالات المختلفة وخاصة فيما يتعلق بالعمل المؤسساتي، وفي نفس الوقت تحقيق مطالب عدد من الدول الاعضاء التي كانت تخشى من إلغاء الهوية الوطنية. ورغم ان حظوظ تمرير هذه المعاهدة التي أطلق عليها البعض اسم «المعاهدة المبسطة» تبدو وفيرة، لتمريرها داخل الدول الاعضاء، بعد الغاء المفاهيم التي تشبه الاتحاد الاوروبي بدولة فيدرالية، مثلما كان موجودا في مشروع الدستور، إلا ان الطريق لن يكون مفروشا بالورود بالكامل، حيث تتمسك بعض الدول بضرورة عرضها لاستفتاء شعبي، قد يؤدي بها الى نفس المصير الذي آل اليه الدستور. فالمعاهدة التي انهت أزمة مؤسساتية مستمرة منذ اكثر من سنتين، ستواجه في الخطوة التالية بعد اقرارها من قبل الزعماء في ديسمبر المقبل، معتركا داخليا في برلمانات الدول الاعضاء لاعتمادها في صيغتها النهائية، وهي معركة ستستمر حتى نهاية العام المقبل. وفي تعليق له على نجاح قمة لشبونة، قال رئيس الوزراء البرتغالي جوزيه سوكراتيس، الذي يترأس حاليا الاتحاد الاوروبي، ان «اوروبا خرجت من ازمة المؤسسات واصبحت مستعدة الان لمواجهة التحديات المستقبلية» وقال رئيس البرلمان الاوروبي هانز بوترينغ ان نجاح القمة هو انتصار لكل الاوروبيين. وسيتعين الان توقيع المعاهدة والمصادقة عليها في الدول ال27 الاعضاء في الاتحاد الاوروبي لتدخل حيز التنفيذ، وهي مرحلة دقيقة يتوقع ان تستمر حتى نهاية عام 2008 . ومن المتوقع ان توقع الدول الاعضاء المعاهدة في 13 ديسمبر المقبل في لشبونة، ويأمل القادة الاوروبيون ان تصبح المعاهدة نافذة في الاول من يناير 2009، قبل الانتخابات الاوروبية في ربيع ذلك العام. وصيغت المعاهدة خصيصاً ليكون من الممكن المصادقة عليها بدون استفتاء. وقد احتفظت بأفكار جديدة عديدة كانت واردة في الدستور، لكنها تفادت كلمة دستور وحذفت كل ما كان يوحي باعطاء الاتحاد الاوروبي شكل دولة كبرى (خصوصا ما يتعلق بنشيد وعلم اوروبيين). وقد قررت الدول الاوروبية عدم اجراء استفتاء رسمي للمصادقة على المعاهدة وحسمها في البرلمان، إلا ان ايرلندا اصرت على تنظيم استفتاء شعبي حول هذا النص. وفي بريطانيا اثارت مسألة الاستفتاء ضجة اعلامية في البلاد بين مؤيد ومعارض، اذ يطالب حزب «المحافظين» المعارض وبعض الصحف البريطانية باجراء استفتاء، لكن رئيس الوزراء غوردون براون رفض هذه الدعوات، وقال «حان الوقت لاوروبا لتنتقل الى شيء آخر، ولنصب كل جهودنا على المشكلات المهمة بالنسبة للاوروبيين: النمو الاقتصادي والعمالة والتغير المناخي والأمن». وتؤيد ذلك مصادر حكومية أخرى في لندن قائلة انه «لا يوجد داع لاجراء الاستفتاء، اذ ان هذه المعاهدة تشبه معاهدات اخرى، من صلاحية البرلمان الموافقة عليها ولا تشكل دستوراً مثل ما كان مطروحاً سابقاً». وفي هولندا، التي لعبت دورا في الازمة التي شهدتها اوروبا منذ عامين عقب الرفض الشعبي للدستور خلال الاستفتاء، قالت انها لن تكرر التجربة، وستلجأ الى طرح الأمر على البرلمان لإقراره. ويقول انطونيو سيمناتوري مدير المعهد الاوروبي للدراسات الاستراتيجية في تصريحات ل«الشرق الاوسط» ان «ما حدث في لشبونة هو اتفاق تاريخي ومهم جدا، وكان لا بد من إزالة نقاط الخلاف وإقرار المعاهدة، لان القمة كانت تشكل اختبارا صعبا جدا للقادة، امام الرأي العام، وكان لا بد من ارسال