رغم المأساة الكبرى والخسارة الفادحة لامرأة استثنائية في عالم السياسة المضطرب اليوم، فإن الإعلام لم يسأل الأسئلة الجوهرية المعمقّة التي أدت إلى هذه الخسارة، ولم ترَ الولاياتالمتحدة حاجة للجنة تحقيق دولية، مع أن عودتها كانت نتيجة تشاور وتنسيق دقيقين مع الإدارة الأمريكية، التي كان آخرها اتصال وزيرة الخارجية كونداليزا رايس بالسيدة بوتو قبل أسبوع من عودتها إلى باكستان. ولست هنا بصدد الإسهام بالآراء حول هوية القاتل، ولكن إذا افترضنا حسن النيّة لدى الولاياتالمتحدةالأمريكية، فإن أقل ما يُقالُ في هذا الشأن هو أن الإدارة الأمريكية تجهل ديناميات العمل السياسي في باكستان، وواقع الحال في الشارع الباكستاني، وإن يكن من المعروف أن سياسات الولاياتالمتحدة في المنطقة قد أسهمت بإيصال باكستان إلى ما وصلت إليه اليوم من اضطرابات وصعوبة في سيادة الأمن والاستقرار والهدوء. من الناحية المنطقية، ليس هذا بغريب، إذ كيف يمكن لمن يعتمد على معطيات مراكز أبحاث في غرف مغلقة، وعلى باحثين تتملكهم دوافع سياسية وأيديولوجية مختلفة، أن يفهم مجتمعاً وثقافة لا علاقة له بها؟ بالطبع ليس بالضرورة أن تكون الدولة الأقوى عسكرياً واقتصادياً في العالم، هي الدولة التي تمتلك الفهم الأعمق والأدق لحالات الشعوب، وثقافتها، وتفاعلاتها المجتمعية، والحضارية، والفكرية. في اختلال هذه المعادلة، يكمن جذر العديد من المآسي الدموية التي تعيشها شعوب العراق، وفلسطين، والصومال، ولبنان، وأفغانستان، وباكستان، ومؤخراً وليس آخراً شعب كينيا. إذ أن الدولة الأقوى في العالم عسكرياً، تستخدم هذه القوة العسكرية لدعم «حلفاء» لها ضدّ كل معطيات الواقع الذي يعيشون ضمنه، وسواء كان هذا الدعم نابعاً من أطماع في النفط، أو الغاز، أو الموقع الجغرافي، أو لدعم إسرائيل على حساب الوجود العربي، فهو، بشكل متعمّد، يتجاهل واقع الشعوب، وتقاليدها، وتكوينها العرقي، أو الديني، أو القبلي، والنتيجة مآس، وخراب، وحروب، واضطراب دموي، تعاني منها هذه الشعوب، وفشل سياسي من الجانب الأمريكي، لا يقلّ عن فشل الأنظمة الشمولية الأخرى، التي حاولت فرض قيمها ونمط أنظمتها على الشعوب الأخرى.
والمشكلة أن القوى الامبراطورية الكبرى كالولاياتالمتحدة، التي لم تنفض عن نفسها الشعور بأنها الأقوى، وبالتالي فهي الأكثر تفوّقاً وتحضرّاً، ولذلك يحق لها ان تتعامل مع «أصدقائها» بفوقية السيد تجاه تابعه، وإلا كيف يمكن لوزير خارجية بريطانيا دافيد ميليبان مثلاً أن يقول لرئيس وزراء باكستان شوكت عزيز«ما الأعمال التي نتوقع من حكومته أن تقوم بها»؟ وهناك أمثلة لا تحصى على مثل هذه المعاملة من قبل دول أوروبية وأمريكا لدول أخرى في آسيا وإفريقيا. والذريعة التي يخجل الكثيرون من التصدّي لها، هي أن هذه البلدان الغربية، التي تنعم بالديمقراطية، تحاول أن تنشر الصبغة الغربية من الديمقراطية في البلدان التي لم تتمكن من التوصل إليها، وبهذه الذريعة، التي اقترنت بذريعة الحرب على الإرهاب، تمّ غزو واحتلال أفغانستان، والعراق، وتوجيه ضربات قاسية إلى كيان الصومال، واستمرار تهديد أمن