عندما أجري الأستاذ الإمام الأكبر الدكتور/ أحمد الطيب حوارًا مع »الأهرام« قبل الثورة، وعقب توليه المشيخة، كتبت مرحبًا بهذا الحوار، وتحدثت عن مرحلة جديدة في تاريخ الأزهر: الجامع والجامعة، والمعاهد الأزهرية، المرجعية والمؤسسة، الشيخ الإمام والدعاة المنتشرون في أرجاء المعمورة. لم ألتق بفضيلة الإمام - لا قبل توليه المشيخة ولا بعدها - رغم أنني التقيت بالأئمة السابقين جميعًا، من عهد الإمام الأكبر الراحل العظيم المغفور له د. عبدالحليم محمود، والذي استضفناه كشباب في طب القصر العيني في منتصف السبعينيات، وأذهلني أنني رافقته للمسجد للصلاة، وكان أخي عبدالمنعم أبو الفتوح - علي غير عادته - يؤم عددًا محدودًا في صلاة الجماعة، فانضممنا دون تردد مع الإمام الراحل لنصلي مأمومين خلف شاب من الشباب. كان تواضعه يذهلنا، كما علمه الغزير، وتصوفه السني النقي، وموسوعيته العلمية المعرفية ، وتعرفت بعده علي أئمة وافقتهم وخالفتهم دون حرج أو تردد، أكبرت الإمام العظيم جاد الحق علي جاد الحق الذي قبلني في المجلس الإسلامي الأعلي للدعوة والإغاثة ممثلاً للجنة الإغاثة الإنسانية بنقابة الأطباء، وكلفني مرارًا مع أستاذي د. محمد عمارة بكتابة معظم بيانات المجلس، ثم اختلفت كثيرًا مع الإمام الشيخ طنطاوي الذي عرفته عن قرب، فقد كان مفتيًا، وصاحبته في ندوات ومؤتمرات، كان رحمه الله حاد الطبع، لا يملك نفسه عند الغضب، وتسبب في مشاكل كثيرة لأسباب سيذكرها التاريخ، فانقطعت صلتي به، خاصة بعد المتابعة الأمنية الشديدة لي، وسجني لسنوات متصلة، وخشية من رزالة أمن الدولة. صلتي بالأزهر قديمة، فقد عشت سنوات صباي في رحابه وبجواره؛ أثناء دراستي في الإعدادية والثانوية بمدرسة الأورمان النموذجية، حيث سكنت مع إخواني من الدارسين بالأزهر في شقتنا المشتركة بحارة الروم في الجوار الأزهري. وكان من قدري أن التحق دارسًا بالأزهر الشريف علي كِبر عام 1994م، عندما أخذ الراحل الكريم الشيخ جاد الحق باقتراح تضمنه تقرير لجنة خاصة في مجلس الشعب عن الإرهاب، وهو فتح باب الدراسة لخريجي الجامعات الأخري للالتحاق بالأزهر، ليتسني لهم فهم الإسلام عن علم وبينة، وللتصدي لخطر التعلم من الكتب دون التتلمذ علي يد الشيوخ الأجِلاّء. ومضت سنوات أربعة حتي صدر القرار الجمهوري بفتح باب الالتحاق، فقررت أن أكون مع زوجتي ضمن أول دفعة من الملتحقين بالأزهر، وتخرجنا والحمد لله، وقد سبقتني في التخرج من كلية أصول الدين بسبب تأخر الامتحانات في السجون، بينما أنهيت دراستي عقب خروجي مباشرة عام 2000م. اليوم يعود الأزهر إلي دوره المأمول، دوره الوطني الذي عرفه المصريون طويلاً، وانتظروه طويلاً، ولم يفقدوا الأمل في استعادته. الأزهر بعد الثورة عاد شيخًا وجامعًا وجامعة، ليملأ الدنيا، ويشكل مرجعية إسلامية لكافة التيارات الدعوية، ومرجعية وطنية لكل التيارات السياسية، ومرجعية ثقافية لكل التيارات الفكرية، ومرجعية عالمية للدنيا بأسرها، يصدر في ذلك كله عن إسلامنا العظيم الشامل لكل جوانب الحياة، الدعوة العالمية لكل البشر، الدين الخاتم الذي يعترف بكل الرسالات السابقة، ويحفظ لأهلها حقوقهم الدينية والإنسانية والوطنية. الأزهر اليوم يعود موئلاً للجميع يثوبون إليه، يتفاهمون في رحابه، ويتناقشون بحرية حول ضوابط الحياة الوطنية؛ بما فيهم المفكرون المسيحيون. الأزهر ليس كغيره من المؤسسات الدينية، والإسلام ليس كغيره من الأديان الأخري، وشيخ الأزهر ليس كغيره من القادة الدينيين، الأزهر هو الجامع والجامعة، هو رمز الوسطية والاعتدال، هو آلاف الوعَّاظ الذين يصدعون بالحق في وجه الطغيان علي مر الزمان، هو الذي احتضن ثورة مصر ضد الحملة الفرنسية، وقادها حتي دخلت خيول نابليون الأزهر. الأزهر ليس كغيره، لأن الحوار داخل الأزهر حر طليق، وليس فيه طبقية كهنوتية، بل قد يسبق التلميذ والمريد شيخه - مع احترامه له- ولقد خالف فيه الأصحاب أئمة المذاهب علي مدار التاريخ. الأزهر هو رمز الوسطية والاعتدال