مؤشرات واضحة للاوروبيين، على ان القادة لديهم القدرة على تحقيق توافق، يخدم المشروع الاوروبي الوحدوي». وتتيح المعاهدة الاوروبية دوراً اكبر للبرلمانات الوطنية والمواطنين، بما يضمن تطبيق الميثاق الالزامي لحقوق المواطنين. وهناك عدة اختلافات ما بين المعاهدة التي وافق عليها قادة أوروبا في قمة برشلونة وبين الدستور الاوروبي، الذي تعرض لانتكاسة قوية بعد التصويت السلبي ضده من جانب الناخبين في فرنساوهولندا، من خلال استفتاءين منفصلين منتصف عام 2005، منها انها تتضمن حقوقا موسعة لبرلمانات الدول الأعضاء، وتنص على وجود وزير خارجية للاتحاد الأوروبي بحلة جديدة ونفوذ أوسع، ووجود دولة رئيسة للاتحاد لمدة سنتين ونصف السنة بدلاً من الرئاسة المتناوبة التي تدوم حاليا نصف عام، وتوسيع المجالات التي تتطلب موافقة الأغلبية في القرارات بدلاً من الإجماع، وأهداف مشتركة جديدة مثل سياسة عامة للطاقة والوقود، وسياسة مشتركة للحد من ظاهرة الاحتباس الحراري. ونجحت القمة في الوقت نفسه في انهاء الخلافات وتسوية المطالب التي تقدمت بها عدد من الدول الاعضاء في المجموعة الاوروبية الموحدة. وحصلت أربع دول على تسويات للمطالب التي تقدمت بها وهي ايطاليا التي فازت بمقعد جديد في البرلمان الأوروبي ليصبح عدد مقاعدها الإجمالي 73 مقعدا، وفازت بولندا بإجراء يُمكن دول الأقلية من تأجيل قرارات الاتحاد، وحصلت بلغاريا على الموافقة بكتابة اليورو بطريقة جديدة تتوافق مع الأحرف الأبجدية السيريالية «البلغارية» وايضا النمسا التي حصلت على استثناء يمكنها مؤقتا من السيطرة على عدد الطلاب الأجانب القادمين إليها. وجاء في بيان صادر عن رئيس البرلمان الاوروبي هانز بوترينغ، ان البرلمان الاوروبي سيستفيد من المعاهدة التي تتضمن اكثر من 250 صفحة، من خلال المشاركة بشكل فعال في اتخاذ القرارات السياسية في المستقبل. وتم الغاء المفاهيم التي تشبه الاتحاد الاوروبي بدولة فيدرالية، مثل دستور او الرموز مثل العلم والنشيد الوطني. وكانت بروكسل قد شهدت أواخر شهر يوليو الماضي الاعلان عن انطلاق المؤتمر الحكومي الأوروبي، المكلف بصياغة المعاهدة الأوروبية المعدلة وذلك تنفيذا لاتفاق بين قادة اوروبا، خلال قمة عقدت في الشهر الذي سبقه، في بروكسل، ينص على العمل من اجل تحقيق وجود معاهدة للاصلاح، عوضاً عن الدستور الأوروبي الموحد. وتم الاعلان عن انطلاق المؤتمر تحت رئاسة لبرتغال، وشارك فيه ممثلون عن الحكومات والبرلمانات المحلية، وخبراء في القانون والشؤون القضائية، وممثلون عن البرلمان الأوروبي، بمعدل 3 نواب برلمانيين أوروبيين عن كل بلد عضو في المنظومة الموحدة. واستمر عمل الاطراف المشاركة فترة شهرين، قبل عرض النص النهائي للمعاهدة الأوروبية المعدلة على القمة الاخيرة في لشبونة. وعقب نجاح القمة، أعرب زعماء الاتحاد الأوروبي عن ارتياحهم بالتوصل للاتفاق الذي يرمي لإصلاح مؤسسات الاتحاد ويحل محل الدستور المعطل الذي يوصف بأنه مفتقر للتأييد الشعبي. واعتبرت الرئاسة الدورية الحالية للاتحاد الاوروبي أن المعاهدة الجديدة ستجعل أوروبا أقوى في الأسواق العالمية إضافة إلى تعزيز موقفها في مجال السياسة الخارجية. أما المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل فوصفت في تصريح صحافي الاتفاق بأنه «خطوة مهمة