واستقرار شعب السودان، والتدخل بشؤون لبنان إلى حدّ شنّ حرب وحشية على المدنيين بأيد إسرائيلية، وأخيراً تخريب النسيج الاجتماعي في كينيا. أوَ لم تثبت مسار الأحداث في جميع البلدان، التي دفعت شعوبها من دم أبنائها واستقرارها ثمناً غالياً لسياسات واشنطن، أن هذه الصيغة من الديمقراطية الغربية، القائمة على حكم الأكثرية السياسية، غير قابلة للتطبيق في العديد من بلدان آسيا، وإفريقيا، وحتى أوروبا الشرقية، لسبب بسيط يعود إلى تاريخ مختلف لتكوين هذه الشعوب، وحضارة مختلفة من القيم والتقاليد، وتركيبات سكانية واجتماعية تتميز بالتنوع العرقي، أو الديني، أو المذهبي، أو القبلي، أو كلّها معاً، وبالتالي هناك أولويات مختلفة تماماً. ففي الوقت الذي يصرّ فيه بوش على أن الديمقراطية هي الأولوية الأولى على سلم وأمن واستقرار وازدهار الشعوب، تبين تجربة روسيا والصين أن الاستقرار والازدهار يشكلاّن الأولوية الآن بالنسبة لشعوبهما، وهما الطريق السلمي إلى الديمقراطية، ذات الصيغة الملائمة لقيم وتكوين واستقرار شعوبهما. من اجل نشر الشيوعية، وفرض أساليبها السياسية والاقتصادية، قتل ستالين الملايين في الغولاك، فيما يقتل بوش مثله، ولكن من أجل الديمقراطية، الملايين في العراق، وفلسطين، ولبنان، والصومال، وأفغانستان، وباكستان..الخ، بالإضافة إلى تهجير ملايين أخرى، ويتسبب في فقدان الأمن والحياة الكريمة لمعظم هذه الشعوب، من أجل فرض هذه الصيغة من الديمقراطية التي تناسب مجتمعاً متجانساً أثنياً، ودينياً، ومذهبياً.
إن حقيقة هذه المعضلة، هي أنّ الغرب الأوروبي، الذي أمضى قروناً في حروب دينية وطائفية، شكلّت نوعاً من التطهير العرقي والديني في بلدانها، بحيث تشكلّت الدولة ذات القومية الغالبة، والدين السائد، والمذهب الواحد، فتمّ بناء الديمقراطية على أساس تنافس أحزاب سياسية متماثلة قومياً، ودينياً، ومذهبياً، فيما تبقى الدول العربية، والآسيوية، والإفريقية، التي كانت عبر التاريخ مزيجاً من أبناء الديانات والمذاهب المتعددة المتعايشة، والأعراق المختلفة أنموذجاً مختلفاً من كيانات الدول المتعددة الأعراق، والقوميات، والأديان، والمذاهب، والقبائل، ولذلك فهي بحاجة إلى صيغة من الديمقراطية تتناسب وقيمها، وتاريخها، وأعرافها، وتقاليدها، وثقافاتها، وبالتالي صيغة تحفظ هذا التعايش بين فئاتها المتعددة. وبالأساس، فإن القوى الغربية، عندما خطّت حدود الدول، أهملت هذه التمايزات بطريقة مثيرة للقلاقل والفتن والاضطرابات، وتحاول هذه القوى اليوم، مرة أخرى بعقليتها الشمولية تجاه الشعوب الأخرى، فرض هذه الصيغة من الديمقراطية في بلدان تختلف تماماً عن كيانات الدول الغربية، ولها أولوياتها، وتطلعاتها، وأسلوبها المختلف. إن الافتراض بأن الخبرة الغربية في السياسة والاجتماع صالحة لكلّ زمان ومكان، هي نظرة شمولية تنمّ عن مشاعر التفوق العنصرية، التي ما زالت سائدة في السياسة الغربية. كما أن الافتراض بأن التحضّر يعني تقليد الغرب بكل سلوكه، هي نظرة عنصرية بحدّ ذاتها، تقلّل من شأن خبرات وتجارب وثقافات الشعوب في بلدانها المختلفة.
