على الرغم من تلاقي الإرادتين الرسمية والشعبية لأول مرة في مصر على ضرورة فتح صفحة جديدة من العلاقات المصرية الإثيوبية بعد ثورة 25 يناير المجيدة، تمثل في زيارة وفد رسمي إلى إثيوبيا في شهر مايو الماضي برئاسة الدكتور عصام شرف، سبقتها زيارة وفد شعبي كبير برئاسة الدكتور السيد البدوي، قوبلا بحفاوة شديدة هناك، إلا أننا فوجئنا بوزير الري الأسبق وعضو الحزب الوطني المنحل، يخرج علينا بحديث مطول لاحدى الصحف الأسبوعية، يهاجم فيه بشدة رئيس الوزراء الإثيوبي، ويقول فيه بالبنط العريض: زيناوي أخطر على مصر من إسرائيل، فلمصلحة من يقال مثل هذا الكلام؟ وهل يجوز السكوت عليه؟ إن تصريحات الوزير الأسبق ذكرتنا بالمناخ الضبابي الذي أوجدتنا فيه حكومة ما قبل الثورة، والتي انتهجت سياسة إيجاد الأزمات مع إثيوبيا، للضغط عليها بشأن قضية مياه النيل، بدلا من اتباع أسلوب الحوار والتفاهم والتريث وتعقل الأمور، فكانت النتائج عكسية على الدوام، ظهرت بوضوح عندما سخرت تلك الحكومة آلتها الإعلامية، للترويج لاتهام إثيوبيا بمحاولة نقل مياه النيل إلى اسرائيل، رغم علمها بأن ذلك لا يمكن أن يتم إلا عبر الأراضي المصرية، وعندما تدخلت بدون داع في دهاليز المشكلة الصومالية، رغم علمها بالجهود الإثيوبية الحثيثة المبذولة في هذا الملف، وعندما أقحمت نفسها في الشأن الداخلي الإثيوبي لإثارة القلاقل هناك، واتهمت ميليس زيناوي بتزوير الانتخابات التي فاز فيها فوزا ساحقا في مايو 2010، وعندما حاولت تقديم رشاوي سياسية بالتلويح بملف الاستثمار، رغم عدم سيطرتها عليه، وعندما استقبل الرئيس المصري السابق رئيس إريتريا في القاهرة بترحاب شديد في ديسمبر الماضي، رغم علمه بالعداء المستحكم بينه وبين رئيس الوزراء الاثيوبي. والحقيقة التي يجب أن تقال انه رغم تلك الضغوط التي مارستها حكومة النظام السابق على إثيوبيا، والتي أظهرت مصر أمام المجتمع الدولي بمظهر الدولة الأنانية المتسلطة، فقد حاولت إثيوبيا من جانبها أن تبني جسورا من الثقة مع مصر خلال العقود الماضية، دون أي تجاوب معها من النظام السابق، ونسوق هنا بعض الأمثلة على ذلك: وقعت إثيوبيا مع مصر في عام 1993 إطارا للتعاون في جميع المجالات، بما فيها مياه النيل، ثم دخلت في حوار استراتيجي مع مصر أيضا في عام 1998، لمناقشة مواطن الخلاف القائمة، الا أن السياسة المصرية الاستعلائية وقتها، حالت دون إطار التعاون، ودون استكمال الحوار الاستراتيجي. استضافت إثيوبيا في عام 1999، مقر مكتب مشروعات النيل الشرقي، الذي يضمها مع كل من مصر والسودان، واقترحت تنفيذ مشروع مشترك في أراضيها، فائدته المائية 12 مليار م3 سنويا، تقسم بالتساوي بين الدول الثلاث، هو مشروع البارو أكوبو، إلا أن النظام المصري السابق لم يبد الاهتمام الكافي بهذا المشروع المهم، الذي لايزال حبرا على ورق. استضافت إثيوبيا منذ سنوات، وفدا مصريا رسميا وشعبيا وبرلمانيا وإعلاميا، حلقت به المروحيات فوق منابع النيل الإثيوبية، وشاهد السدود المثيرة للجدل على الطبيعة، وتأكد أن جميعها لغرض توليد الكهرباء ولا تؤثر على حصة مصر، ثم استعانت إثيوبيا بعد ذلك بمجموعة من مهندسي وزارة الري المصرية، للعمل في بعض المشروعات هناك، لمدد وصلت إلى عام كامل، وهو دليل على ثقة الإثيوبيين في المصريين، والتي لم تقابل بالمثل. طرح رئيس الوزراء الإثيوبي ميليس زيناوي أفكارا إيجابية عديدة، تتعلق بالاتفاقية الاطارية، والسدود الإثيوبية، ومقترحات للتعاون مع مصر في المرحلة المقبلة، وذلك في حديث مطول أدلى به للتليفزيون المصري في شهر يوليو من العام الماضي، إلا أن أحدا من المسئولين المصريين لم يقم بالتعليق عليه، أو أن يحاول دراسة وتحليل ما جاء به، تحليلا فنيا وسياسيا وقانونيا، تمهيدا للتحاور بشأنه مع الجانب الإثيوبي، وهو تقصير لا يغتفر من الأجهزة المعنية في مصر. أما بخصوص ما أثير خلال الشهور الأخيرة عن عزم إثيوبيا بناء سد النهضة على النيل الأزرق، فهو لغرض توليد الكهرباء، ولم يكن مفاجأة للمسئولين المصريين، لأنه مخطط لإنشائه منذ نحو خمسين عاما، مع مجموعة من السدود الأخرى، اقترحها مكتب استصلاح الأراضي الأمريكي، وتم تأجيل تنفيذه إلى القرن الحالي بسبب تكلفته العالية، والخوف كل الخوف أن نختزل علاقاتنا المائية مع إثيوبيا الآن، في مجرد السعي للحصول على بيانات إضافية عن هذا السد، ونترك الموضوعات الرئيسية العالقة معها، والتي تحتاج الى وضع استراتيجيات وخطط وبرامج، واتخاذ اجراءات عاجلة وأخرى آجلة، وأداء متعدد الاتجاهات، في غياهب النسيان. وقد تكون زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي زيناوي المرتقبة لمصر خلال شهر سبتمبر الحالي، ليترأس وفد اثيوبيا في اجتماعات اللجنة العليا المصرية الإثيوبية المشتركة، فرصة لإعادة بناء جسور الثقة المفقودة بين الدولتين، في العهد الجديد بعد ثورة 25 يناير، على أساس من الشفافية والوضوح والتعاون في جميع المجالات. نقلا عن جريدة الأهرام