غير عادية للأمام في تاريخ الاتحاد الأوروبي الموسع». وقال الرئيس البولندي ليتش كازانسكي ان «عملية الإصلاح برمتها توجت بالنجاح». وبالرغم من حرص القادة الأوروبيين على المدح والإشادة بالرئاسة البرتغالية للاتحاد ودورها في توجيه المحادثات نحو الإجماع، فإن حزمة التنازلات التي اتفق عليها خلال القمة تواجه العديد من الانتقادات. حيث يراها العديد من المراقبين في بروكسل، بأنها جعلت من وثيقة الإصلاح الجديدة وثيقة غير مرتبة مليئة بالخطوط الحمراء والاستثناءات بدلا من أن تكون وثيقة تجمع بدقة بين الاتفاقيات المبرمة سابقا. وقال رئيس الوزراء الهولندي يان بيتر بالكينينده «بالطبع هنالك أجزاء من الاتفاقية معقدة ويصعب شرحها. لكنها أفضل عموما مما كانت عليه الأمور في السابق. هنالك شفافية أكثر تجعل من الصعب على دولة منفردة أن تستخدم حق الرفض (الفيتو) ضد قرارات الاتحاد». واضاف «تمنحنا هذه الاتفاقية إطارا جيدا للعمل مع 27 دولة.. أشعر بالارتياح اتجاه الاتفاقية الجديدة.. خاصة عندما يوقع 27 زعيما أوروبيا على اتفاقية لشبونة الجديدة في ديسمبر القادم، فقد كان الطريق طويلا وشاقا». من جانبه أشاد رئيس المفوضية الاوروبية جوسيه مانويل باروسو، بالنتائج التي تمخضت عن القمة الاوروبية الاخيرة في لشبونة. وخلال كلمته أمام أعضاء البرلمان الاوروبي في ستراسبورج منتصف الاسبوع، قال باروسو «بالرغم من محاولات البعض خلال القمة تخفيض قدرات وسلطات الجهاز التنفيذي للاتحاد الاوروبي، في نصوص المعاهدة الجديدة، لكن من خلال الثبات على الموقف من جانبنا، والتعاون مع المؤسسات الاوروبية الاخرى، نجحنا في مواجهة تلك المحاولات». واضاف « دعوني اكون صريحا وواضحا، واقولها بصوت عال لن يكون هناك تكامل اوروبي بدون مؤسسات اوروبية قوية». وتناول باروسو في كلمته الفوائد التي ستحققها المعاهدة الجديدة، وقال انها «ستعزز الطبيعة الديمقراطية للاتحاد الاوروبي، واصبح هناك تعريف واضح لمعنى المواطنة الاوروبية كما ان المعاهدة الجديدة ستعطي قوة قانونية لدستور الحقوق الاساسية». وأشار باروسو الى البرلمان الاوروبي سيكون له دور أكبر في العملية التشريعية للاتحاد الاوروبي، مؤكدا في الوقت نفسه على تحقيق تقدم ديمقراطي آخر يتمثل في حقوق البرلمانات الوطنية للدول الاعضاء، مع الاخذ في الاعتبار ان هذا الامر لن يؤثر على مكانة البرلمان الاوروبي، الذي اصبح بيتا لاصوات الحرية في العالم، ما يجعل كل الاوروبيين فخورين بذلك. وأكد بارسو وجود تحديات تواجهه المجموعة الاوروبية الموحدة وقال ان «المواطن الاوروبي يريد النتائج». وأضاف ان معاهدة الاصلاح الجديدة ستكون بداية صفحة جديدة وانطلاقة تظهر قدراتنا على التصرف. ويرى باروسو في الشأن الخارجي أن «المعاهدة الجديدة ستعزز تماسك الاتحاد الاوروبي في الشؤون الخارجية، وتحقيق ازدهارا داخليا، وتعزز لحرية والامن». وتناول رئيس المفوضية الاوروبية المهام التي تنتظر التكتل الاوروبي في المستقبل، وهي الاصلاح الاقتصادي والنمو والتشغيل وتعزيز العدالة الاجتماعية ومجالات الابداع ومواجهة التغير المناخي. وتبقى اوروبا في انتظار خطوتين في سبيل تحقيق وحدة موسعة، الاولى في ديسمبر، بتوقيع المعاهدة، والثانية معركة مصيرية داخل الدول، لتمرير المعاهدة قبل ميلاد اوروبا جديدة.