في الفكر الإسلامي، وسط غيوم التشدد والغلو والانغلاق. الوسطية والتسامح وتحرير العقل، والجمع بين النقل والعقل. عندما غاب الأزهر -أو غُيِّب- ظهرت جهود أخري لملء الفراغ من الخارج والداخل، فانتشر في مصر والعالم الإسلامي فكر لا يتصالح مع الحياة، ولا يتسامح مع المختلفين، ولا يعترف بالتنوع في الآراء والاجتهادات، فتم تسليط الأضواء علي تلك المفاهيم المغلوطة، لتصبح هي صورة الإسلام في العالم، وارتبطت بالعنف والإكراه المادي واللفظي والمعنوي، حتي كره البعض الدعوة والدعاة، واليوم يعود الأزهر ليبدأ رحلة شاقة لإزالة التشوهات عن صورة الإسلام. الإسلام ليس كغيره من الأديان، فالإسلام دين ودنيا، يضع القواعد العامة للحكم الرشيد، وينظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم علي أساس العدل والرحمة، واحترام الكرامة الإنسانية، وضمان الحريات العامة، وإقامة الشريعة كنظام للحياة، وينظم تفاصيل حياة الفرد قبل الولادة إلي بعد الممات، وحياة الأسرة في كل جوانبها، ويرسم للمجتمعات أصول الاجتماع البشري وضوابطه. وشيخ الأزهر لا يملك سلطة دينية علي أحد، وليس له حق الحرمان أو الحِل، وليس في مكانة مقدسة بحيث لا يملك أحد حق اعتراضه ومخالفته، وليس محلاً ولا موطنًا للبركة، لا يأت باختيار شبه إلهي في قرعة هيكلية، بل نريد اليوم أن يأتي بانتخاب من هيئة كبار العلماء كما كان وسيكون بإذن الله. لقد أصدر شيخ الأزهر بعد لقاءات وحوارات مع نخبة من المثقفين المتخوفين من الإسلام واليساريين وثيقة رَحَّبَ بها الجميع، وحازت القبول العام، وقليل مع الاعتراضات، لأنها جاءت في مناخ متوتر أراد فيه البعض أن يتهم الإسلام نفسه، وليس هذا مجال مناقشة تفاصيل الوثيقة ومضمونها لأن الاتفاق والاختلاف حق مشروع للجميع، ولكن الأهم هو المغزي والمعني لصدور تلك الوثيقة في هذا التوقيت. المغزي والمعني هو أن الأزهر حاضر بقوة في مشهد مصر بعد الثورة. الأزهر هو المرجعية الوطنية العامة التي يلتقي عندها الجميع، رغم خلافاتهم السياسية والفكرية والدينية. الأزهر استعاد بعضًا من المكانة المطلوبة لاستعادة الدور المنشود، وأصبح قوة مؤثرة، فهو فوق الخلافات السياسية، والنزاعات الفكرية، والتوترات الاجتماعية. تمني علي الشيخ الجليل، الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، أن يعرض الوثيقة علي اجتماع خاص لمجمع البحوث الإسلامية لتحظي بمناقشة أوسع، وتأييد أشمل مع كبار العلماء الأجلاء، وليتم دعمها بأكبر قدر من التأصيل الفقهي الشرعي. لقد جاءت المحاور الأحد عشر، التي رسَّخت مفهوم الدولة الوطنية الدستورية الديمقراطية الحديثة، وتأكيد توافق الإسلام مع الديمقراطية، والالتزام بمنظومة الحريات الأساسية، والاحترام التام لآداب الاختلاف وأخلاقيات الحوار، وتأكيد الالتزام بالمواثيق والقرارات الدولية، وأهمية التعليم والبحث العلمي، وإعمال فقه الأولويات في تحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية، واستقلال الأزهر، واعتباره جهة الاختصاص في شئون الإسلام وعلومه وتراثه. كل هذه المحاور لم تكن جديدة، بل هي تأكيد علي ما طرحه العلماء الثقات من قبل. ولقد كتب الشيخ القرضاوي في سفره الأخير »فقه الجهاد« في مجلدين كبيرين - 1400 صفحة ذ بحثًا إضافيًا عن قضية المواثيق والاتفاقات الدولية - خاصة الأمم المتحدة - ويرد علي بعض من يريد انعزال العالم الإسلامي عن بقية العالم، ويتبني رؤية شاذة تُعلن الحرب علي العالم كله، وترفض مبدأ السلم الدولي، والتعاون لمنع الحروب. مرحبًا بالأزهر العظيم، وبدوره الوطني في كل القضايا، مترفعًا عن الانهماك في الحياة الحزبية، أو الانحياز الحزبي، مرجعية وطنية وفكرية وحضارية تحتضن الجميع، مسلمين ومسيحيين، إسلاميين ويساريين، ليبراليين واشتراكيين، ليدور الحوار الحر الصريح في رحاب الأزهر، وفي ضيافة مجمع البحوث الإسلامية، برئاسة شيخ الأزهر الإمام الأكبر الشيخ الزاهد أحمد الطيب. نقلا عن صحيفة الاخبار