جاءت خطاباتُ الرؤساء في الأممالمتحدة تعبيراً عما يعتبره كُلُّ رئيسٍ نجاحاً له ولبلاده في المشهد الحالي، وفي السنوات القليلة الماضية. وهذا يسري على البلدان الكبيرة والمتوسّطة مثل أميركا وفرنسا وبريطانيا وروسيا وتركيا وإيران. أمّا البلدان الصغيرة مثل لبنان، ورغم أنّ رئيسه هو الرئيس الحالي لمجلس الأمن؛ فإنه ظلَّ مشغولاً -وهذا حقُّه- بمشكلات بلاده مع المحيط، وهما في حالتنا إسرائيل وسوريا. فقد طالب سليمان المنظمة الدولية بإرغام إسرائيل على إكمال تطبيق القرار 1701. وبالفعل فإنّ إسرائيل ما تزال تخرُق الأجواء اللبنانية بطائراتها وسفنها وتتقدم دورياتُها أحياناً لما يعتبره لبنان دواخل خطّه الحدودي. لكنّ القوات الدولية بجنوب لبنان تطالب الحكومة اللبنانية منذ مدة، بكشف أسرار الاعتداءات التي تتعرضُ لها، والتي ذهب ضحيتها خلال السنوات الماضية عشرات الجنود، من دون أن تتمكن السلطات اللبنانية من كشف الفاعلين. وإذا كانت إسرائيل معتديةً بالفعل، وعلى لبنان وسوريا وفلسطين بالمنظور الدولي؛ فإنّ مشكلة الأراضي اللبنانية التي بقيت تحت الاحتلال بالجنوب، لها علاقةٌ وتشابُكات لا تتناول الكيان الصهيوني فقط؛ بل تتناول سوريا أيضاً. ذلك أنّ الأممالمتحدة ما تزال تعتبر مزارع شبعا أرضاً سورية، وتحتاج إلى "ترسيم حدود" تقول سوريا بموجبه إنّ تلك البقعة لبنانية، ليس سكاناً وتملكاً فقط؛ بل سيادةً كذلك. وهو اعترافٌ ترفضه سوريا حتى اليوم، وما ذكره سليمان بالطبع. بل إنه فعل عكس ذلك عندما صرَّح في مقابلةٍ عشية وصوله إلى نيويورك، بأنّ ما يجري في البلدان العربية (يقصد سوريا بالطبع) ليس حركات مطلبية فقط، وهو يشير من بعيد إلى ما سبق أن أعلن أنه يوافق البطرك الراعي عليه، من أنّ بين الثائرين متطرفين وإرهابيين. وهكذا فإنه يقول رأْياً في ثورة الشعب السوري يأمل أن يُرضي به النظام هناك، كما سبق أن أرضى هو والبطرك الراعي "حزب الله"، عندما اعتبرا أنّ سلاح الحزب ينبغي أن يبقى لما بعد تحرير مزارع شبعا وحلّ مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، فَشَرْعَنَ السلاح غير الشرعي على الأرض اللبنانية، وأسقط المسؤولية في الدفاع عن الأرض والسيادة عن الجيش، وأعطاها للحزب. والأخطَر من ذلك أنه اعتبر الحزب -وليس الدولة- مسؤولاً عن حلّ مشكلة اللاجئين، ولستُ أدري كيف! إذ لو كان يقصد عدم الدخول في اتفاق سلام أو هدنة مع إسرائيل حتى بعد التحرير إلاّ إذا أعادت إسرائيل الفلسطينيين اللاجئين إلى ديارهم، لكان قد قال إنّ الدولة اللبنانية لن تصير إلى هدنةٍ أو سلامٍ مع العدوّ إلاّ بعد إعادة اللاجئين، فهو رئيس الجمهورية، والمفروض أنه المؤتمن على الدولة والدستور والحرب والسلم، وليس "حزب الله" وسلاحه! بيد أنّ الأبرز ليس خطاب الرئيس اللبناني أمام الأُمم المتحدة بالطبع؛ بل الخطاب الفلسطيني العربي، والعربي الفلسطيني. وكان بعضُ المراقبين قد لاحظوا أنه لولا القضية الفلسطينية ومبادرة السلطة إلى طرحها على المحفل الدولي بمجلسَيه (مجلس الأمن والجمعية العامة) لكان موضوع الكلمات الرئيس في الجمعية العامة لهذا العام هو " الربيع العربي" وثوراته الشعبية. لكنّ الطريف أنّ رئيس الوزراء البريطاني كاميرون (تصوروا) اعتبر الحركة الفلسطينية نحو المجتمع الدولي جزءاً من "الربيع العربي"! في هذا المجال جاءت كلمة أوباما مخيِّبة، فهو مع "الربيع العربي" ومع الشعوب العربية في كلّ مكان، وهو مع ربيع الشعب السوري وثورته، ويكاد يقول بالكفاح المسلَّح ضد نظام دمشق الذي يُواجه شعبه منذ ستة أشهُر. لكنه عندما وصل إلى فلسطين عاد للحديث عن حقّ إسرائيل والشعب اليهودي في السلام والحرية والدولة الآمنة. أمّا الفلسطينيون الذين يسعون منذ أكثر من ستين عاماً لنيل حق تقرير المصير والحقوق الأخرى؛ فلا يستطيعون ذلك إلاّ بالتفاوُض والتوافُق مع نتنياهو الذي لا يقبل أبداً التسليم بهذه الحقوق! فممن يطلبها الفلسطينيون إذن؟ العالم الغربي على الخصوص رفض دائماً السماحَ لهم بطلبها عبر الكفاح المسلَّح كما فعلت سائر الشعوب المستعمرة: فماذا فعل أبومازن والقيادة الفلسطينية، بعد وجوه رجاءٍ وتوسُّل على مدى السنوات الماضية، ومن إسرائيل والولاياتالمتحدة التي استأثرت بدَور الحكَم في القضية الفلسطينية على مدى أكثر من عقدٍ ونصف؟! ما ذهب الفلسطينيون إلى الكفاح المسلَّح بعد اليأس من المفاوضات التي أخذت فيها الولاياتالمتحدة جانب إسرائيل، بل إلى المجتمع الدولي والشرعية الدولية مصدر كلّ الشرعيات في عالَم اليوم! ومع ذلك فقد قال لهم أوباما إنّ هذا أيضاً غير ممكن، والسبب واضح: إنّ أوباما يريد الحصول على الصوت اليهودي في الانتخابات الرئاسية القادمة! أما ساركوزي فاختار مساراً وسطاً إدنى إلى وجهة النظر الفلسطينية؛ قال للفلسطينيين: لا تذهبوا إلى مجلس الأمن، بل إلى الجمعية العامة للحصول على منزلة عضو مُراقب، واقترح مساراً تفاوضياً يبدأُ بعد شهرٍ ويبحث موضوعَي الأمن والحدود، وينتهي خلال ستة أشهُر، أمّا المسائل الباقية فينتهي التفاوُضُ حولها خلال عام وتقوم الدولة بالتوافُق. وشكر الفلسطينيون للرئيس الفرنسي اقتراحاته، وأعلنوا سُخْطَهُم على التوجُّه الأميركي والتهديد بالفيتو. وقالوا إنهم مُصرُّون على التوجُّه إلى مجلس الأمن، إنما مع فُرصةٍ تُعطى للتشاوُر وليس للتصويت المباشر. ومعهم في الأُمم المتحدة أصوات 125 دولة، أي حوالي الثمانين بالمائة من دُوَل العالَم، فالإسرائيليون هم الخاسرون، والخاسرون أكثر هم الأميركيون الذين يُغْضبون العربَ والمسلمين في زمن "الربيع العربي"، من أجل حفنةٍ من أصوات اليهود. وتحدّث أمير دولة قَطَر باسم العرب، فحدَّد المرجعيات: المبادرة العربية للسلام، واتفاقية أوسلو، واللجنة الرُباعية، وقول الأميركيين بالدولتين. وكلُّ تلك المرجعيات متفقة على دولةٍ فلسطينيةٍ عاصمتُها القدسالشرقية في حدود عام 1967. فإلى أين تريدون أن يتّجه العرب إلاّ إلى الشرعية الدولية التي تقولُ بها كلُّ تلك المرجعيات، وهذا الذهاب بعد دخولٍ مُضْنٍ في التفاوُض والتفاوُض على التفاوُض إلى ما لا نهاية، وهناك أربعة ملايين فلسطيني ينتظرون بالداخل، وخمسة ملايين في المنفى؟! ليس الحلّ بالعودة إلى العنف، لكنه أيضاً ليس بتضييع حقوق الشعب الفلسطيني وصبره من خلال تفاوُضٍ غير مُجدٍ ولا يوصُل إلى حقٍّ ولا يمنعُ باطلاً، بل الاستيطان مُتزايد وكذلك تهويد القدس وحصار غزّة. ثم إنّ قضية الاحتلال لفلسطين ليست منفردة، بل هناك الأراضي السورية والأراضي اللبنانية. ولذا لابُدَّ من إشرافٍ دوليٍّ للوصول إلى حلٍ شاملٍ يعيدُ كلَّ الأراضي العربية، ويُنشئُ الدولة الفلسطينية، ويجعل السلامَ في الشرق الأَوسط ممكناً. ما ارتقى الرئيس الفرنسي إلى منزلة المطالبة بمؤتمرٍ دوليٍّ بإشراف الأُمَم المتحدة، كما كان متوقَّعاً منه أو من الروسي الذي كان قد تنافس معه على الفكرة قبل ثلاث سنوات. وما جرؤ الإسرائيليون على رفْض أفكار ساركوزي مع أنها لغير صالحهم، لأنها تدعم الذهاب إلى الجمعية العامة، وتقول بِمُدَدٍ للتفاوُض وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة. ووقف العربُ موقفاً واحداً، حامت فوقه روحية الربيع المدني العربي، ربيع الأفكار الجديدة، والمبادرات الجديدة، والأساليب الجديدة في المقاومة التي لا يُقْصَدُ بها الانقسام ولا اجتراح المحاور والراديكاليات غير المُجْدية. وهو موقفٌ أو روحيةٌ لا تثأر ولا تنسى ولا تُهملُ المراقبة والمحاسبة للنفس قبل الآخَر. وفيما كان العرب يتوجهون إلى مجلس الأمن والجمعية العامة، كان الأتراك يرفعون الصوت ضدَّ إسرائيل ويدعمون الموقف العربي، بينما كان الإيرانيون يطلقون سراح أسيرين أميركيين، ويقيمون مؤتمراً لما سمَّوه بالصحوة الإسلامية في طهران تتكرر فيه أُسطوريات المؤامرة اليهودية والأميركية، وتُمتدحُ فيه ممانعةُ النظام السوري ومقاومته التي ما عُدْنا نعرفُ منها غير قتْله لشعبه الأعزل في الشارع وفي وضح النهار! نقلا عن صحيفة الاتحاد