الاهرام31/12/07 مأساة باكستان الكبري والفريدة, أنها جمعت, فأوعت كل موبقات السياسة والمجتمع في العالم الثالث, بأعلي نسبة من التركيز, وبأكبر قدر من الاستمرارية, إنها بلغة علماء الاجتماع النمط المثالي أو النموذجي لكل المساوئ المنتشرة بنسب متفاوتة زمانا ومكانا في ذلك العالم المتخلف. باكستان لم تهتد سبيلا ولو لمدة شهر واحد في تاريخها الحافل إلي صيغة متفق عليها للعلاقة بين الدين والسياسة, وهي هنا قضية أكثر إلحاحا وتأثيرا بحكم أن الدين هو أساس نشأة الدولة. من التطورات التي فشل الباكستانيون في استخلاص دروسها, استمرار وجود عدد من المسلمين في الدولة الأم الهند يفوق سكان باكستان نفسها, وقد انخرط مسلمو الهند في حياة سياسية ديمقراطية مع بقية المواطنين, وهي عملية ناجحة مهما يعترضها من عقبات, ومن تلك التطورات انقسام دولة باكستان الأصلية, بعد حرب مشهودة بين مسلمي البنغال, ومسلمي السند والبنجاب. ومما يستحق المقارنة في هذا السياق أن إسرائيل نشأت كدولة دينية قبل بضعة أشهر من قيام باكستان, ولكنها استطاعت من اللحظة الأولي وضع إطار ناجح للعلاقة بين الدين والسياسة, بحيث تدار الصراعات, أو توضع التسويات بالوسائل الديمقراطية. باكستان أيضا لم تنجح طوال تاريخها في إنهاء أو الحد من هيمنة الجيش علي الحياة السياسية, سواء بالحكم المباشر, أو بالتدخل اليومي في مجريات السياسة, غير أن أكثر ما يتميز به هذا الجانب في الدولة الباكستانية هو ذلك التوازن غير الصحي بين الجيش والمجتمع, وهو توازن غير صحي بمعني أن المجتمع ليس قادرا علي ردع الجيش عن التدخل العنيف أو السلمي في السياسة, كما أن المجتمع أقوي من أن يخضع للحكم العسكري المباشر أو غير المباشر فترة من الوقت تكفي للتحول إلي حكم مدني ديمقراطي مستقر, ولذا تعيش البلاد منذ قيامها مترنحة ما بين الجنرالات والخانات من ناحية, وما بين كبار ملاك الأراضي, وشيوخ المساجد والقبائل, والتجار ورجال الأعمال من الناحية الأخري. إن المقام والمساحة لا يسمحان بتفصيل كل المشكلات التي قلنا إنها باكستان تقدم فيها نموذجا مركزا للعالم الثالث, ولذا نستعرض ما تبقي منها كرءوس موضوعات, فهناك إلي جانب مشكلتي العلاقة بين الدين والسياسة وبين الجيش والسياسة, مشكلة عدم اكتمال الاندماج الوطني أو القومي, فالصراعات الإقليمية حادة ما بين السند, والبنجاب, وبلوشستان... إلخ, والصراعات الطائفية والقبلية لا تقل حدة, كما أن التفاوت رهيب في مستويات التطور الثقافي والاجتماعي بين فئات الشعب, فهناك خريجو إكسفورد وهارفارد, وعلماء الذرة, وهناك من يعيشون في غيابات الجهل والخرافة, ثم إن الفساد السياسي والإداري ينتشران في كل مكان في البلاد, وفي كل ركن من أركان الحكومة والمجتمع, في وقت لا تزال البلاد تنتمي فيه إلي صفوف الدول الفقيرة المتخلفة اقتصاديا بكل المعايير, ثم إن الأمن القومي في حالة انكشاف دائم بسبب عدم الوصول إلي تسويات سياسية للأزمات المزمنة والمستحكمة مع الهند, رغم الهزائم العسكرية المتوالية, وقد أضيف إلي ذلك أخيرا انفتاح البلد علي مصراعيها بوصفها إحدي الجبهات المتقدمة للحرب الأمريكية علي الإرهاب الدولي الموصوف بالإسلا مي الأصولي; بكل ما ينذر به هذا الوضع من احتمالات مشئومة لا يستبعد منها الحرب الأهلية, والاحتلال الأمريكي لتأمين الترسانة النووية من الوقوع في أيدي المنظمات المتطرفة علي الأقل. كذلك فإن من أهم المشكلات التي تتفاعل