ينطلق هذا التحليل من حسن نيّة تجاه سياسات القوى الغربية، التي تتدخل اليوم بشؤون شعوب آسيا وإفريقيا تحت مسميّات وذرائع مختلفة، ولا يخفى على أحد أنّ الأمر ليس بهذه البراءة، وأنّ الأطماع بمواقع هذه البلدان وثرواتها، تشكّل حافزاً مهماً لدى البلدان التي ما زالت العقلية الاستعمارية تتحكم بسياسات حكوماتها للتدخل بشؤون البلدان الصغرى، وإملاء سياساتها عليها. ولكن الخطير في الأمر هو أنّ هذه التدخلات تصبّ غالباً- إذا لم نقل دائماً- في مصلحة القوى الهامشية المحليّة، التي تستقوي بالحكومات الغربية وجيوشها على شعوبها، التي لا يهمّها سوى المصالح الضيقة للحكام.
وبنظرة سريعة، نستطيع أن نرى أن عائلة غاندي الوطنية في الهند، قد أبيدت إبادة كاملة، كما أبيدت عائلة بوتو في باكستان، ومقابل هذين المثالين الصارخين، هناك آلاف الأصوات الوطنية الحرّة، التي يتمّ إسكاتها كلّ يوم، كي تعتلي أصوات بعض الانتهازيين لصالح التبعية لقوى خارجية لا تمثل مصالح البلاد. إن ما تميز به عام 2007 هو أنه أظهر إلى النور بعضاً من الثمن الذي تضطر القوى الغربية لدفعه من أجل الحفاظ على تبعية حكومات بلدان بعيدة عنها جغرافياً، ومختلفة عنها ثقافياً، عبر الاحتلال والاستيطان، كما هو الحال في فلسطين.
ربما يشكّل العام 2008 بداية الشعور الحقيقي بأنّ هذا المسار الاستعماري العنصري غير قابل للاستمرار، وأنّ الشعوب سوف تعمل من أجل استعادة حريّتها، وكرامتها، وقيمها، وهويتها مهما طال الزمن، ومهما ارتفع الثمن. وربما تكون الانتخابات التمهيدية، التي أجريت في إياوا، بداية إدراك الشعب الأمريكي نفسه، بأن مصلحته الوطنية في خطر، لأن بعض المستفيدين يقودون السياسة الأمريكية الخارجية إلى مواقع تلحق بالغ الضرر بسمعة الولاياتالمتحدة ومكانتها، ومصالحها على مستوى العالم. هل يمكن لشعوبنا التي أغرقها التفوق الغربي بحروب دموية لا تنتهي، أن تفتح نوافذ البيت الأبيض ليسمحوا لنسمة من الحقائق أن تهبّ على الأوراق الرطبة، التي تستقي نظرياتها من جذور الهيمنة والاستعلاء والربح الماديّ؟ ولكن ربما على الشعوب المثخنة بجراح سياسات بوش الديمقراطية في أفغانستان، والعراق، وفلسطين، ولبنان، والصومال، وكينيا، والسودان، أن تقود المسيرة نحو الاستقلال الحقيقي والديمقراطية، النابعة من الحرص على الأمن، والاستقرار، والكرامة، والمستوى اللائق للعيش، وليس الديمقراطية التي تنشر الفتنة بين أبناء البلد الواحد، وتحوّلهم إلى قتلى، أو مهجّرين، أو معاقين، أو متسولين أذلاء للمساعدات الدولية.
إن نقطة التحّول المرتجاة في هذا العام، هي أن تكون كرامة الإنسان، وحقوقه، وأمنه، واستقراره، هي المعيار الحقيقي للتحوّل نحو الديمقراطية، التي تضمن التعايش، والازدهار، والحريّة، وليست الديمقراطية التي تنشر نيران الحروب الأهلية. إنه لغرور لا مثيل له، أن يفترض أحد في الغرب أنه يستطيع أن يوجّه مسار الشعوب من خلال خطّ هاتفي يصل إلى مسامع من اعتاد أن يتلقى الأوامر دون احترام لواقع شعبه، وطموحاته، وحلمه بالمستقبل الأفضل، وإنه لمن أول واجبات الحكومات الديمقراطية، هو أن تدع الآخرين يصيغون ديمقراطيتهم المناسبة لهم بعيداً عن تدخلاتها المغرضة حيناً، والجاهلة حيناً آخر.