دائما بالسلب مع المشكلات السابقة ذلك القدر الهائل والمسلم به من الجيمع من النفوذ الأمريكي في شئون باكستان, وهذا النفوذ ليس وليد الحرب الأمريكية ضد الإرهاب, ولا جاء به الرئيس الجنرال برويز مشرف, ولكنه جاء مع ميلاد باكستان بسبب الحرب الباردة, ولا خلاف علي أن كل سياسي باكستاني حاول الخروج من المصيدة الأمريكية كان مصيره الإطاحة به أو حتي بحياته كما حدث منذ سنوات طويلة مع ذو الفقار علي بوتو , وكما حدث منذ عدة سنوات مع برويز مشرف فالأول استعصي علي الضغوط لوقف البرنامج النووي وانفتح علي الاتحاد السوفيتي واتجه للتسوية مع الهند وكان من قبل منفتحا علي الصين, أما الثاني فقد استعصي علي الضغوط لعدم إجراء التجربة النووية الباكستانية, وبطبيعة الحال فإن هذا النفوذ الأمريكي الشرس يواجه بمقاومة لا تقل عنه شراسة لأسباب دينية ووطنية, وهو ما يتجلي في التمرد المفتوح في مناطق الحدود والجبال علي الرئيس مشرف وجيشه, وما يتجلي أيضا في اغتيال السيدة بينظير بوتو التي عادت إلي باكستان بتفاهم مع الولاياتالمتحدة, هو الذي أدي إلي التفاهم بينها وبين الرئيس مشرف, ومع إعل ان دون مواربة من جانبها عزمها علي خوض حرب لا هوادة فيها ضد المتطرفين الدينيين, وكذلك عزمها علي الذهاب إلي أبعد مدي في التحالف مع الأمريكيين للقضاء علي التطرف والمتطرفين. وسط هذه البيئة السياسية المنتجة للأعاصير والبراكين تميزت النخبة المؤسسة لباكستان, ومن جاءوا بعدها بالعجز المطلق عن تطوير وعي وآليات تتجاوز هذا الواقع المريض, وتدفعه في اتجاه التطورالسلمي بسبب رئيسي هو اعتقاد كل طرف من أطراف اللعبة السياسية في البلاد قدرته علي نفي الأطراف الأخري أو تهميشها, وهو ما لم يتحقق في أية مرحلة من مراحل التاريخ الباكستاني, دون أن يتلعم اللاحقون من السابقين, بمن فيهم أكثر الزعامات سياسية اقترابا من الحداثة, وكان هذا الانقسام الدائم هو الذي يوفر الذريعة من ناحية, والمساندة المدنية من الناحية الأخري لكل انقلاب عسكري.. في مراحله الأولي علي الأقل, ولا يعني ذلك براءة الجنرالات من الدوافع الشخصية والمؤسسية للتدخل غير المشروع في الحياة السياسية إلي حد الغدر والخيانة مثلما فعل ضياء الحق مع بوتو الأب الذي جاء به إلي رئاسة الأركان ليقطع الطريق علي محاولة إقامة علاقات طبيعية مع الهند طبقا لاتفاق سيملا, وهو ما كان سينزع من الجيش الباكستاني الجزء الأكبر من أسباب هيمنته علي الدولة كحافظ لوجودها في مواجهة رغبة الهند في استعادتها!!! ومثلما فعل الرئيس الحالي برويز مشرف مع رئيس الوزراء نواز شريف الذي كان يعتبر إقالته لرئيس الأركان السابق علي مشرف والإتيان بمشرف مفخرة سياسية وإيذانا بترويض المؤسسة العسكرية لإرادة السياسة. من الواضح الآن أن الحرب ضد الإرهاب والتطرف لن تنجح بالمواجهة العسكرية وحدها, ولابد من بناء أسس للاستقرار الديمقراطي والتقدم الاقتصادي, كما أن وجود الترسانة النووية الباكستانية يفرض علي الجميع السعي بكل السبل لضمان وجود سلطة شرعية مستقرة, لكل ذلك فليس أمام النخبة الباكستانية كثير من الوقت للشروع في عمل جاد ومستمر للخروج من تلك الدائرة الخبيثة, والخطوة الأولي في نظرنا يجب أن تكون ائتلاف حزبي الشعب والرابطة الإسلامية حول ميثاق وطني يحظر التعاون مع أي انقلاب عسكري, مع فتح هذا الائتلاف للجماعات الإسلامية النابذة للعنف والإرهاب, التي تقبل بحكم صناديق الاقتراع. المزيد فى أقلام وآراء